مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 07/05/2010

عروبة وعربية القرآن

‏‏‏‏الجمعة‏، 24‏ جمادى الأولى‏، 1431 الموافق ‏07‏/05‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


ألفت نظري وأنظاركم جميعاً إلى هذه الظاهرة في كتاب الله عز وجل، إنه يركِّزُ دائماً ومكرراً على عروبة وعربية القرآن، لا يكتفي البيان الإلهي من بيان ذلك مرة أو مرتين أو ثلاث مرات، بل يكرر ويؤكد التكرير، فهو يقول: )قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ[ [الزمر: 28] ويقول: )إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[ [يوسف: 2] ويقول: )لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ[ [النحل: 103] ويقول: )نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ[ [الشعراء: 193-195] أفأسترسل وأستعرض معكم مزيداً من الآيات؟ لماذا وما الحكمة من هذا التأكيد المتكرر.


إن البيان العربي – بل البيان الرباني العربي – يؤكد لنا أن العربية ستظل بخير ما دامت الأمة الإسلامية مشدودةً إلى هذا الكتاب الذي شرفها الله سبحانه وتعالى به وخاطبها به، ما دامت مشدودة إليه تتلوه بتدبر وتتبيّن صوره الجمالية العجيبة التي تأخذ بجوانب النفس، وتقف على بياناته المعجزة التي يتعشقها الذوق الإنساني، ويؤكد لنا بيان الله عز وجل في الوقت ذاته أن القرآن ستظل منافذُه موصولةً إلى عقول الأمة وأفئدتها ما دامت هذه الأمة تعود إلى اللغة التي اختارها البيان الإلهي خطاباً لعباده، ما دامت هذه الأمة ترجع إلى هذه اللغة، تقف أمام صورِها الأخاذة، تقف أمام بيانِها الذي سمت به إلى شأوٍ لم تبلغه أي لغة أخرى، ما دامت الأمة مشدودة إلى هذه اللغة، إلى جمال بيانها، وإلى صورها البليغة، ثم إنها تعكف على دراسة قواعدها، فلسوف يظل القرآن هو الحكم، ولسوف تظل منافذُه متّصلةَ إلى عقول هذه الأمة وقلوبها.


وهكذا يؤكد لنا بيان الله عز وجل أن بين القرآن واللغة العربية التي تَنَزَّلَ بها تفاعلاً مستمراً، كل منهما مفتاح للآخر، كل منهما يسوق القلب والعقل إلى تعشق الآخر وإلى التعلق به.


عباد الله: نظراً إلى أن المؤسسات والمحافل الغربية التي تتربص بالإسلام وتكيد له تبينت هذه الحقيقة ودرستها وعكفت طويلاً على دراستها، فإنها وَضعتْ في أواسط القرن الماضي خططاً ماكرة للفصل بين هذين القطبين المتفاعلين، وضعت خططاً معلنة لفصل هذه الأمة عن لغتها بل لغة القرآن، كي لا تجد في هذه اللغة ما يسوقها إلى الاستئناس بالقرآن، فالتعلق به، فالتعشق لبياناته، فالخضوع لتعاليمه، وفعلت فعلَها الماكر لصرف هذه الأمة عن القرآن كي لا يقودها القرآن في سمو بيانه وفي ألق بلاغته إلى معينه الذي تنـزَّل به ألا وهو اللغة العربية، كي لا يشد القرآنُ الأمةَ إلى الوقوف على هذه اللغة والركون إليها، ثم حبها وتعشقها، ثم العكوف على دراسة قواعدها وبلاغتها، والوقت يضيق عن وضع النقاط على الحروف، وبيان الخطط التي رسمها اليونسكو، وبيان الخط التي رُسِمَت في ظلام ليل داهم، وكل ذلك معلوم ومقروء ومعروف، ولكن من حسن الحظ، ومن لطف الله عز وجل بعباده أن باءت تلك الخطط بالفشل والخيبة، فلم يستطع قادة تلك المؤسسات والمحافل أن يحققوا شيئاً من هذا الذي ابتغوه، بل الذي حصل نتيجة لخططهم المستعلنة أن ظهرت ردود فعل لدى أمتنا العربية والإسلامية تجاه هذا الأمر، ومن القواعد المعروفة أن الكيد المعلن لا بد أن يفجر ردود الفعل، ولقد كانت ردود الفعل ولا تزال هي أول ما يخنق كيد الكائدين، خابت تلك الخطط، ونظرنا في أواسط ذلك القرن وما بعد، فرأينا ألق اللغة العربية كيف يعود متجدداً على ألسن الأدباء والشعراء التي كانت أمتنا العربية والإسلامية وما تزال تعتز بهم، رأينا كيف أن أمتنا العربية تتسامى فوق العامية التي فرضت عليها والتي أريد لها، رأينا حتى كثيراً من المسرحيات والتمثيليات قد شُدَّ أصحابها ومنتجوها إلى استعمال اللغة العربية الفصحى، على الرغم من أن أولئك الكائدين قرروا القضاء على اللغة العربية بسكين اللهجات العامية، ولكن هذه الخطة لم تتحقق.


 هل توقف أولئك الكائدون عن كيدهم يا عباد الله؟ معاذ الله، لم يتوقفوا، ولكن الذي حصل أنهم خاضوا اليوم إلى الأعماق، وأخذوا يخططون ويكيدون في الخفاء، أخذوا يخططون وكأنهم أخذوا العِبرة من الغلط الذي ارتكبوه، يخططون في الظلام دون أن يشعر بخططهم العرب بل هذه الأمة العربية المسلمة، ولكن الخطط الماكرة الخفية تأبى إلا أن تعلن عن نفسها، فما الخطة الجديدة التي يرسمها أولئك أنفسهم للقضاء على العربية في ألسن هذه الأمة ومن ثم للفصل بين هذه الأمة وقرآنها.


 سبيل ذلك هو التالي:


 أولاً: الفصل بين اللغة العربية ونموذجها الأسمى، وإنكم لتعلمون أن النموذج الأسمى للغة العربية إنما هو القرآن، ولا أعلم أن لغة من لغات العالم لها نموذج أسمى تعود بمقياسها البلاغي إليه إلا اللغة العربية. الخطة الأولى هي الفصل ما بين اللغة العربية ونموذجها الأسمى.


 الخطة الثانية: هي الفصل ما بين اللغة العربية ومصدر بلاغتها وقواعدها وألقها وصورها البيانية، ألا وهو الشعر الجاهلي والنصوص التي وصلت إلينا من صدر الإسلام.


 الخطة الثالثة: هي العمل على إبعاد الصور الجمالية التي يتعشقها الذوق العربي من أفكار الناشئة، وإبعادها عن ذوقهم الصافي المتألق، وما أكثر الصور البيانية الجمالية التي تأخذ بمجامع النفس من مشاهد نصوص عربية نعود فيها إلى ينبوع تاريخ هذه الأمة. ثم ماذا؟ ثم إن النشئ حُمِّلَ ويُحَمَّلُ بعد ذلك أوقاراً من القواعد العربية الجافة تُحْشَى بها أذهانهم من أجل أن يشعروا بصعوبة شديدة، ومن أجل أن يشعروا بثقل هذه المهمة التي تُحْشَى بها أذهانهم وأدمغتهم، ومن أجل أن تتحقق من وراء ذلك عقدة نفسية تجاه قواعد العربية، تُقْصَى هذه الأمة عن الجواذب التي تجذبها إلى هذه اللغة الرائعة التي كم وكم تعشقتها أمة بل أجيال نفخر اليوم بها. الخطة ترمي إلى فصل أذهان الناشئة وأذواقهم عن النموذج الأسمى للغة العربية، عن ينبوع البلاغة العربية وقواعدها، عن الصور الجمالية المتألقة لهذه اللغة، ثم تُحْشَى أذهانهم بأوقارٍ من القواعد الجافة، كي يتبرموا بها، وكي يضيقوا ذرعاً بها، وكي تنشأ في نفوسهم ردود فعل تجاه هذه القواعد.


 هذه هي الخطة البديلة التي يمررها أولئك الناس على أمتنا اليوم لعلها تنجح، وسؤالي الآن هل ستنجح؟ لا والله الذي لا إله إلا هو، لا ومنَزّل هذا الكتاب لن تنجح، ذلك لأن هذه الأمة سوف تظل مشدودة إلى خطابها الرباني المنـزل عليها منذ قرابة خمسة عشر قرناً، ومن ثم لسوف يقودها هذا القرآن إلى ينابيع اللغة العربية، ولسوف تتشرف الألسن ببلاغة هذه اللغة كما تشرف بها لسان مثل لساني، وما أكثر الألسن الأعجمية التي وُلِدَتْ وهي لا تعلم شيئاً من هذه اللغة، ولكن القرآن هو الذي صقل ألسنتها بلغة القرآن هذه، وأنا واحد من أولئك الناس.


 نحن عرب، كيف أستطيع أن أجمع بين نقيضين؛ عرب ونحاول أن نخنق اللغةَ العربية ونستخذي لكيد الكائدين!؟ لا لن يمر هذا ولا سيما في هذه البلدة المباركة التي شهدت في يوم من الأيام تعريب المصطلحات العلمية التي تعتز بها جامعتنا هنا دون كثير من البلاد الأخرى، نحن الذين عرَّبْنَا المصطلحات العلمية، في الوقت الذي كانت فيه كثير من الأمم العربية تضطر إلى استعمال المصطلحات الأخرى. بلدة كهذه لن تمر فيها هذه الخطط ناجحة بشكل من الأشكال.


 وأنا في هذا المقام – أيها الإخوة – لا أتحدث عن الدين، أتحدث عن اللغة العربية، والخطط التي تكيد بها المؤسسات والمحافل التي تعرفون، أقول لكل من يتوجس خيفة من كتاب الله عز وجل عندما نعتمد عليه في صقل ألسنتنا باللغة العربية المباركة هذه، هؤلاء الذين يخافون عندما يركنون إلى القرآن لاستنباط البلاغة العربية والصور البيانية منه، يخافون أن تفترسهم المشاعر الدينية من جراء ذلك، ومن ثم فإن قرارهم هو التضحية بالعربية في سبيل ألا تفترسهم المشاعر الدينية عندما يركنون إلى القرآن، أقول لهم: كونوا كالمستشرقين الذين يدرسون القرآن لمصالحهم الشخصية، ولكنهم يحصنون أنفسهم ضد افتراس القرآن لأفكارهم، يحصنون أنفسهم، يدرسون القرآن من ألفه إلى يائه، ويدركون اللغة العربية العجيبة التي تنَزَّلَ بها القرآن، وما أكثر من اصطبغوا بهذه اللغة وهم مستشرقون، ها هم أولاء اصطبغوا بها، ودرسوها، ولم تفترسهم المشاعر الدينية في كتاب الله عز وجل. أقول لأبناء جلدتنا: كونوا كأولئك المستشرقين، حصِّنُوا أنفسكم ضد تسرب الأفكار الدينية، والتقطوا ما يهمّكم من مبادئ اللغة وقواعدها وبياناتها وصورها المتألقة.


 أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرم أمتنا بوعيٍ يُبَصِّرُها بكيد الكائدين من بعيد أو من قريب، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل من بلدتنا المباركة هذه درساً تقتدي به الأمم العربية والإسلامية من حولنا، فلقد كانت هذه البلدة ولا تزال في مقدمة البلدان التي تعي ما عليها، وتعي ما يراد بها، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي