مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 26/03/2010

الجهاد وجمع الشمل

‏‏الجمعة‏، 11‏ ربيع الثاني‏، 1431 الموافق ‏26‏/03‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


قديماً قالوا: إن المصائب من شأنها أن تجمع الشمل، وأن تسد ثغرات الاختلاف والشقاق، وهذا كلام صحيح إلى حدٍّ كبير، فها نحن نرى شعوبنا الإسلامية –من خلال بلادنا العربية القريبة– قد اجتمعت على نهجٍ واحدٍ وغايةٍ واحدةٍ تحت الضغط المستشري والمتمثل في المصيبة الكبرى المتمثلة في اغتصاب الأرض واستلاب الحقوق والحصار المستمر الذي تطاول أمده على غزة وأصحابها والسعي الدائب الحثيث على تهويد القدس. هذه المصيبة جمعت الشمل في الحقيقة، وجعلت شعوب العالم الإسلامي القريب والبعيد تعزف على وَتَرٍ واحدٍ، وتتجه إلى الإيمان بحلٍّ واحد ألا وهو حلُّ الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى. هذا التوجه الذي لا يقف أمام رؤى سياسية، ولا يَسُدُّ السبيل إلى الإيمان به قيادات حكومية، وهكذا نجد أن هذه المقولة صحيحة: المصيبة من شأنها أن تجمع الشمل، وأن تسد نوافذ الخلاف والشقاق.


ولكنا نبصر ونتأمل فنرى أن العزف على هذا الوتر، واتجاه الشعوب الإسلامية إلى اليقين بهذه الوسيلة وحدها، نجد أن الأمر لا يعدو القال والقيل، ننظر فنجد أن الأمر لا يعدو أن يكون أحاديث أسمارٍ في سهرات وصالونات.. ينظرون ويتأملون في المناظر المأساوية المتتالية في هذه الأقنية الفضائية المختلفة، فتهتاج بين جوانحهم آلام المأساة، ويتذاكرون فينتهون إلى رؤية واحدة وقرار واحد، ألا وهو الجهاد، ولا شيء غير الجهاد، ولكنهم جميعاً لا يتحرّكون من مجالسهم الوثيرة، ولكنهم جميعاً لا يتنازلون عن طمأنينتهم، ولا يتنازل الواحد منهم عن رغد عيشه، وهكذا فإن الحديث عن الجهاد لا حَظَّ له إلا في الألسن. فما سبب هذه المفارقة؟ يجتمع الكل على ألا علاج إلا علاج الجهاد في سبيل الله، ثم إنهم لا يراوحون إلا في أماكنهم، ولا يتجاوزون الحديث إلى الفعل شروى نقير، ما السبب.


السبب -يا عباد الله– أن الجهاد كلٌّ لا يتجزأ، ولا يجوز أن ينتقي المسلم من معاني الجهاد ما طاب له، ويبعد نفسه ويعرض عن الأنواع والمعاني الجهادية الأخرى، الجهاد كلٌّ لا يتمثل فقط في الجهاد القتالي الذي نقرأ عنه في كتاب الله سبحانه وتعالى.


منذ فجر البعثة النبوية وكتاب الله سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين بالجهاد، حتى عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة قبل أن يُشْرَعَ الجهاد القتالي ما أكثر ما يأمر كتاب الله عز وجل بالجهاد، نقرأ في السور المكية قوله: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا[ [العنكبوت: 69]، نقرأ فيها قوله سبحانه وتعالى: )وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ[ [الحج:78] إذن الجهاد لا يتمثل في نوعٍ واحدٍ مما نسميه جهاداً، الجهاد كلٌّ لا يتجزأ.


المسلم مكلف بالجهاد في حالة السلم وحالة الحرب معاً، المسلم مأمور بالجهاد حتى وهو آمنٌ مطمئنٌّ في داره مع أسرته، المسلم مكلَّف بالجهاد في كل تقلباته وفي سائر أحواله، ومن أعرضَ عن معنى من معاني الجهاد، والتقط منها ما يروق له لن يكون حظّ هذا الجهاد منه إلا حظّ اللسان فقط.


العمل الذي يجب أن يمارسه كلٌّ منا –كل مسلم– في سبيل أن ينقل العقيدة الإسلامية يقيناً جاثماً في العقل إلى عاطفة مشبوبةٍ من الحب والتعظيم تهيمن على القلب جهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى.


وسعي المسلم الدائب على معرفة أحكام الشريعة الإسلامية، والانضباط بضوابط الشريعة في أحكام المعاملات المالية في السوق من الجهاد، بل من أهم معاني الجهاد.


وترفُّع الإنسان بكل الوسائل التي بَصَّرَنَا بها كتاب الله عز وجل على الشهوات الآسنة وعلى الأهواء الجانحة كل ذلك من الجهاد، بل من أهم معاني الجهاد.


وسعيك في سبيل أن تطهّر قلبك من الضغائن، من الأحقاد، من مشاعر الحسد، من الاستكبار والأنانية من أجلِّ معاني الجهاد.


والأخلاق الإسلامية الإنسانية التي بَصَّرَنَا بها كتاب الله عز وجل، وأمرَنَا أن نواجه بها الآخرين، وأن نضبط أنفسنا بها أيما انضباط من أجلِّ معاني الجهاد، ثم إن مواجهة المسلم للعدو الذي يصرُّ على اغتصاب الأرض واستلاب الحقوق الوقوف في وجهه جهاد من أجلِّ معاني الجهاد.


أرأيتم -أيها الإخوة- كيف أن جهاد المسلم كلٌّ لا يتجزأ، ولا يجوز للإنسان أن ينظر إلى هذه المعاني فيلتقط منها ما يروق له، ويعرض عما لا يروق، هذه خيانة، خيانة لمن شرَّع الجهاد ولمن أمر به.


 إذن أعود فأقول وأتساءل معكم: لماذا تجتمع شعوبنا الإسلامية -بَعُدَتْ أو قَرُبَتْ– على ألا علاج لدرء هذه المصيبة وتطهير الأرض من الغاصبين والمستلبين إلا الجهادُ في سبيل الله تعالى، لماذا تجتمع شعوب العالم الإسلامي على هذه الحقيقة يقيناً ثم لا يكون نصيبُ هذا الذي اجتمعوا عليه إلا في الألسن وإلا في المجالس التي يجتمعون فيها على السمر والحوار.


 السبب –يا عباد الله– أن أكثر المسلمين اليوم إنما يفهمون من الجهاد نوعاً واحداً منه، وقد أعرضوا عن بقية معانيه وبقية أنواعه، إنهم يفهمون من الجهاد مواجهة العدو بالسلاح، مواجهة العدو بالقتال، أجل وهو فهم صائب، وهو فهم سديد، لكن لماذا لا ينهضون إلى ذلك؟ لأنهم مثقلون بأعباء كثيرة، مثقلون بحبّ المال، مثقلون بحبّ الحياة، مثقلون بحبّ رغد العيش، مثقلون بحبّ الشهوات والأهواء الآسنة، مثقلون بذلك كله، لم ينتبهوا إلى أن عليهم أن يجاهدوا في سبيل الله عز وجل للتحرر من هذه المصائب وهذه الأعباء كلها، ومن ثم صَعُبَتْ عليهم الحركة، صَعُبَ عليهم التوجه إلى هذا الذي آمنوا به فعلاً لأنهم مثقلون بأعباء الشهوات والأهواء وما يتبع ذلك مما تعرفون.


 ألا تقرؤون قول الله عز وجل أيها الإخوة: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ[  [التوبة:38].


  وَضَعَنَا البيانُ الإلهي أمامَ الأمر، وَوَضَعَنَا أمام السبب الذي يجعلنا ننكص على أعقابنا، ونبتعد عن الانقياد للأمر، إنه هذا الذي يقوله لنا ربنا بهذا التعبير البليغ العجيب: )اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ[، والمراد بالأرض كل ما تنبع به الأرض من الشهوات والأهواء ومظاهر الدنيا وما إلى ذلك، فالأرض كناية عن ذلك كله، ولا يكون الإنسان مُثَّاقِلاً إلى الأرض إلا وهو مُثْقَل بحب هذه الشهوات وهذه الأهواء وما إلى ذلك. هذا كلام الله سبحانه وتعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ[، مَنَعَكُم من الاستجابة لأمر الله عز وجل الثِّقِل الذي حَمَّلْتُمُوه على أنفسكم وفي قلوبكم، ثقل الرغائب، ثقل الشهوات والأهواء المتنوعة، )أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ[.


هم مؤمنون بأن الجهاد هو العلاج، ولكن حِيْلَ بينهم وبين استعمال هذا العلاج مرارتُه، والذي جعل الجهاد مُرَّاً علقماً في حلوقهم إنما هو هذا الثقل الذي ران عليهم، أجل، وتلك هي مشكلتنا في هذا العصر يا عباد الله.


ألا ترون إلى قادة الأمم العربية وغيرها من حولنا، مَنِ الذي جعلهم يعْرِضُون عن استعمال هذا الدواء؟ من الذي جعلهم يمارسون قسوة قلبٍ عجيبة وغريبة تجاه هذه الصور التي لا شك أنهم يرونها صباح مساء، صور إخوانهم الذين يموتون موتاً بطيئاً تحت هذا الضغط العدواني الآثم؟ لماذا لا ترقُّ قلوبهم لهذا الحصار الذي تطاول أمده على أهل غزة؟ لماذا لا ترقُّ أفئدتهم وتهتاج مشاعرهم الإيمانية لمساعي التهويد الحثيثة للقدس؟ لماذا؟ إنهم مؤمنون، وفيهم من لا يتركون الصلوات الخمس في أوقاتها، نعم، ويعلمون أن الوسيلة الناجعة هي الجهاد فقط، ولكن حاق عليهم قول الله سبحانه وتعالى: )مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ[، إنهم قد يعتذرون بالتحديات التي تحيط بهم وتأخذ منهم بالخناق -تسمعون هذا كما نسمع- ولكنهم والله يعلمون أن المسألة ليست تحديات تأتي من هنا أو هناك والتي تأخذ منهم كما يقولون بالخناق، إنه تحدٍّ واحد، تحدي شهواتهم الآسنة على إيمانهم المحبوس في زوايا عقولهم، هذا الإيمان الذي لم يتحول بعدُ إلى عاطفة من الحبِّ تهيمن على قلوبهم،. هذا هو السبب.


التحديات! أي تحدٍّ هذا. تعالوا قارنوا بين التحديات التي واجهَهَا الرعيل الأول من إخوانكم المسلمين في عصر النبوة، كانوا غرباء في العالم كله، كان طغيان الحضارات يحيط بهم كإحاطة القيد بالمعصم، ومع ذلك لم يشعروا بما يسمى اليوم التحديات، حطموا التحديات، ونفَّذُوا أمر الله سبحانه وتعالى، لماذا؟ لأن ثقل الشهوات الأهواء قد تحرروا منه عندما انقادوا لأمر الله، وعندما جاهدوا في الله حق جهاده، عندما جاهدوا نفوسهم، عندما حرّروا نفوسهم من رِقِّ الشهوات وحب المال وحب الحياة، عندما جاهدوا أنفسهم في تنفيذ أوامر الله عز وجل، عندما جاهدوا أنفسهم فاصطبغوا بصبغة العبودية لله، وعكفوا في محراب العبادة على تنفيذ أوامر الله سبحانه وتعالى. هذا هو الجهاد الذي مارسوه ثم مارسوه فخفَّ عليهم ثقل الجهاد القتالي في سبيل الله سبحانه وتعالى.


واليوم لو أننا فعلنا ما فعله ذلك الرعيل الأول، ولو أنا جاهدنا أنفسنا تنفيذاً لأمر الله، حررناها من ربقة الشهوات المحرمة، حررناها من ربقة حب المال، حب كنـز المال بعضه فوق بعض، لو أننا حررنا أنفسنا من الأخلاق الذميمة، ولو أنا مددنا جسور الود والقربى مع إخواننا المؤمنين تنفيذاً لأمر الله القائل: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ[ [الحجرات: 10] ولو أننا توَّجْنَا ذلك كله بالوقوف بين يدي الله عز وجل كل يومٍ كما أمر خمس مرات، نؤدي الصلوات في مواقيتها، ندخل ضيافة الله سبحانه وتعالى وقد استضافنا إليها في اليوم والليلة خمس مرات، لو أننا فعلنا ما كان يفعله الرعيل الأول، احتفظنا لأنفسنا بحق من قيام الليل من الهزيع الأخير في الليل نقوم والناس نيام، نخاطب الله، نجأر إليه بالشكوى، نسجد، نعفّر رأسنا بالأرض ونحن نخاطب الله ونستنـزل النصر من عليائه، لو أننا فعلنا ذلك كله، هذا جهاد، وكل ذلك بوابة الجهاد القتالي في سبيل الله، لو أننا فعلنا ذلك إذاً لخف ثقل الجهاد علينا، وإذن لكان اجتماع الكلمة متوَّجاً بالتنفيذ، وإذن لن يكون اجتماع الكلمة مجرد حوارٍ نزجي به الوقت في سهراتنا وفي أمسياتنا وفي أسمارنا كما هو الحال اليوم.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم. 

تحميل



تشغيل

صوتي