مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 12/03/2010

التكاليف الشرعية يسرها وعسرها

‏الجمعة‏، 27‏ ربيع الأول‏، 1431 الموافق ‏12‏/03‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن التكاليف الشرعية التي خاطبنا الله سبحانه وتعالى بها مهما اختلفت وتنوعت ليس فيها ما هو يسير بالنسبة للإنسان الذي استقبلها معتمداً على نفسه، معتمداً على ما يتخيل من قوته، وإن التكاليف الشرعية التي خاطبَنَا الله عز وجل بها على تنوعها واختلافها ليس فيها ما هو عسير قط بالنسبة للإنسان الذي استقبلها معتمداً على مولاه وخالقه، ملتجئاً إلى قوة ربه سبحانه وتعالى متبرئاً من حوله وقوته، هذه حقيقة ينبغي أولاً أن نتبينها جميعاً.


والمشكلة التي يعاني منها أكثر المسلمين اليوم أنهم عندما يتلقون التكاليف الربانية التي يخاطبهم الله سبحانه وتعالى بها يتلقونها معتمدين على أنفسهم، معتمدين على أوهام قوتهم وقدراتهم فيفاجَؤون بالعجز ويفاجَؤون بالضعف ومن ثم يتراجعون وينكِصون على أعقابهم بصدد هذه التكاليف أو أكثرها.


إذا ذُكِّرَ أحدهم بضرورة الابتعاد عما حرَّم الله سبحانه وتعالى من الفواحش، عما حرَّم الله سبحانه وتعالى من الموبقات والاستجابة للغرائز المنحرفة شكا عجزه وشكا ما يسميه بالتحديات التي تفاجئه.


وإذا ذُكِّرَ أحدهم بضرورة الالتزام بضوابط التعاملات الشرعية في السوق والابتعاد عن أسباب الفساد والإفساد فيه والابتعاد عما حرَّم الله سبحانه وتعالى من ألوان المنكرات المعروفة في السوق ومن ألوان المعاملات التائهة والشاردة عن أوامر الله سبحانه وتعالى شكا وتأفَّف مشيراً إلى عجزه، مشيراً إلى التحديات التي تواجهه ومن ثم تجعله عاجزاً عن الاستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى فيها ومن ثم يظل عاكفاً على انحرافاته المختلفة في السوق في المعاملات. وما أكثر أنواع التيه التي تعرفونها في المعاملات المالية المختلفة.


وإذا ذُكِّرَ أحدهم بضرورة الالتزام بالأخلاق الإنسانية الفاضلة في البيت داخل الأسرة إذا ذُكِّرَ أحدهم بضوابط تعامل الزوج مع الزوجة والزوجة مع الزوج ومسؤولية الآباء عن الأبناء عاد يتأفَّف وعاد يعلن عن عجزه وعاد يعبِّر عما يسميه التحديات التي تواجهه في المجتمع ومن ثم تجعله عاجزاً عن الانضباط بأوامر الله سبحانه وتعالى. ما السبب في ذلك؟


السبب أن هؤلاء الناس استقبلوا أوامر الله عز وجل وتكاليفه معتمدين على أوهام قوتهم، معتمدين على أوهام قدراتهم، وأنا أسأل هل في الناس قديماً وحديثاً من امتلك أو يمتلك قدرة ذاتية مستقلة يمارس بها شؤونه فضلاً عن أن يستجيب بها إلى أوامر سبحانه وتعالى وتكاليفه؟ هل في الرسل والأنبياء من اعتمدوا على قواهم وقدراتهم الذاتية بصدد الاستجابة لأوامر الله عز وجل فيما خاطبهم به؟ هل هنالك من صبر دون أن يصبِّره الله؟! هل هنالك من قَدَرَ على أمر ما دون أن يُقْدِره الله سبحانه وتعالى سبحانه وتعالى؟! ألم تقرؤوا قول الله عز وجل: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً﴾ [النساء: 28 [ألم تقرؤوا قول الله عز وجل: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4[


في منتهى العجز، في منتهى الضعف الذي يجعله يتحمل المشاق والجهد بصدد ما يريد أن ينفِّذه من أحكام. ألم تقرؤوا قول الله عز وجل: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذاريات: 50[


فروا إلى الله من ماذا؟ فروا إلى الله من ضعفكم، فروا إلى الله من عجزكم، فروا إلى الله مما تسمونه التحديات ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذاريات: 50[


تلك هي المشكلة التي يعاني منها كثيرٌ من المسلمين في عصرنا اليوم. وكلمة التحديات كلمة حديثة لم تعرفها الأجيال السابقة وإنما هي كلمة تدور على ألسن الذين فوجِئوا بعجزهم عندما اعتمدوا على أنفسهم، فوجِئوا بضعفهم عندما اتكلوا على قدراتهم فراحوا يعبرون عن ذلك بكلمة التحديات وإنها لكلمة ما عرفها أصحاب رسول الله ولقد كانت الجهود التي تحملوها أضعاف ما يتحمله كثيرٌ من المسلمين اليوم مما يسمونه التحديات.


استقبل التابعون أوامر الله وتكاليفه وفتحوا مشارق الأرض ومغاربها منفِّذين أوامر الله عز وجل ولم يتأفَّف أحد منهم ولم يشْك أنه يواجه ما يسميه بعضهم اليوم بالتحديات، ما الفرق بينهم وبين المسلمين- أو بعض المسلمين- اليوم؟! أولئك اتكلوا على توفيق الله واعتمدوا على قدرة الله، وكان ترجمان اعتمادهم على قدرة الله عز وجل الالتجاء الدائم والتضرع المستمر على أعتابه والانكسار الدائم بين يدي مولاهم وخالقهم عز وجل. بهذه الطريقة استنـزلوا القدرة من عند الله عز وجل، وبهذه الوسيلة – وسيلة الوقوف على باب الله، وسيلة التضرع الدائم على أعتاب الله، وسيلة الانكسار والتذلل الدائم بين يدي الله – استنـزلوا القدرة ومن ثم تحوَّل عجزهم إلى قوة وتحول ضعفهم إلى مُكْنَة، ولكنها ليست قدرتهم، إنها قدرة الله سبحانه وتعالى.


واليوم لو أن المسلمين الذين يتلقون ما تلقاه أسلافهم من أوامر الله سبحانه وتعالى وتكاليفه اتجهوا إلى ما اتجه إليه أسلافهم من التضرع على أعتاب الله ومن التمسكن أمام باب الله ومن التذلل والانكسار داعين متضرعين باستمرار دائم إذن لوجد هؤلاء المسلمون أن المعجزات التي متَّع الله بها عبادَه من الأجيال السابقة يمتِّعهم بمثلها اليوم أيضاً. سُنَّةُ الله عز وجل واحدة في عباده لا تتبدل ولا تتغير.


كلمة التكاليف – أيها الإخوة – مشتقة من الكُلْفَة، والكلفة تعني المشقة، ولله حكمة باهرة في أنه حمَّلَنَا ما حمَّلنا من المشاق التي يُعَبَّرُ عنها بالتكاليف، من أجل ماذا؟ من أجل أن توقظنا أعباء هذه المشاق إلى ذُلِّنَا، إلى عجزنا ومن ثم إلى عبوديتنا لله سبحانه وتعالى فتستيقظ مشاعر هذه العبودية بين جوانحنا ومن ثم نلتجئ إلى الله، ويكون التجاؤنا لا في ساعةٍ من نهار، لا، بل يكون التجاؤنا غذاءً مستمراً بين يدي نهوضنا بالتكاليف التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بها. ألا تقرؤون في كل يوم بين يدي الله عز وجل وأنتم واقفون بين يديه: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5] ما علاقة ﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ بقولنا ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ إياك نعبد دعوى نقولها، نقصد بذلك العزم والعقد بيننا وبين الله عز وجل على الاستجابة لأمره ثم إننا نعلن مع ذلك تماماً عن عجزنا وعن ضعفنا وعن أنا لا نملك أي قدرة على أن نستجيب ونتحقق بما عاهدنا الله عز وجل عليه ومن ثم نقول: ﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. كلمة ﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ هي التي تُدْخِلُ الروح والحيوية في قولنا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾. ألم تقرؤوا الله عز وجل – وهو يتحدث عن هذه السُّنة الربانية


﴿وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 42-44[


تلك سنة ماضية في عباد الله عز وجل، يأخذ الله عباده بالشدائد – أجل- لكن لماذا؟ من أجل أن تسوقهم عصي الشدائد إلى الله، من أجل أن يفرُّوا إلى الله سبحانه وتعالى


يا عباد الله: أوامر الله التي تلاحقنا ما أيسر أن ننفِّذها إن نحن التفتنا إلى الله، إن نحن هُرِعْنَا جاهدين ملتصقين بأعتاب الله، إن نحن نفَّذْنَا قول الله القائل: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذاريات:50 [


ما أيسر على الذين يشكون أنهم لا يستطيعون أن ينضبطوا بضوابط المعاملات المالية الشرعية في السوق، ما أيسر أن يتلزموا بها إن هم في الغدو والآصال التجؤوا إلى الله واستنـزلوا التوفيق من عند الله بصدق وبحرقة وانكسار، تنظر عندئذٍ وإذا التجار يلتزمون الجادة التي شرعها الله، لا يوجد في السوق فساد ولا إفساد لا في أقوات الناس ولا في المعاملات ولا في الرشاوي ولا في شيءٍ غير ذلك.


ما أيسر لمن يتعامل مع أهله في الدار ثم يشكو أنه يعاني من مشكلات داخل داره ولا يستطيع أن ينفِّذَ أوامر الله تجاه زوجته أو تجاه أولاده.


ما أيسر أن يجد الانقياد لأوامر الله يسيراً إن هو فعل ما قلته لكم، إن هو تبرَّأ من حوله وقوته والتجأ إلى الله التجاءً صادقاً منكسراً يقف موقف الشَّحَّاذ أمام باب الله عز وجل يقول له: يا رب أمرتني وأنا عاجز كلَّفْتَنِي وأنا ضعيف، هلاَّ أبدلتَ ضعفي قوةً، هلاَّ أبدلتَ عجزي مكنة، اللهم إني عبدك الضعيف ألتجئ إليك وأفرُّ من عجزي إليك؟ وإذا بالباري عز وجل يستجيب. ما من شاب من الشباب الذين يشكون إليَّ أنهم يريدون الاستقامة على صراط الله ولكن غرائزهم المهتاجة تدعوهم إلى الانفلات، إلى الشرود، ماذا نصنع؟ الباب مفتوح والدواء أمامك. الدواء أن تلتجئ إلى الله، قل واشك إلى الله حالك، اشك إلى الله ضعفك.


وقف أحدهم في بَهْوٍ في الجامعة يشكو إليَّ ضعفه وعجزه، يشكو إليَّ بحرقة أنه لا يريد أن يعصي الله ولكنه عاجز وهو طالب في الجامعة، نفسه تجمح به وتدعوه إلى ارتكاب المحرمات، ماذا أصنع؟ قلت له: أرأيت إلى هذا الانكسار الذي تبديه إليَّ، توجه بهذا الانكسار ذاته ولكن لا إليَّ، أنا ضعيف مثلك، توجه بهذا الانكسار إلى ربك، توجه بهذا الضعف إلى مولاك، توجه بهذا التذلل إلى خالقك، قل له في جنح الليالي، قل له في أوقاتك الخاصة: يا رب أنا أحب أن أطيعك ولا أحب أن أعصيك لكني ضعيف عاجز كما قد وصفتَ عبادك فيا رب أمكنِّي أن أكون عند أوامرك، أقدرني على أن أستجيب لحكمك. افعل هذا ولسوف تجد أن الله يقول لك: لبيك يا عبدي.


هذا دواء المسلمين اليوم يا عباد الله. قولوا لكل من يشكو ما يسميه التحديات على اختلافها - سواء تلك الآتية من آخر المغرب أو آخر المشارق أو تلك التي تنبع من مجتمعاتنا – قولوا لهؤلاء الذين يشكون ما يسمونه بالتحديات دواؤكم موصوف وعلاجكم موجود، استعملوه، إنه الالتجاء إلى الله، إنه التضرع الدائم، إنه الانكسار على أعتاب الله وانظروا كيف تجدون الاستجابة بعد الاستعمال.


أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي