مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 30/04/2010

فرق ما بين المؤمن بالله والمنكر للقائه

‏‏‏‏الجمعة‏، 17‏ جمادى الأولى‏، 1431 الموافق ‏30‏/04‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.



أمّا بعدُ فيا عباد الله ..



إن فرق ما بين المؤمن بالله سبحانه وتعالى والموقن بلقائه والجاحد بالله سبحانه وتعالى والمنكر للقائه فرق ما بينهما هو التالي:



أما المؤمن بالله سبحانه وتعالى والموقن بلقائه فإن كل ما مرَّ من عمره عام استبشر بأن لقاءه بالله سبحانه وتعالى قد أصبح أكثر قرباً وبأن ساعة رؤيته لله عز وجل ووقوفه بين يديه قد أزفت ودنت. ثم إنه ينظر في ماضي حياته فإن وجد أن الله عز وجل قد وفقه للاستقامة على أوامره والابتعاد عن نواهيه حَمِدَ الله واستبشر وإن رأى أن مُقَصِّر تائه قد توغل في بعض المعاصي والأوزار استدرك واستفاد من البقية الباقية من حياته فتاب وآب إلى الله سبحانه وتعالى وأحسن سلوكه وقَوَّم اعوجاجه، وهو في كلتا الحالتين في خير.



وأما الجاحد بالله والمنكر للقائه فهو إذا رأى أن عاماً قد انقضى وانسلخ من حياته يشعر بأن ساعة الاختناق قد دنت منه وبأنه قد أصبح قريباً من الجدار المغلق في داخل النفق المظلم الذي يسير فيه، نفق ذي اتجاه واحد، ومن ثم فإنه يشعر بالوحشة، إذ يشعر بأن ساعة انقضائه وزواله – فيما يتصور – قد أزفت وأن ساعة ابتعاده عن مائدة المتع والشهوات التي يعُبُّها قد دنت، ومن ثم فإن هذا الشعور يزجه في وحشة ما مثلها وحشة ولا يفر من هذه الوحشة إلا بواسطة النسيان وأنّى له النسيان! ليس له من سبيل إلى النسيان إلا عن طريق العكوف على كأس ثم كأس ثم أخرى.



هذا هو فرق ما بين المؤمن بالله عز وجل والموقن بلقائه والجاحد بالله سبحانه وتعالى والمستيئس من لقاء الله سبحانه وتعالى.



وأنا أعقد – يا عباد الله – هذه المقارنة لكي نرجع بشكر عظيم لله عز وجل وبحمدٍ لا ينتهي لمولانا سبحانه وتعالى إذ لم يقطعنا عن معرفته، أكرمنا بمعرفة ذاته عن طريق معرفة أنفسنا، بصَّرَنَا بقصة هذه الرحلة التي نقطع ساعاتها طبق منهج مرسوم تَبَيَّنْاه، بَصَّرَنَا الله عز وجل بالمبدأ الذي انطلقنا منه والنهاية الصغرى التي تنتظرنا موتاً ورحيلاً من هذه الحياة ثم النهاية الكبرى التي نحن على موعد معها بعون الله سبحانه وتعالى ورحمته وتوفيقه إذ نكون كما وعد الله عز وجل: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 54-55].



عباد الله: تعالوا نحمد الله سبحانه وتعالى أن لم يجعلنا من أولئك الشاردين التائهين في صحراء هذا الوجود ميتَّمين في جنبات هذا الكون، لا يعلمون مبدأً لرحلتهم الحياتية التي يقطعونها ولا يدركون شيئاً من معنى الموت إلا أنه العدم المطلق ومن ثم فإن أحدهم كلما دنا من الموت وانطوى عامٌ من عمره شعر بالوحشة وشعر بالأسى يكاد يأخذ منه بالخناق.



احمدوا الله أن لم يجعلنا من هؤلاء الناس، احمدوا الله سبحانه وتعالى أن بَصَّرَنَا بحقيقة قوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ [السجدة: 11]. تعالوا نحمد الله عز وجل أن بَصَّرَنَا بالبشارة التي ينطوي عليها حَدَثُ الموت وذلك عندما قال مخاطباً لنا جميعاً، مخاطباً لكل مؤمن: ﴿وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: 158] ﴿لإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾ أجل، كم وكم يكون المؤمن سعيداً – بل منتشياً بالسعادة – عندما يجد أن أيام عمره في هذه الحياة الدنيا قد انطوت وأنه قد آن أن يرحل إلى هذا الإله الذي قد طال حنينه واشتياقه إليه.



وهل هنالك سعادة أسعد وأيام أروع وعرس أمتع من أن يحين اللقاء الذي وعَدَكَ الله سبحانه وتعالى به!؟ هل هنالك سعادة أمتع من أن تجد نفسك أمام هذا الذي وعدك الله عز وجل به!؟ ﴿وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾



عباد الله: لقد قضى الله سبحانه وتعالى أن أرى مشهداً يُقَطِّعُ القلوب، مشهد أولئك الذين ظننت أنهم يحتفلون احتفال فرحة بولادة عامٍ جديد على إثر انتهاء عام أدبر، ولكن ماذا رأيت!؟



سمعت السخط، سمعت الكلمات التي تعبِّر عن الأسى، تعبِّر عن اليأس، تعبِّر عن الوحشة، ورأيت مظاهر البؤس ورأيت كيف يفر هؤلاء الناس وأنا أتأمل في هذا المشهد من كثب، رأيت كيف أنهم يفرون من الوحشة التي تلفُّ بهم من سائر الأنحاء إلى شيء واحد لا ثاني له، إنه الشراب، يشرب ثم يشرب ثم يشرب إلى أن يرتمي أرضاً ثم يُجَرُّ جرَّاً إلى المكان الذي أُعِدَّ له ثم يأتي دور الثاني فالثالث فالرابع فالخامس.



إنه احتفال لكنه احتفال يعبِّر عن مأساة ما مثلها مأساة، لماذا؟ لأنهم لم يصغوا إلى بيان الله الذي أنبأنا عن قصة هذه الرحلة من مبدئها إلى النهاية الصغرى فيها إلى النهاية العظمى فاستوحشوا من الموت، استوحشوا من العمر الذي لا يعلمون حقيقته.



أما نحن يا عباد الله الذين شرَّفَهم الله عز وجل بمعرفته فأحسب أننا جميعاً نتبيَّن ونشعر بأننا داخلون تحت حمى لطف الله عز وجل ورعايته وذلك عندما نتدبر قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 11] نعم، لسنا مُيَتَّمِين في صحراء هذه الحياة، نحن مشدودون إلى مولانا، يشُدُّنَا إليه نسب عبوديتنا له ولطفه يستمر ويتجه إلينا من خلال ولايته علينا، ألم تقرؤوا قول الله سبحانه وتعالى: ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ﴾ [البقرة: 257]



هذه حقيقة أمتَعَنَا الله عز وجل بها، وإنما أُذَكِّرُ نفسي وأُذَكِّرُكُم بذلك لكي نستغرق في شكر الله أن لم يجعلنا من أولئك الذين يفسرون الحياة بالمآسي، يفسرون انقضاء هذه الحياة واستقبال الموت بأسى ما مثله أسى.



عباد الله: كنت الساعة أتلو قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ثم قال: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ [الكهف: 28]. قفوا بتأمل وتدبر عند قوله سبحانه: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا﴾.



إذن هنالك أناس أغفل الله عز وجل قلوبهم عن ذكره فعاشوا يتقلبون في فجاج هذه الحياة وهم لا يعرفون مولاهم وخالقهم ومن ثم لا يعرفون هوياتهم وأنفسهم. أما نحن فقد أكرمنا الله سبحانه وتعالى بأن جعل قلوبنا أوعية لذكره، أوعية لحبه، أوعيته لتعظيمه ومهابته ومخافته. كم هي جليلة هذه النعمة. كم أنت لطيف بنا يا مولانا يا ذا الجلال والإكرام إذ لم تجعلنا من أولئك الذين جعلت قلوبهم في غطاء عن ذكرك، جعلتَ قلوبنا أوعية لذكرك، حببْتَ إلينا الإيمان، زيَّنْتَه في قلوبنا، كَرَّهْتَ إلينا الكفر والفسوق والعصيان.



هذه الحالة – أيها الإخوة – تجعلنا نستبشر إذا دنا الموت، لا نأسى ولا نشعر ببؤسٍ ولا بشقاء. الموت! ما الموت؟ الموت عبارة عن الساعة التي يرتفع مما بينك وبين الله الحجاب. وأنت، أنت الذي ما زلت تسأل الله عز وجل ولا تراه، تدعوه ولا تراه، تأتيك رسائله – رسائل الحب – تأتيك استجاباته لدعائك دون أن تراه. الموت هي الساعة التي يُقَال لك من خلالها ها لقد أزفت الساعة التي ستبصر إلهك الذي كنت تدعوه ولا تراه، أزفت الساعة التي كنت تسأل الله عز وجل ولا تدركه ببصرك، أزفت الساعة التي تذكِّرُك برسائل الحب والنعم التي كانت تتوارد إليك من الله. هذا هو الموت، هذه هي حقيقة الموت يا عباد الله لكن لمن؟ لمن عرف الله حتى ولو كان عاصياً لأنه سيؤوب إلى الله إن لم يكن مستكبراً على الله سبحانه وتعالى.



تعالوا يا عباد الله نغذي هذه النعمة التي أنعم الله بها علينا بمزيد من الشكر، بمزيد من الحمد لعلنا بذلك – إذا دنت ساعة الموت ووقعنا في سكرات الموت – نقول بل يقول كل واحد منا كما قال بلال رضي الله تعالى عنه عندما كان يعاني من سكرات الموت وسمع واحداً من أقاربه يقول وا كرباه قال: بل وا طرباه غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه. فاللهم وفقنا أن نقول في تلك الساعة التي ستحيق بنا عما قريب، وفقنا أن نقول مثل ما قال بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم واطرباه غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.



وإن من رحمة الله بعباده أنه خبَّأ لهم بشرى يرونها في دار الدنيا قبل الرحيل منها إلى الدار الآخرة. أين تكون هذه البشرى؟ قبيل الموت، ساعة السكرات يريك الله عز وجل بشارة النعمة التي تنتظرك، ولسوف يجعل الله عز وجل من هذه البشارة مخدراً ينسيك آلام سكرات الموت.



ألم تقرؤوا قول الله سبحانه وتعال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ [فصلت: 30-31] إذن هذه بشارة من الملائكة تكون وأنت حي، وأنت في دار الدنيا ﴿أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾ [فصلت: 30-32].



اللهم ثبِّتْنَا، اللهم ثبِّتْنَا على النهج الذي ارتضيته لنا، اللهم اجعل قلوبنا أوعية لحبك، زدنا إيماناً بك، زدنا يا ربي حباً لك، زدنا تعظيماً لحرماتك، ثَبِّتْنَا على هذا النهج حتى إذا جاءت سكرة الموت شعرنا منها بالبشارة، شعرنا منها بعرس لا أمتعَ منه ولا ألذ. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجيب دعائي ودعاءكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي