العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
العبادة غذاء العبودية
الجمعة، 19 شعبان، 1431 الموافق 30/07/2010
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
حديثي اليوم حوار مع طائفة ممن يسمون أنفسهم الحداثيين يعبرون عن تبرهم بالماضي – وليس الماضي فيما يقصدون إلا الإسلام من خلال مواقع كثيرة متكاثرة هنا وهناك – ولقد كنت ولا أزال أقدس الحوار وأرى أنه السبيل الأوحد لمعرفة الحق وهو الطريق الذي لا ثاني له للاتفاق على الحق.
ترى هل يدعو الإسلام إلى التخلف أم هل يدعو الإسلام إلى القهر وما يسمى بالإرهاب أو الرهبة أم هل يدعو الإسلام إلى مخالفة أصول الحضارة الإنسانية أو إلى مخالفة المبادئ التي تقوم على أساسها المجتمعات المدنية.
الجواب عن هذا – أيها الإخوة – إنما هو عند الإسلام، والإسلام يقول من خلال مرجعه الأول – ألا وهو القرآن – يقول إنه يدعو الناس جميعاً إلى أمرين اثنين هما في الحقيقة حقيقة واحدة، يدعو إلى فعل الخير ويؤكد ويكرر ويدعو إلى العمل الصالح ويدعو ويكرر ويؤكد، إنه يقول: ﴿وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ ويقول: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ ويقول: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ ويقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ ويقول: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ والآيات التي تدعو إلى الخير والعمر الصالح كثيرة.
إذاً الإسلام يدعو إلى الخير وإلى العمل الصالح، ما الخير وما هو العمل الصالح؟
الخير أو العمل الصالح – يا عباد الله – هو كل عمل يعود بالمنفعة إلى صاحبه في جسمه، في نفسه، في ماله، وفي العلاقة السارية بينه وبين الآخرين ولكن على أساس من التوازن والعدل. هذا هو باختصار معنى الصلاح الذي يدعو إليه الإسلام من خلال القرآن وهو معنى الخير أيضاً.
وبالقدر الذي يدعو الإسلام الناس إلى عمل الخير وإلى العمل الصالح يحذر من نقيض كل منهما وما نقيض كل منهما إلا الفساد والإفساد فهو يقول: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ [الأعراف: 56]. ويقول: ﴿وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ وينعي على التائهين عن العمل الصالح والخير فيقول: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ هذا ما يدعو إليه الإسلام.
ولقد سمعت – وأنا أقول هذا – سمعت من يعترض فيقول: فإذا كان الإسلام يدعو إلى الصلاح وإلى الخير فما باله يدعونا إلى العبادات، ما باله يدعونا إلى الصلاة والصوم والأذكار وما إلى ذلك.
والجواب – يا عباد الله – هو أن الإنسان من شأنه أن يعود إلى حظ نفسه فيؤثر حظ نفسه على كل شيء، من شأن الإنسان أن يكون أنانياً يرعى حقوق ذاته ولو على حساب الآخرين، من شأن الإنسان أن تكون فيه رعونات وأن ينقاد وراء رعوناته. ما الذي يصلحه. إنما يصلحه الدخول في منهج تربوي يتمثل في العقيدة التي تبصره بأنه عبدٌ لمالك وأن هذا المالك يراقبه وأن له وقفةً بين يديه في الحياة الثانية وأن لم يُخْلَقْ عبثاً. هذه العقيدة لابد أن تُغْرَسَ في كيانه ومن ثم يعلم أنه مراقبٌ أينما ذهب، مراقب بأفعاله مهما فعل وأينما تقلب، ثم هذه العقيدة تحتاج إلى غذاء، إن لم تتلق العقيدة غذاءها ذَبُلَت ثم ذبلت ثم إنها تحولت إلى ما يشبه الهشيم من النبات فما غذاؤها؟ غذاؤها العبادة، غذاؤها الصلاح، غذاؤها مراقبة الله. هذه العبادات مع هذه العقيدة ترقى بالإنسان إلى مستوى تنفيذ عمل الخير والعمل الصالح ومن ثم يؤثر الآخرين بدلاً من أن يستأثر بنفسه ومن ثم لا يستطيع أن يتحول عن العمل الصالح إلى الفساد لأنه يعلم أن ملكين يراقبانه ويسجلان عليه.
وأقول لكم بحق: سألت واحداً من هؤلاء الحداثيين بل الذين لا يقيمون للإسلام وزناً وهو من رجال الأعمال: أرأيت لو أنك كنت بحاجة إلى أمين لصندوقك وجاء اثنان يقدمان الخدمة التي تطلبها أحدهما مثلك لا يقيم للدين وزناً والآخر مؤمن مسلم مراقب لله عز وجل على أي هذين الإنسانين تعتمد واصدقني في الجواب؟ قال على الإنسان المؤمن، قلت فلماذا تحاربون الوفاء؟ لماذا تحاربون الأمانة؟ لماذا تؤثرون حظوظ النفس على قرار العقل.
هذه الحقيقة – أيها الإخوة – تضعنا أمام حقيقة أخرى ينبغي أن نتبينها، ما يقف في وجه الإسلام متمثلاً في مبادئه الاعتقادية، متمثلاً في عباداته المتنوعة متمثلاً في شرائعه التي أمرنا الله عز وجل بها، ما يتربص بهذا الإسلام أحد إلا وهو يتربص بالعمل الصالح، إلا وهو يتربص بالخير، ما يقف أحدهم في وجه الإسلام الذي هذه حقيقته باختصار إلا وهو يدعو إلى الفساد والإفساد في الأرض، والفساد هل هو الأمر المبتغى في حياة الإنسان اليوم؟ وها أنتم تجدون ما قد أثمره الفساد في حياة الإنسان، إنه يدور برحى القتل والظلم على البرآء الآمين، هذه الحقيقة ينبغي أن نعلمها يا عباد الله، وإذا علمنا هذه الحقيقة فإني لأرجو أن تبلغ كلمتي هذه أو حواري هذا هؤلاء الإخوة التائهين وأرجو أن تدركهم الرحمة الإلهية قبل فوات الآوان.
نحن راحلون ونحن نقف طوابير أمام بوابة الموت، لا يعلم أحد منا أهو يقف في آخر الطابور أم في منتصفه أم في أوله. تعالوا نصلح ما بيننا وبين الله، تعالوا نعد إلى عقولنا ونتحرر من حظوظ أنفسنا، وخير الكلام ما قل ودل ولن أزيد.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم.