مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 03/09/2010

ليلة القدر وسياسة الإنفاق والزكاة

‏‏‏‏الجمعة‏، 24‏ رمضان‏، 1431 الموافق ‏03‏/09‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


هما أمران اثنان ينبغي أن أذكر نفسي وأذكركم جميعاً بهما.


أما الأمر فهو ما تعلمون من أننا نعيش أفضل أيام هذا الشهر، تلك الأيام والليالي التي أكد المصطفى صلى الله عليه وسلم  أن فيها ليلة هي خير من ألف شهر كما قال الله سبحانه وتعالى، ولعلكم تعلمون أو سمعتم أن الإمام أحمد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  أنه قال: )التمسوا ليلة القدر في ليالي الواحد والعشرين وثالث وعشرين وخامس وعشرين وسابع وعشرين وتاسع وعشرين من هذا الشهر المبارك[


وهذا يعني أن ليلة القدر ليست محصورة كما يتوهم كثير من الناس في ليلة السابع والعشرين من هذا الشهر المبارك.


الشيء الذي أريد أن الفت نظركم إليه هو أن في الناس من يتسلون بالجدل حول هذه الليلة – ليلة القدر – بدلاً من أن ينتهزوا الفرصة التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. تنظر إلى أحدهم وقد ألقى في جلسته ركبة على أخرى وراح يناقش قائلاً: كيف تكون هنالك ليلة بحد ذاتها هي ليلة القدر وهي خير من ألف شهر في حين أن الليالي والأيام تتوازعُ الكرةَ الأرضية في تبادل مستمر؟ هكذا يقول وهو يظن أنه بهذا الكلام قد نسف بيان الله عز وجل وزلزل عقائد المؤمنين في قلوبهم والواقع – أيها الإخوة – أن هذه جهالة طامَّة وينبغي أن ألفت النظر إلى البديهة التي ينبغي ألا تغيب عن بال أي عاقل فضلاً عن عالم.


إن فضيلة ليلة القدر لا تكمن في جوهر الزمان نهائياً فالأزمنة كلها في جوهرها واحدة، الأزمنة التي تتمثل في حركة الفلك لا فرق بين زمان وزمان فيها قط وإنما تكمن أهمية هذه الليلة أو فضيلة هذه الليلة في تجليات الله سبحانه وتعالى على عباده فيها بالرحمة والصفح والمغفرة واستجابة الدعاء، يتجلى الله عز وجل فيها على عباده جميعاً الطائعين والعاصين كلهم بشرط واحد هو أن يلتفت الإنسان إلى الله في هذه الليلة وأن يُقْبِلَ إليه كما يُقْبِلُ الله سبحانه وتعالى إليه بالرحمة والصفح والمغفرة واستجابة الدعاء.


إذاً فسر ليلة القدر ليس كامناً في زمنٍ معين حتى يرد هذا الإشكال وإنما السر كامن في الرحمة الإلهية المتنزلة من السماء.


فلو فرضنا أن ليلة القدر تكمن في الليلة الحادية والعشرين من هذا الشهر فإن الله يتجلى على عباده في الليلة الحادية والعشرين هنا ويتجلى على عباده في الليلة الحادية والعشرين في أمريكا ويتجلى على عباده في الليلة الحادية والعشرين في أوروبا وهكذا. فهذا هو الأمر الأول الذي ينبغي أن نتبينه. ولو أن الإنسان وقف أمام هويته، وقف أمام مرآة ذاته وتذكر أنه عبد مملوك لله عز وجل لما سخر ببيان يؤكده الله عز وجل وأفرد لذلك سورة برأسها. )إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ[ [القدر: 1-3]


لكنه العتو والاستكبار على الله عز وجل يجعل أحدهم يجلس ليزجي الوقت وليتسلى بالجدل بدلاً من أن يعود فيدرس ويتعلم ما قد بيَّنَهُ الله عز وجل لنا في محكم تبيانه وما قد ذكره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  في أحاديثه.


وأما الأمر الثاني فهو ما ينبغي أن أعود فأذكركم به مرة أخرى. على الموسرين والأغنياء الذين متعهم الله بالمزيد والمزيد من المال أن يعلموا أنهم لا يملكون شيئاً من هذا المال الذي وضعه الله عز وجل تحت أيديهم، عليهم أن يعلموا الحقيقة التالية يا عباد الله.


هذا المال الذي وضعه الله عز وجل كثيراً وفيراً تحت يد فلانٍ من الناس الأغنياء قسمان اثنان.


أما القسم الأول منه فأعطاه الله عز وجل إياه ليمتع به نفسه وأهله وأسرته وذويه وليحقق بواسطة ذلك لنفسه ولأسرته المعيشة والحياة الرخية.


وأما القسم الثاني فهو وديعة، واسمعوا ما أقول لكم يا عباد الله: وديعة استودعه الله سبحانه وتعالى لديه لأناس آخرين، ائتمنه على هذا المال ليؤديه إليهم، من هم الذين استودع الله هذا المال عنده لصالحهم؟ إنهم من يُسَمَّوْنَ الفقراء وأنا أقول من يُسَمَّوْنَ الفقراء ولا أقول الفقراء لأن الأغنياء الذين نسوا هذه العهدة التي وضعها الله عز وجل بين أيديهم هم الذين جعلوا هذا الصنف الثاني يُسَمَّوْنَ فقراء، ولو أنهم أعادوا الحق إلى أصحابه إذاً لرأينا أن الجميع يعيشون في ظل الرخاء والكفاية.


أرأيتم إلى رجل نزل ضيفاً عند ثريٍّ كبير ولما أراد الضيف أن يرحل أعطاه بُلْغَةً كبيرة من المال قال هذا لك وهذا القسم الثاني تعطيه إذا ذهبت إلى بلدك لفلان وفلانٍ وفلان، إنها وديعة أُحَمِّلُكَ الائتمان بها وإعطاءها لأصحابها. كذلكم هؤلاء الأغنياء الموسرون الذين يخيل إليهم أنهم يملكون المال لا يملكون شيئاً، قسم منه متعهم الله عز وجل به متعةً لأنفسهم وذويهم وقسم استودعه الله عز وجل لديهم لِمُلاَّكِهِ، لأصحابه وهم من يُسَمَّوْن الفقراء. ألا فليعلم هؤلاء الموسرون ألا وليُذَكَّرُوا إن لم يكونوا يتذكرون أن مزارعهم التي يتقلبون فيها لهؤلاء الفقراء شركة فيها، ليعلموا أن بيوتهم التي يتمتعون فيها للفقراء شركة في هذه البيوت التي يسكنون فيها، لا أقول السيارة بل السيارات التي تجثم في كل مساء حول الدار ليعلموا أن لهؤلاء الفقراء شركة حقيقية فيها.


كيف، قد يقول قائل: وهل في سيارة يملكها صاحبها لاستعماله الشخصي زكاة؟ وهل على الدار التي أسكنها زكاة؟ نعم لا زكاة فيها ولكن اسمع: إن الملايين التي اشتريت بها المزرعة والتي اشتريت بها الدار الفارهة والتي اشتريت بها السيارات الفارهة المتنوعة هذه الملايين التي اشتريت بها هذا كله إنما هو صنفان اثنان كما قلت لكم؛ صنف متعك الله عز وجل به لتعود به رخاءً إلى نفسك وإلى أسرتك وصنف ائتمنك الله عليه هو النسبة التي تعرفون اثنين ونصف في المئة من هذه الملايين الكثيرة ولكنك لم تعد بهذه النسبة إلى أربابها، لم تُسَلِّمْ الوديعة إلى أصحابها فأصبح كل شيءٍ تشتريه بهذا المال شركة بينك وبين هؤلاء الفقراء.


ولتعلموا – يا عباد الله – أن الفقهاء اتفقوا على أن الإنسان الذي تعلَّقَ بماله حقٌّ للفقراء ثم أراد أن يبيعه قبل أن يعطي لأصحاب الحق حقهم لا يصح البيع في هذا الجزء الذي لا يملكه، البيع لا يصح في هذا الجزء الذي لا يتمتع به، حقيقة ينبغي أن تعلموها، قانون بل قاعدة فقهية لا إشكال فيها ولا ريب، ولقد ذكَّرْتُكُمْ من قبل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم  القائل: )إن الله جعل في أموال الأغنياء بالقدر الذي يسع فقراءهم وإن الفقراء إذا جَهِدُوا فعروا أو جاعوا إنما يكون ذلك بما يفعل أغنياؤهم وإن الله محاسبهم فمعاقبهم على ذلك عقاباً كبيراً[.


قولوا لهؤلاء الموسرين وما أظن أنهم يوجَدون في أمثال هذه المجالس لأن أعباء الدنيا أثقلتهم عن التحرك والمجيء إلى هذه الأماكن وأمثالها للرجوع إلى حقيقة العبودية القائمة في كياناتهم لله عز وجل، قولوا لهم المال ليس مالكم، المال مال الله، ألا تقرؤون القرآن،  )وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ[  [النور: 33]


المال مال الله لكن الله عز وجل كرماً منه وإحساناً متعك بجزء كبير منه وقال عد به إلى أهلك ونفسك وأسرتك، أما الجزء الآخر قال له هذه وديعة، إنها وديعة أَعِدْ هذه الوديعة إلى أصحابها، نحن نقول هؤلاء فقراء ومساكين، من أين التصقت بهم هذه التسمية؟ منا نحن لما حبسنا هذه الوديعة في جيوبنا وصناديقنا ولم نعدها إلى أصحابها نظرنا إليهم فوجدناهم أصبحوا فقراء، من الذي جعلهم فقراء؟ نعم الله عز وجل هو مسبب الأسباب ولكني لما حبستُ الوديعة عن أصحابها ولما حبسها الثاني والثالث والرابع تحقق الفقر عند هؤلاء وغداً يأتي يوم الحساب.


عباد الله: كم وكم أتمنى أن تستيقظ الإنسانية بين جوانح هؤلاء الموسرين الذين كلما ازدادت نعمة الله عز وجل عليهم ازدادت قلوبهم قسوة. يا عجباً أتمنى لو أن إنسانيتهم تحركت فاستيقظت فساقتهم إلى بيوتٍ في ضواحي هذه المدينة مدينتكم مدينة دمشق، دخلوا إلى هذه الكهوف، دخلوا إلى هذه المغاور، دخلوا إلى أماكن هي بالقبور أشبه منها بالبيوت، نعم هي بالقبور أشبه منها بالبيوت من الذي يسكنونها أناس من أمثالنا وأمثالكم، ولا والله إن في هذه البيوت ما لا يرضى كثير من الحيوانات أن يستقر فيها.


تمنيت لو أن هؤلاء الموسرين ساقتهم أقدامهم إلى هذه الأماكن ونظروا إلى إخوةٍ لهم يموتون موتاً متقطعاً، لماذا؟ لأنهم حبسوا ودائعهم التي هي ملك لهم بقرار من الله في جيوبهم وصناديقهم.


يا هذا كيف يتأتى لك أن ترقد الليل وأنت تنظر إلى ما جنته يداك من هذه الظاهرة؟ كيف يتأتى لك أن تضع اللقمة في يدك فتستسيغها وأنت تعلم أن هذا الذي رأته عيناك إنما هو نتيجة جريمتك أنت عندما حبست هذه الوديعة في صندوقك ولم تعد بها إلى أصحابها؟ كيف يمكن أن يهنأ لك مقام؟ كيف يمكن أن يهنأ لك عيش عندما تعود من هذه الرحلة بل من هذه الطوفة التي أحدثكم عنها؟ ولكنني أعلم وأنتم تعلمون أن هؤلاء الذين أكرمهم الله ومتعهم الله بالمال الوفير الوفير لا يمكن أن يلتفتوا إلى هؤلاء الناس لأنهم لا يريدون أن يعكروا متعتهم، لا يريدون أن يعكروا صفو معيشتهم. إنهم إذا نظروا فوجدوا حال هؤلاء الذين يعيشون في الضنك، إذا نظروا فوجدوا حالهم ربما يتخيلون أنهم يكدرون صفو حياتهم، يكدرون صفو نعيمهم ولذلك فالحل أن يطرحوا هذا الواقع وراءهم ظهرياً وأن ينسوا أو يتناسوا وجود هؤلاء الذين يموتون موتاً بطيئاً.


والله الذي لا إله إلا هو إن هنالك إخوة لكم كان دأبهم في هذا الشهر أن يطوفوا في هذه الأماكن وأن يتنقلوا ضمن هذه البيوتات إن جاز التعبير عنها بالبيوتات ولكن هذا الذي فعلوه عاد إليهم بنشوة ما مثلها نشوة، لم يعكر أبداً صفو نعيمهم بل أدخل في كيانهم نشوة لا يمكن للإنسان أن يحققها بأي وسيلة من الوسائل المادية.


دخلوا هذه البيوتات ورأوا هذا الوضع الذي وصفته لكم، أخرج الواحد منهم من جيبه ما استطاع أن يخرج، ما استطاع أن يأتي به وقذفه فيما بينهم وإذا البأساء قد تحولت إلى رخاء وإذا الأسى الذي خيم على الوجوه قد تحول إلى فرحة وإذا الصغار يرقصون وإذا الكبار يفرحون.


استطعت بهذا العمل أن تدخل الفرحة في قلوب كئيبة، ما قيمة المال أيها الإخوة إن لم يُجَنَّدْ لمثل هذا؟ ما قيمة المال إن حبسته في صندوقي أو اكتنزته هنا وهنا وهناك في المصارف العالمية المختلفة ولم أعد به إلى هؤلاء الذين استودع الله لديَّ أموالهم، ما قيمة ذلك؟ غداً سأرحل. قولوا لهؤلاء: إنها أيام أو أشهر أو سنوات وغداً سترحل من هذه الدنيا ولن تنالوا منها إلا ما طعمتم، إلا ما ارتديتم، إلا ما أكلتم والباقي ماذا تصنعون به؟ والله إنه لن يكون إلا عبئاً ثقيلاً أمامكم يوم القيامة ولن تجدوا من وراء هذا الذي جمعتموه فلن تستفيدوا منه لا لطعام ولا لشراب ولا لكساء لن تجدوا من وراء ذلك إلا نيراناً تلتهب.


ترى هل في هذا المسجد ناسٌ من هؤلاء الناس يسمعون كلامي؟ هل يمكن لأناس من هؤلاء الناس أن يبلغهم هذا الذي أقول؟ لعل هذا الذي أقول يرقق قلوبهم القاسية، لعل هذا الذي أقول يوقظ إنسانيتهم الغافلة


 أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بالتراحم حتى يكرمنا برحمته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.



تشغيل

صوتي