مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 21/05/2010

هل تحل الأخلاق محل التربية الدينية ؟

‏‏‏‏الجمعة‏، 08‏ جمادى الثانية‏، 1431 الموافق ‏21‏/05‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


لقد صح عن رسول الله r أنه قال:


(إنما بُعِثْتُ لأتمم مكارم الأخلاق)


وفي رواية صحيحة أيضاً أنه قال:


(إنما بُعِثْتُ لأتمم صالح الأخلاق).


ومعنى هذا الكلام النبوي أن الله عز وجل قد جعل من بنيان العقيدة التي ينبغي أن يصطبغ بها كل عبد من عباد الله عز وجل ومن بنيان الشريعة الإسلامية التي ينبغي أن يتعرف عليها ويلتزمها كل مؤمن بالله عز وجل، معنى كلام المصطفى هذا أن الله عز وجل وجل ذلك كله سلماً يرقى به الإنسان إلى الأخلاق الإنسانية الفاضلة.


وهذا المعنى هو ذاته المراد بكلمة الأعمال الصالحة أو العمل الصالح المكرر في كتاب الله عز وجل والمنوط دائماً بصفة الإيمان بالله سبحانه وتعالى وذلك في مثل قوله:


(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف : 107].


والآيات التي تربط العمل الصالح بالإيمان كثيرة جداً كما تعلمون.


وإنما المقصود بالأعمال الصالحة الأخلاق الإنسانية الفاضلة التي تسري بالتعامل بين الناس بعضهم مع بعض، بل ينبغي أن نعلم جميعاً أن أحكام الشريعة الإسلامية التي تتمثل في أنواع المعاملات المالية المختلفة وغيرها إنما المراد بذلك كله أن تُسْتَخْدَمَ هذه الأعمال وهذه المعاملات للأخلاق الإنسانية. فما حرَّم الله عز وجل معاملة من المعاملات إلا لأنها تتعارض مع أخلاق التعامل الإنساني، وما أوجب نوعاً من المعاملات إلا لأنه هو المتفق مع الأخلاق الإنسانية الفاضلة فهذا معنى قوله r:


(إنما بُعِثْتُ لأتمم مكارم الأخلاق).


ولكن فلنعلم – يا عباد الله – أن مكارم الأخلاق وأن الأخلاق الإنسانية الفاضلة لا تُسْتَنْبَتُ في فراغ ولا يمكن أن يصطبغ بها المجتمع الإنساني بدون أن تُسْتَنْبَتَ في تربة صالحة ترعى هذه الأخلاق الفاضلة.


وانظروا – يا عباد الله – إلى البيان الإلهي كيف يُجَلِّي هذه الحقيقة، إن الله سبحانه وتعالى يضعنا من هذا الإسلام الذي شرفنا به أمام ما يشبه شجرة باسقة.


أما جذعها فإنما هو المعتقدات الإيمانية التي تترسخ بالذهن وتهيمن عاطفة من الحب والتعظيم والمهابة على القلب.


وأما أغصانها فالأحكام السلوكية المتنوعة بدءاً من العبادات فما يليها من أحكام المعاملات المتنوعة الكثيرة.


وأما ثمارها فالأخلاق الإنسانية الفاضلة.


هكذا يبصرنا كتاب الله عز وجل، وتأملوا في هذا الذي يقوله ربنا سبحانه وتعالى:


(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم : 24-25].


(تُؤْتِي أُكُلَهَا). ما هو أُكُلُ هذه الشجرة؟ ما هو أُكُلُ العقيدة التي تمثل جذع هذه الشجرة؟ ما هو أُكُلُ الأغصان الكثيرة المتفرعة التي تمثل الأحكام السلوكية في الإسلام؟


إن الأُكُلَ إنما هو الأخلاق التي بُعِثَ رسول r لرعايتها ولإتمامها.


ألا فلنتبصر بهذه الحقيقة يا عباد الله.


أُذَكِّرُ نفسي وأُذَكِّركم بهذا الذي يقوله لنا ربنا سبحانه حتى نعود فنتأكد أن الأخلاق الإنسانية الفاضلة لا يمكن أن تتحقق في فراغ بدون وازع.


الأخلاق الإنسانية الفاضلة لا يمكن أن تُسْتَنْبَتَ في الهواء.


إن الذي يريد أن يربي المجتمع على الأخلاق الإنسانية المثلى قفزاً دون أن يستنبتها في جذع العقيدة الإيمانية تعليماً وتربية وتنبيهاً دون أن يستنبتها في الأحكام السلوكية الكثيرة تربية وتنبيهاً وتعليماً، إن هذا الذي يحلم بهذا هو أشبه بمن يَرْقُمُ في الهواء أو بمن يكتب على الماء، لا يتأتى ذلك.


وقديماً فكَّر الفلاسفة اليونانيون وغيرهم بمسألة الأخلاق وضرورة التعامل بها عند بناء المجتمعات الإنسانية، فكروا في أن تُقَامَ حقيقة الأخلاق الإنسانية الفاضلة وأن يُشاد بنيانها هكذا رأسها دون اعتماد على وازع فما انتهت محاولاتهم إلا إلى خيبة كبيرة. كل الذين حاولوا أعلنوا عن خيبتهم بدءاً من أبيقور وزينون وأمثالهم من الذين كانوا قبل الميلاد بما يقارب ستة أعوام إلى الفلاسفة الذين يعيشون في هذا العصر.


لا يمكن للأخلاق الإنسانية المثلى أن تُسْتَنْبَتَ في فراغ، لا يمكن للأخلاق الإنسانية المثلى أن ينضبط بها الإنسان بدون وازع.


ولقد نبَّهَنَا إلى ذلك بيان الله. في سورة الإسراء عشر من المبادئ الأخلاقية يذكرنا الله بها ويأمرنا بها واحدة إثر أخرى ولكنه يبدؤها بالركيزة الإيمانية ويختمها بالركيزة الإيمانية، يقول:


(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ)


ثم قال:


(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) [الإسراء : 23]


إلى آخر الآيات التي تذكرنا بعشرة من المبادئ يأمرنا الله بها. ولو أنه أمرنا بالتمسك بهذه المبادئ الأخلاقية دون أن يأمرنا أن نستنبتها في تربة العقيدة إيماناً بالله، تعظيماً لأوامر الله، مخافة من سلطان الله، ولو أنه لم يبصرنا بالأحكام السلوكية لما أصغى أحد السمع إلى الدعوة إلى الأخلاق.


الأخلاق الإنسانية قيد، من ذا الذي يرضى بالقيد إن لم يكن هنالك وازع يدعوني إلى هذا القيد عن طريق حب أو عن طريق مخافة وتعظيم؟!


من هنا – يا عباد الله – كان السبيل لكل من يغار على الأخلاق الإنسانية ويريد حقاً أن يصطبغ الجيل بالأخلاق الإنسانية المثلى كان لابد أن يسعى سعيه إليها عن طريق التربية الإيمانية يأخذ هذا النشء به. التربية الإيمانية يؤخذ هذا النشء به محاورة مع العقل وغرساً للحقائق الإيمانية ذات الدلالات العلمية والمنطقية في العقل، ثم تُحَوَّلُ هذه الحقائق العلمية التي ترسخت في العقل إلى عاطفة من الحب والتعظيم والمهابة في القلب، ثم يُؤْخَذُ هذا النشء بمعرفة غذاء العقيدة، غذاء شتل العقيدة الذي رُسِّخَ في العقل.


شتلٌ رُسِّخَ في العقل ألا يحتاج إلى سقيا؟ ألا يحتاج إلى رعاية؟ ما هي الرعاية التي يتحول بها شتل الإيمان بالله إلى جذعٍ راسخ؟ إنه العبادات، العبادات المتنوعة.


إذن لابد أن يُؤْخَذَ النشء بهذه العبادات وأن يربَّى عليها ثم لابد أن يستبين كيف أن الله عز وجل أناط أحكام المعاملات المختلفة بالمبادئ الأخلاقية.


فما حرَّم الغرر في المعاملات إلا لأنه يصادم الأخلاق الإنسانية.


وما حرَّم الغش في المعاملات إلا لأنه يصادم الأخلاق الإنسانية.


وما أمر بالعدل في الكيل والميزان والمحاكمة أثناء التعاقدات المالية المختلفة إلا لأن ذلك هو روح العدل، روح الأخلاق الإنسانية الفاضلة.


فتصوروا حال إنسان يلقي هذه الحقائق وراءه ظهرياً، يلقي السبيل الذي لابد منه إلى اصطباغ النشء بالأخلاق الإنسانية، يلقي السبيل إلى ذلك وراءه ظهرياً ثم إنه يتظاهر بأنه يدعو إلى الأخلاق الإنسانية ويحرص على أن يربَّى النشء على الأخلاق الإنسانية الفاضلة!


أنى لك يا أخي أن تفعل ذلك والفلاسفة من قبلك حفيت أقدامهم في هذا الطريق ثم أعلنوا العجز عن ذلك!.


أخلاق إنسانية تزرع في كيان النشء دون وازع، دون دافع! هيهات. لا يمكن أن يتحقق ذلك قط.


الإيثار من أجلِّ الأخلاق الإنسانية، وهل يمكن لإنسان أن يؤثر أخاه على نفسه إلا إذا كان هنالك وازع؟! وما هو هذا الوازع؟


الوازع هو إيماني بالله، الوازع هو أمر الله الصادر إليَّ، الوازع هو حبي لله سبحانه وتعالى ومن ثم حبي للالتزام بأوامره.


لكن عندما أشيح النظر عن الطريق الطويل الذي ينبغي أن أربي النشء على أساسه، الطريق الذي ينبغي أن أربي النشء على أساسٍ من مبادئ العقيدة الإيمانية، من السبيل إلى غرس محبة الله في القلب، من بيان العبادات ودورها في تغذية العقيدة، من بيان الأحكام السلوكية وكيف أنها تخدم الأخلاق الإنسانية. عندما لا أُرَبَّى على هذا النحو، عندما لا أُأْخَذُ بهذه التربية هيهات أن أُوثِرَ غيري على مصالحي، لابد أن أوثر نفسي، هكذا تقول لي مصلحتي الذاتية، هكذا يقول لي عقلي في مثل هذه الأحوال.


ونحن نعلم يا عباد الله أن ربنا سبحانه وتعالى حكيم وأنه سبحانه لو علم أن الناس يمكن أن يضبطوا أنفسهم بأحكام التعاملات الإنسانية الأخلاقية دون وازع لوَجَّهَهم رأساً إلى هذه المبادئ الأخلاقية ولما أمرهم أن يؤمنوا به ولما حذَّرهم من عذابه ولما دعاهم إلى العبادات التي تغذي حقائق العقيدة الإيمانية.


أقول لمن يريد أن يفصل بين أخلاق الإسلام وبين العقائد الإسلامية ومبادئ السلوك الإسلامية المتمثلة في التربية الإيمانية، أقول لمن يريد أن يفرِّقَ بين هذا وذاك لك في الغابرين عبرة وأي عبرة. عد إلى الفلاسفة الذين حاولوا ذلك وانظر أن جهودهم كيف باءت بخزي، أجل.


إن لم ترد أن تعود وتغوص إلى الماضي السحيق فإن أمامك الفلاسفة الأوروبيين الذين يؤكدون هذه الحقيقة، عد إلى ما يقوله ستوارت ميل، عد إليه واسأله هل يمكن أن تغرس الأخلاق الإنسانية الفاضلة المثلى في غير تربة الإيمان بالله عز وجل؟ هل يمكن أن يؤخذ الجيل بالتربية الأخلاقية رأساً قبل أن يصطبغ هذا الجيل بالتربية الإيمانية والدينية متمثلة في العقيدة ثم العبادة ثم الأحكام السلوكية المختلفة؟


أمر بدهي – أيها الإخوة – مضى التاريخ بعد أن وقَّع عليه ومضى على ذلك قرون عدة وكل يوم يأتي اليوم يزيد فيه هذا البيان تأكيداً وتزيد فيه هذه الحقيقة بداهة.


أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل أعمالنا صادقة خالصة لوجه الله، وألا يجعلنا ممن يغار على الأخلاق في الظاهر ولكنه يريد أن يركلها في قدمه في الباطن. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي