مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 23/07/2010

كيف يمارس الإنسان عبوديته لله عز وجل ؟

‏‏‏‏الجمعة‏، 12‏ شعبان‏، 1431 الموافق ‏23‏/07‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


قلت لكم بالأمس في الأسبوع الماضي إن الإنسان إذا عرف نفسه عرف ربه، يعرف نفسه متمتعاً بصفاتٍ كثيرة متنوعة متعددة ولكنه لا يملك منها شيئاً، ينفعلٌ بها ولا يفعل شيئاً منها، وردت إليه هذه الصفات دون إرادة منه ولا حكم وستودعه هذه الصفات أيضاً دون إرادة منه ولا حرية أو حكم.


 إذاً هو جهاز استقبال يستقبل هذه الصفات المختلفة، وهل يتأتَّى أن يوجَدَ جهاز استقبال بدون جهاز إرسال؟! من المرسل للصفات التي تتمتع بها من علم وعقل ونطقٍ وإرادةٍ وعافيةٍ وسمعٍ وبصرٍ وحسٍّ، إنها تأتي إليك من جهاز الإرسال وجهاز الإرسال مصدره الله عز وجل، عندما يعلم الإنسان هذه الحقيقة يدرك أنه عبد لمن هو بيده، لمن هو بسلطانه، وعندئذٍ لابد أن يصطبغ بصبغة العبودية لله عز وجل.


 هذا ما قلته لكم بالأمس، ولكن تعالوا نتابع كيف يمارس الإنسان عبوديته وقد أيقن أنه عبدٌ لله عز وجل، أيقن أنه جهاز استرسال يستقبل من عند الله عز وجل ما يتمتع به من صفات، كيف يمارس أحدنا عبوديته لله؟ يمارسها بطريقتين اثنتين لابد منهما؛ أولاهما الصبر والأخرى الشكر.


 والصبر لا يتحقق إلا في المناخ المناسب له، والمناخ المناسب للصبر هو الابتلاءات والمصائب المتنوعة الكثيرة. بدون أن يتلقى الإنسان ابتلاءات متنوعة شتى، بدون أن يُفاجَأَ بمصائب لا معنى للصبر، وأما مناخ الشكر فهو النعم والمنح الكثيرة التي تفد إلى الإنسان من جهاز الإرسال من عند الله سبحانه وتعالى. وهل يتأتَّى للإنسان أن يشكر الله عز وجل بدون أن يتلقى نعمه.


 ومن هنا كانت الدنيا – يا عباد الله – مزيجاً من المصائب والنعم، مزيجاً من اللذائذ والآلام، مزيجاً من المنح والمحن، من أجل أن يؤدي الإنسان الذي عرف ربه عبوديته لهذا الخالق يصبر عند الابتلاءات ويشكر الشكر الذي عرَّفَهُ بيان الله عز وجل عند النعم وعند الآلاء، ولكن كيف السبيل إلى أن يصبر الإنسان والله يقول في محكم تبيانه: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ﴾ [النحل: 127[ يا عجباً، يقول لي الله ﴿وَاصْبِرْ﴾ ثم يقول في الوقت ذاته ﴿وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ﴾. 


 معنى هذا الكلام إذا أردت أن تصبر التجئ إلى الله، اعرض ضعفك أمام الله عز وجل، تضرع على أعتاب الله، قل له مولاي لا حول لي ولا قوة إلا بك، ابتليتني بالمصائب والآلام وأنا لا أريد أن أعصيك، أنا أريد أن أصبر ولكن أنت الذي تُصَبِّرُنِي، لا سبيل إلى ذلك إلا أن ترسل إليَّ نعمة التصبير حتى أصبر على اللأواء، حتى أصبر على الشدائد، هذا معنى قوله عز وجل: ﴿وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ﴾ إي إذاً فالتجئ إلى الله لكي يُصَبِّرَك.


 وانظروا – يا عباد الله – إلى قدوتنا وأسوتنا ألا وهو رسول الله، أول عبد اعتز بعبوديته لله عز وجل، واجهته المصائب، واجهته الرزايا والآلام، وتعالوا أحدثكم عن نموذج من هذه المصائب، توفي عمه أبو طالب وقد كان سنداً له وكان الذي يمنعه من أذى المشركين فصبر، وما هي إلا أشهر مرَّتْ حتى توفيت زوجته خديجة وقد كانت وزير صدق له، وقد كانت أنيسه في الوحشة وكانت تقدم له العون المادي والمعنوي في طريق دعوته إلى الله.


 ثم جاءت المصيبة الأدهى، لم يعد يستطيع أن يحرك فمه بكلمة دعوة، استشاط أذى المشركين له وأحيط به بعد وفاة عمه أبي طالب.


 والمصيبة الرابعة أنه أراد أن يتجه إلى الطائف لعله يجد هنالك من يسمع كلامه، لعله يجد من يتسع صدره لحديثه ودعوته ولكن الطائف خيبت آماله، ردته على أعقابه كما تعلمون، ها هي ذي المصائب تترى واجهها محمد فكيف مارس عبوديته لله من خلال هذه المصائب؟ مارسها عن طريق كثرة الالتجاء إلى الله، كثرة التضرع إلى الله، معلناً أنه عاجز إن لم يعنه الله عز وجل على الصبر، معلناً أنه لا يملك حولاً ولا قوة.


 كان يشكو، ولكنه لم يكن يشكو شكوى ضجر، لم يكن يشكو شكوى احتجاج على الله، لا، معاذ الله، إنما كان يُعَبِّرُ بشكواه عن عجزه، عن فاقته، عن ذل عبوديته لله عز وجل. انظروا إلى كلامه وقد مرت به هذه المصائب الأربع: ﴿اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب العباد، أنت رب المستضعفين﴾، أنت ربي إلى أن قال بعد ذلك: ﴿إن لم بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي﴾ إذاً لم تكن شكواه تعبيراً عن احتجاج ولكنها كانت إظهاراً لعبوديته لله سبحانه وتعالى وإظهاراً لفاقته وعجزه.


 وقد جعل الله عز وجل من مصطفاه أسوة لنا، قدوة، فلنقتدي بحبيبنا محمد عندما تنوشنا المصائب وتطوف بنا الرزايا، فلنجد سبيلاً إلى الصبر التجئوا إلى الله، اطرقوا باب الله تجدون أن الله عز وجل ينجدنا بنعمة الصبر.


 ولكن الأمر الأهم من هذا سنة من سنن الله ألزم الله عز وجل بها ذاته العلية، كلما عانى الإنسان المؤمن بالله الذي وضع عبوديته لله موضع التنفيذ، كلما عانى من شدة في حياته أو مصيبةٍ طافت به فواجهها بالصبر، واجهها بالتجمل لابد أن يكرمه الله إلى جانب العسر باليسر، وانظروا في هذا إلى قوله سبحانه وهو يخاطب رسوله: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾ [الشرح: 5-6[


 لم يقل إن بعد العسر يسراً لا، قال: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾ إلى جانب العسر ستجد اليسر، لكن هذا لمن، لمن اتجه إلى الله عز وجل، لمن فرَّ إلى المصائب التي تنوشه إلى باب الله سبحانه وتعالى، يعلن عن ضراعته ويعلن عن مسكنته وذله، وتلك هي وظيفة الإنسان في هذه الحياة، ألم يقل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56[ والعبادة سلوك، والعبادة التي هي سلوك لا تتحقق إلا بعد أن يصطبغ الإنسان بذل العبودية لله سبحانه وتعالى.


 كانت هذه الحالة هي دأب رسول الله. ولو أنكم درستم سيرته وهو رئيس دولة وهو إمام المسلمين وهو أفضل الأنبياء عند الله وهو حبيب الله عز وجل وهو ذاك الذي قال الله له ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطور: 48] ومع ذلك فلم يكن يُرَى رسول الله ﴿ إلا وهو متصاغر متذلل على أعتاب الله، لم يكن يُرَى رسول الله إلا وهو ملتصق باب الله يستنجد فضله، يستنـزل رحمته، يستنـزل قدرته وهو رئيس دولة، وهو إمام المسلمين يا عباد الله. هذه الحقيقة ينبغي أن نعلمها وأن نتبينها. مصائب المسلمين اليوم كثيرة وإنكم لتعلمونها والزمن لا يتسع لعدها ولا لحصرها


 ولكن ما الذي ينجي المسلمين من هذه المصائب، دَعْكُمْ من الوسائل والأسباب المادية، هذا شيء أمر الله بإعداده لكن لا خير فيه إذا اعتمد الإنسان عليه وحده


 ما السبيل الذي به نتخلص من مصائبنا المختلفة المتنوعة؟ الالتجاء إلى الله، الوقوف على باب الله، الانكسار والتذلل على أعتاب الله.


 أنت عبد لا تملك من أمر نفسك شيئاً، إذاً ينبغي أن تعيش حياتك عيشة العبيد، ما ينبغي أن يشمخر منك الرأس عالياً وأنت لا تملك من أمر نفسك شيئاً، بماذا تشمخر؟ بفكر صائبٍ تتمتع به! غداً يسلب الله هذا الفكر منك، بذاكرة تتمتع بها! غداً تستيقظ من رقادك وقد نسيت كل شيء. بالعافية التي تتضرج في كيانك وتُزْهَى بها عندما تقف أمام مرآة ذاتك! غداً يسلبك الله هذه العافية، من أنت حتى تقول إني أملك شيئاً منها.


 إذاً أنت – كما قلت – جهاز استقبال تتحرك صورٌ شتى عليك فسل من الذي يرسل ذلك كله، هو الله. إذاً ينبغي أن يكون شأنك، دأبك، دائماً الالتجاء إلى الله، الانكسار على أعتاب الله سبحانه وتعالى، وانظروا كيف تجدون مصادق قول الله عندئذٍ ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾.


 لا، هما جملتان متكررتان لم أجد مثلهما في كتاب الله ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾


 لكن لمن؟ لمن كان ملازماً باب الله، لمن كان مصطبغاً بذل العبودية لله، لمن كان دأبه أن يتصور الساعة التي يتمدد فيها على فراش الموت ويستقبل ملك الموت لينقله إلى الحياة البرزخية الأخرى.


 أيها الإخوة: ما دمت أتحدث عن الالتجاء وفن الالتجاء وثمرة الالتجاء فدعنا نكتفي بهذا الكلام النظري لنوفر بقية الوقت لعملية الالتجاء إلى الله.


أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي