مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 16/04/2010

الالتجاء إلى الله في الشدة والرخاء

‏‏‏الجمعة‏، 03‏ جمادى الأولى‏، 1431 الموافق ‏16‏/04‏/2010‏


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن الله عز وجل قد وصف حال بعضٍ من عباده في محكم تبيانه فقال: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً. أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً. أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً﴾ [الإسراء:67-69]


هناك بعض من عباد الله عز وجل يصف حالهم بهذا الكلام البليغ، إنهم إذا فوجئوا بالمصيبة يُخَيَّلُ إليهم أن بلاءها نابعٌ من ذاتها، وأنها إذا انجابت تحولوا من الخطر إلى ساحة الأمان، قد يُبْتَلى الواحد منهم بالفقر، فلا يرى المصيبة إلا هذه الحالة التي فاجأته، وشعر من جرائها بالضر والألم، وتصوَّر أن هذه الحالة إذا زايلته فإنه يصبح في أمن وطمأنينة، ولربما ابتلي بمرض يستقر في ذهنه أن البلاء إنما هو نابع من هذه الحالة التي ابتُلِيَ بها، من هذا المرض الذي انحطَّ في كيانه فإذا عُوفِيَ وانعتق من بُرَحَائِه وآلامه استطاع أن يضمن لنفسه الأمن وساحة الرغد من العيش،ـ ولربما واجهه عدو أفقده أمنه وطمأنينته، يستقر في ذهنه أن البلاء محصور في هذا الذي واجهه، فإذا زال العدو، وانحسر العدوان، عاد إلى الطمأنينة، وعاد إلى الأمن، متصوِّراً أن البلاء قد زايله، وأنه يعيش الآن في حصن من الأمان.


ولكن هذا التصور تصور خاطئ يُنَبِّهُنَا بيان الله سبحانه وتعالى إلى خطورة هذا الخطأ الذي يقع فيه كثير من الناس، ليست المصيبة أن يهتاج البحر، وأن يهددك بالغرق، حتى إذا رأيت نفسك على اليابسة تخيلت أن البلاء قد زايلك، وأن الخطر قد انجاب عنك، لا. البلاء يهبط إليك من علياء الربوبية، ولا ينبثق لك من الطبيعة. الإله الذي شاء أن يبتليك بفقر ربما ابتلاك بالغنى، فكان الغنى أشد بلاءً من الفقر الذي كنت تعاني منه، والإله الذي يبتليك بمرض أفقدك الراحة وأفقدك الأمن ربما عافاك الله عز وجل بعد ذلك، ففجَّر من العافية التي تتمتع بها بلاءً أطم ومصيبة أشد.


 أجل، هذا معنى كلام الله عز وجل: ﴿أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً﴾ [الإسراء:68]. وهذا المعنى ذاته يلفت البيان الإلهي نظرنا إليه عندما يقول: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ. أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾ [الملك:16-17[


 ما أكثر ما يتصور الإنسان أن الأرض مهدٌ جعلها الله عز وجل سبباً للسعادة والأمن والرخاء، وجعل منها كنـزاً لسائر مبتغياته، ولكنه ينسى أن هذا الإله الذي جعل فعلاً من الأرض مهداً، إن شاء جعل لك منها سبباً للدمار، جعل منها أفواهاً فاغرة تبتلعك بل تبتلع أُمَّةً بأسرها. واسمعوا يا عباد الله بيان الله عز وجل كيف يرينا التفنن – إن جاز هذا التعبير – في إهلاك من أهلك من عباده، أهلكهم بوسائل كثيراً ما نراها أسباباً للسعادة، أهلك بعضهم بالماء الذي جعله الله سراً للحياة: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء:30]، أهلك الله عز وجل كثيراً من الأمم بنسمات الهواء الرخية التي نراها سبباً للانتعاش وسبباً لاستمرار الحياة، أهلك الله سبحانه وتعالى أناساً عن طريق هذه الأرض التي جعلها الله سبحانه وتعالى للإنسان مهداً ولا كمهد الأم الذي تبسطه للطفل. ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت:40[


 أرأيتم إلى هذا المعنى التربوي الذي ينبهنا إليه بيان الله عز وجل، إنه يقول لنا جميعاً يا عباد الله: اجعلوا خوفكم من الذي يرسل عليكم المصيبة عندما يشاء، ويمتعكم بالنعمة عندما يشاء، لا تجعلوا خوفكم من شبح المصيبة ذاتِها، المصيبة جندٌ من جنود الله عز وجل، وما أكثر ما يجعل من هذا الجند سبباً لنعمة، سبباً لسعادة، أجل. هذا ما ينبهنا إليه بيان الله سبحانه وتعالى. ولو أن الإنسان وعى هذه التبصرة الربانية لكان خياله ولكانت مشاعره الوجدانية دائماً متجهةً إلى الله سبحانه وتعالى، إن واجهته المصيبة التجأ إلى الله سبحانه وتعالى يسأله بذل عبوديته أن يبعد عنه هذه المصيبة ويسأل الله عز وجل العافية كما سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: ﴿إن عافيتك أوسع لي﴾


 فإذا انجابت المصيبة بقي يلتجئ إلى الله عز وجل لأنه يعلم أن الساعة التي يتمتع فيها برغد العيش، يعلم أن الساعة التي يتمتع فيها بالعافية والصحة ربما تقلَّبَت وتحولت في لحظة واحدة إلى سبب للشقاء، إلى سبب لضنك العيش وللآلام المُمِضَّة التي لا حدَّ لها ومن ثم فهو دائم الالتجاء إلى الله، يلتجئ إلى الله في الشدة يسأله أن يبعد عنه الشدة، ويلتجئ إلى الله في الرخاء يسأله عز وجل أن يبقي رخاءه هذا، يسأله عز وجل ألا يحول رخاءه إلى شدة، ويذكر في هذا الوصية التي أوصى بها رسولُ الله عبدَ الله بن عباس إذ قال في وصيته: ﴿تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة﴾


 عباد الله: هذه حال كثيرٍ منا، يلتجئون إلى الله عز وجل عند الشدة فراراً منها، حتى إذا تنفس أحدهم الصعداء، وزالت الشدة نسي الإله الذي كان يلتجئ إليه، غابت الشدة وغاب معها الالتجاء إلى الله


 كم رأينا أناساً ابتُلوا بفقر بعد غنى، أو ابتُلوا بمرض بعد عافية، وإذا بالواحد منهم يطرق أبواب الصالحين يسأل هذا وذاك: ألا تعلم دعاءً لو أنني دعوت به يفرِّجُ الله عز وجل عني هذه الشدة التي أعاني منها؟ فإذا علم صيغة من صيغ الدعاء أخذ يكررها كما لو كان طفلاً يحفظ وظيفته، حتى إذا أكرمه الله عز وجل بالعافية بعد المرض، وأكرمه الله سبحانه وتعالى بالغنى بعد الفقر، نسي ما كان يصنع، لأن التجاءه إنما كان خوفاً من المصيبة ذاتها، ولم يكن خوفاً من مرسلها وهو الله سبحانه وتعالى


 عباد الله، أنا أقف مدهوشاً أمام صورة لطفل لا يعي، وأنظر بالمقابل إلى أمثالنا من الذين متعهم الله بالعقل وتجربة الحياة، فأجد أن هذا الطفل أقرب إلى الفهم والمعرفة من كثيرٍ من أمثالنا، يحمل الوالد طفله بين ذراعيه، ويحتضنه، ويطمئن الولد الطفل أنه مكلوءٌ بعناية والده، ويشرف به والده على وادٍ سحيق، ما إن ينظر الطفل إلى هذا الوادي السحيق حتى يتشبث بأبيه، حتى يلتصق بأبيه التصاقاً عجيباً، هو في أحضان أبيه، ذراع والده يحوط به، أجل، هو يعلم أنه مكلوءٌ بعناية أبيه، لكنه رأى البلاء على مقربة منه، ويعلم أن مصدر أمنه والده، ويعلم أن مصدر شقائه والخطر الذي قد يطوف به إعراض أبيه عنه، ومن ثم يظل متشبثاً بأبيه، يظل في كل حالٍ ملتصقاً بصدر أبيه. هذا حال هذا الطفل، أما الإنسان من أمثالنا، أما العاقل الذي أدرك أسرار الحياة أليس أولى به أن يعلم هذه الحقيقة؟


 كلنا -أيها الإخوة- نطلّ ببصائرنا وأبصارنا على مصائب هي قريبة منا جميعاً، نطل عليها ونعلم أنها توشك أن تقع بنا، ونعلم – أو ينبغي أن نعلم – أن مصدر هذه المصائب مولانا وخالقُنا، مصدر الابتلاء هو الله عز وجل، أليس هو القائل: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء:35[


 نعلم هذه الحقيقة، فلماذا لا نفعل كما يفعل هذا الطفل؟! لماذا لا نتشبث برحمة الله ولطفه؟! لماذا لا نظل نلتجئ إلى الله عز وجل في الرخاء كما نلتجئ إليه في الشدة؟! لماذا لا يكون شأننا كشأن هذا الطفل بل لماذا لا نتعلم من هذا الطفل إذ يلتجئ إلى أبيه وإذ يرمقه بعينين تزيغان بالخوف كأنه يقول: لا تتخلَّ عني يا أبي، لا تتركني يا أبي للخطر المحدق الذي أراه من حولي، وهو في حالة أمن، وهو في حالة طمأنينة، أين نحن -يا عباد الله- من هذا المعنى ندركه في علاقة ما بيننا عبيداً وبين ربنا ومولانا سبحانه وتعالى


 يفرُّ أحدنا إلى الله عندما تطوف به محنة، فقر، مرض، عدو يتهدده، أجل. فإذا استجاب الله عز وجل دعاءه، وفرَّجَ عنه كربه، تنظر إليه وإذا هو يعود إلى غفلته، يعود إلى شأنه ودنياه، وكأن البلاء قد زال ولا يمكن أن يعود إليه، وكأن اليد الحانية التي أنقذته من الفقر وأنقذته من المرض، كأن هذه اليد الحانية لا تستطيع أن تعود فتبتليه بشرٍّ من ذلك البلاء الذي أصابه


 هذا شأن طائفةٍ من الناس وصفهم الله عز وجل بما قد سمعنا، وأعود فأذكِّر نفسي وأذكركم بهذا البيان الرباني البليغ معبراً عن هذا المعنى، يعلو بنا إلى هذه التربية: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً. أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً. أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً﴾ [الإسراء:67-69[


 أنت يا ابن آدم في قبضة الرحمن، أنت يا ابن آدم في قبضة الله سبحانه وتعالى يفعل بك ما يشاء. كن كهذا الطفل الذي يظل يرمق بعين الاسترحام أباه، كن كهذا الطفل الذي يلتصق بصدر أبيه، ولكن فلنعلم أن ولينا هو الله، ولنعلم أن مصدر البلاء ومصدر النعيم ومصدر السعادة والشقاء، مصدر ذلك كله هو الله سبحانه وتعالى، وإذا وقف الإنسان موقف العبودية مع الله في حالتي الرخاء والشدة فليعلم أن الله عز وجل قد أجزل له الأجر، وحقق له سعادة العقبى التي تنتظره بعد الموت.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي