مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 14/05/2010

الدعاء والطلب

‏‏‏‏الجمعة‏، 01‏ جمادى الثانية‏، 1431 الموافق ‏14‏/05‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


نحن نعلم جميعاً أننا عبادٌ مملوكون لله سبحانه وتعالى، مبدؤنا منه وانتهاؤنا إليه، نتحرك في قبضته، الحكم حكمه، والملك ملكه، هذه حقيقة لا ريب أننا جميعاً نعلمها ونصطبغ بها، يقيننا بهذه العبودية يقتضي أن نكون دائماً ملتصقين بأعتاب الله عز وجل، ملازمين بابه، متمسكنين في محراب العبودية له. معرفتنا بهذه العبودية تقتضينا أن نعلم يقيناً أننا بحاجة دائماً إلى الله عز وجل، ولسنا بحاجة إلى أحدٍ سواه، في كل لحظةٍ نحن بحاجة إلى الله عز وجل، ومن ثم فإن العبد الذي علم عبوديته لله لا بد أن يظل يدعو الله عز وجل، لا ينفك عن الدعاء له، لا ينفك عن استمطار رحمته، إن مرَّ بمرحلة رخاء دعا الله وسأله أن يديم رخاءه، وألا يسلب منه نعمته، وأن يديم عليه فضل إحسانه ومننه وجوده، وإن مرَّ بمرحلة ابتلاء دعا الله سبحانه وتعالى أن يكشف عنه السوء، وأن يزيل عنه الضراء، وأن يعيد إليه العافية، وهكذا فالإنسان الذي علم ذل عبوديته لله لا ينفك عن شعور احتياجه إلى الله سبحانه وتعالى، هو في كل لحظة بحاجة ماسَّةٍ إلى لطف الله وكلاءته وحمايته.


هذه واحدة ينبغي أن نعلمها جميعاً، الأمر الثاني الذي يجب على كل عبدٍ علم ذل عبوديته لله عز وجل يجب عليه أن يعلم أن دعاءه الذي يتوجه به إلى الله عز وجل دائماً هو غايةٌ بحد ذاته، وليس وسيلة إلى غايةٍ أخرى. هذه حقيقة هي من الأهمية بمكان ويجب أن نعلمها جميعاً، فالعبد الذي عرف مملوكيته لله سبحانه وتعالى يحب أن يعلن عن ذل عبوديته لله، يرى حاجةً ماسةً تدعوه إلى أن يعلن أنه مسكين بائسٌ منكسرٌ على أعتاب الله، سواء أجابه الله عز وجل أم لم يجبه، قَبِلَهُ الله أم لم يَقْبَلْه، هو يعلن عن حقيقة هي الهدف الأساسي في كيانه، يريد أن يعلن عن أنه عبدٌ لله، يريد أن يعلن أنه عبدٌ مسكين بائس منكسر ملتصق بأعتاب الله عز وجل، كيف يعلن عن ذلك؟


يعلن عن ذلك من خلال بؤسه الذي يشكوه إلى الله، من خلال حاجاته التي يعرضها على باب الله، من خلال مملوكيته تحت سلطان الله سبحانه وتعالى، الإنسان الذي ذاق لذة العبودية يلَذُّ له أن يناجيَ الله عز وجل بما يعَبِّر عن هويته عبداً مسكيناً بائساً شحاذاً يقف على باب الله عز وجل، سواء أجابه الله إلى حاجاته أم لم يجبه، قَبِلَهُ الله أم لم يَقْبَلْه، هو شفى غليله بالتعبير عن ذله، شفا غليله بالتعبير عن عبوديته ومملوكيته لله عز وجل.


فاعلموا – يا عباد الله – هذه الحقيقة لأنها الجسر الذي ينبغي أن يتوفر بينكم وبين إقبال الله سبحانه وتعالى إليكم. إقبال العبد إلى الله بالدعاء غاية بحد ذاتها، وليس وسيلةً إلى غايةٍ أخرى.


والفرق بين الداعي الذي تسوقه عبوديته إلى باب الله والطالب الذي تسوقه رعونته إلى تحقيق ما يطلب هو هذا الذي أقوله لكم، الداعي الذي يقف في محراب العبودية لله يتخذ من الدعاء غايةً بحد ذاتها، أما الطالب الذي يسيل لعابه على مغنم، على غاية، على مال، على منصب، على أي شيء فذلك ما ينطبق عليه المثل القائل: صاحب الحاجة أرعن، لا يروم إلا قضاءها، ومعاذ الله أن يكون الواحد منا وهو يعلم أنه عبدٌ مملوكٌ لله يجعل من عبوديته لله عز وجل أداة استثمار للوصول إلى ما يبتغيه من عرض الدنيا أو من المغانم المختلفة أيَّاً كانت.


فاعلموا الفرق – يا عباد الله – بين الطلب الذي يطلبه أحدنا من أجل تحقيق رغائبه، وبين الدعاء الذي يتوجه به العبد إلى الله عز وجل متمسكناً ذليلاً واقفاً في محراب عبوديته لله يلذُّ له أن يعلن عن مسكنته وبؤسه بين يدي الله سبحانه وتعالى.


كثيرون هم الذين يخلطون بين الدعاء والطلب، يُعْرِضُ أحدهم عن الله سبحانه وتعالى لأن الدنيا ترقص أمامه، ولأن المتع تطوف من حوله، ومن ثم فهو ناسٍ لمولاه الذي أنعم عليه وتفضل عليه بهذه المتع وهذه النعم كلها، فإذا غابت النعمة وظهر الابتلاء إن تمثل في مرضٍ سرى إلى كيانه، أو في فقر بعد غنى تسرب إلى كيانه أو داره، تنظر وإذا هو يبحث عمن يَدُلُّه على دعاءٍ مستجاب، يبحث عن صيغ من الدعاء قيل له: إن دعا بها لَقِيَ الاستجابة، يسأل هذا ويسأل ذاك. ماذا يبتغي؟ هو لا يبتغي في هذه الحالة أن يعلن عن عبوديته لله، هو يريد أن يطرق أي باب يستطيع أن يجد من خلال طرقه له تحقيقاً لغايته، تحقيقاً لهدفه؛ خسر بعد ربح إذاً دُلَّنِي على من ينجيني من هذه الخسارة وليكن أياً كان.


هذا الإنسان عندما يفعل ذلك هو يعبر عن طلب يطلبه، ويجعل من الدعاء خادماً لطلبه، ونسأل الله عز وجل ألا يجعلنا ممن مسخوا الدعاء، وممن نسوا عبوديتهم لله سبحانه وتعالى، فجعلوا من الدعاء الذي هو العبادة والعبودية لله – كما ورد في الحديث الصحيح – جعلوا من هذا الدعاء طلباً لغاية، مغنماً يسيل عليه اللعاب. هذه الحقيقة ينبغي أن نعلمها جيداً يا عباد الله. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم الدعاء: ﴿هو العبادة﴾، وفي رواية: ﴿الدعاء مخ العبادة﴾


كثيراً ما يتساءل كثيرون عن السبب في أنهم يقبلون إلى الله عز وجل بأدعيةٍ كثيرة، ثم إنهم لا يجدون الاستجابة. سؤال يتكرر كثيراً: دعونا الله عز وجل مراراً وتكراراً ولقد قرأنه قول الله عز وجل: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:60] وها نحن قد دعونا فلم يُسْتَجَبْ لنا، هكذا يقولون. الجواب عن هذا واضح، وقد ذكرته لكم يا عباد الله. أولاً ينبغي للإنسان أن يعلم أنه بحاجةٍ إلى أن يلازم محراب دعائه وعبوديته لله دائماً، سواء في حالة الرخاء أو في حالة الشدة، كي لا يكون ممن قال عنهم الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ أي في حالة واحدة ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج:11]. أفأنت بحاجة إلى الله فقط عندما تصيبك اللأواء، عندما تنوشك المصائب؟! أنت في كل لحظة بحاجة إلى الله. هذا شيء، ثم هل الدعاء عبارة عن خادم جعله الله بين يديك لتنال رغائبك التي يسيل عليها لعابك؟ لا، الدعاء إعلان عن ذل عبوديتك لله، الدعاء إعلان عن مسكنتك الدائمة الدائبة لله.


يا عجباً! إنسانٌ تعلق بإنسانٍ أو فتاة، تعلق بها أو به تعلقاً شديداً، انظر إليه كيف يلذّ له أن يعلن لذلك المحبوب عن مسكنته، عن ذله له، لا لشيء إلا ليعبر بذلك عن ذله له، يقول: لي لذة في ذلتي وخضوعي. هذا حال الإنسان مع الإنسان، فكيف ينبغي أن يكون حالة الإنسان مع مولاه؟ كيف ينبغي أن يكون حالك مع مولاك وربك، الإله الذي أنت في قبضته، الإله الذي منه ابتدأت وإليه ستنتهي، الإله الذي هو الحاكم في ملكوته كله؟ ألا يلذُّ لك أن تعلن له عن مسكنتك، عن ضراعتك، عن بؤسك. هذه الحقيقة إذا تمثلناها فلسوف تكون الاستجابة محققة، وبيان الله لا يلحقه خُلْفٌ بشكل من الأشكال يا عباد الله.


ألا لا يستخفنَّ أحدٌ بالدعاء عندما تتحقق فيه مواصفاته التي ذكرتها لكم. كم من دعاءٍ قهر أمة، وأباد حضارة، واستبدل بها حضارة أخرى، كم من دعاءٍ قوَّض عروشاً وقضى على طغيان، كم من دعاءٍ أحال النسيم الرخي العذب إلى إعصار مهلك، كم من دعاءٍ أحال خرير المياه السيالة الرقراقة إلى طوفان ودمار، بل كم من دعاءٍ أحال العافية في كيان أصحابها إلى داءٍ ووباء، وكم من دعاءٍ أحال الداء في جسم أصحابه إلى عافيةٍ وشفاء، هكذا ينطق التاريخ وهكذا تنطق الأيام والليالي.


ألا لا يستخفنَّ أحدٌ بالدعاء إذ يتعالى من ذل العبودية إلى قيِّوم السماوات والأرض، لا يستخفنَّ أحدٌ بالدعاء إذ ينبثق من أفئدة منكسرة بائسة ذليلة تنبض بذل العبودية لله إذ يتعالى عبر الحناجر إلى ملكوت الله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله، فاستغفروه يغفر لكم. 

تحميل



تشغيل

صوتي