مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 26/02/2010

لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم

‏الجمعة‏، 13‏ ربيع الأول‏، 1431 الموافق ‏26‏/02‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


مع استمرار نفحات ذكرى مولد المصطفى التي تهب علينا رياحها القدسية تعالوا نستمر في الإصغاء إلى هذا البيان الإلهي الذي يخاطبنا فيه قائلاً: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِيقُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾. علمنا بالأمس أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو فينا ومعنا وأن صلته بنا لم تنقطع، كانت بالأمس مع أصحابه البررة الكرام صلة جسم ورؤية وروح وهي اليوم معنا صلة حنين وشوقٍ وحب ومراقبة ولكن فاسمعوا كلام الله سبحانه وتعالى بعد ذلك وهو يصف لنا جانباً من رحمته بأمته ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ﴾، كثيراً ما كان الصحابة تدفعهم محبة الله ورسوله إلى أن يُحَمِّلُوا أنفسهم أكثر مما يطيقون بل أكثر مما كُلِّفُوا به فكان المصطفى صلى الله عليه وسلم يمنعهم من ذلك مبيناً أن طاقة الإنسان أقل بكثير من حبه، قد يكون حب العبد للرب قوياً جداً يجعله يحلم بأن ينهض بالخوارق والمعجزات التي تتكافأ مع حبه ولكن الله ابتلى الإنسان بالضعف ﴿وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾.


﴿جاءه كعب بن مالك رضي الله عنه، وقد كان من المتخلفين عن غزوة تبوك، جاءه بعد أن تاب الله عز وجل عليه يُهْرَعُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: يا رسول الله إن من توبة الله عليَّ أن أنخلع من مالي كله صدقة، قال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: بل أمسك عليك بعض مالك فذلك خيرٌ لك﴾، أي نعم إن حبك هذا يدفعك إلى أن تضحي بكل شيء في سبيل التعبير عن حبك، عن عبوديتك لله ولكن كيانك الجسمي الذي أقامه الله عز وجل في كيان كل إنسان لا يقوى على ذلك.


﴿ويروي الإمام مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه خطب في الناس فقال: يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل يا رسول الله ألكل عام؟ سكت عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى رددها الرجل ثلاثاً فقال: لو قلت نعم لوجبت ولا تستطيعون أيها الناس اتركوني ما تركتكم إذا أمرتكم بأمرٍ فافعلوه ما استطعتم وإن نهيتكم عن شيء فدعوه، فذلك هو معنى قول الله عز وجل: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾، إنها الرحمة التي أودعها الله عز وجل في قلب رسوله لأمته يبلغهم رسالات الله ولكنه في الوقت ذاته يعطف عليهم ويحنو عليهم، لا يريد أن يُحَمِّلوا أنفسهم شططاً، ما يريد أن يُحَمِّلوا أنفسهم عنتاً ولكن ما البديل؟ إذا كان الإنسان تهتاج بين جوانحه مشاعر الحب ولا يستطيع أن يُبْرِدَ لظى حبه إلا بالنهوض بكل ما يحلم به ولو لم يكن قادراً على ذلك ما الذي يُبْرِدُ لظى حبه في هذه الحال؟ يأتي الجواب عن هذا في بيان الله القائل: ﴿وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِيقُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾.


ما المعنى يا عباد الله؟ أي إن هنالك ما قد يشفع لكم في عجزكم عن القيام بما تحلمون به، هنالك ما يشفع لكم في عجزكم عن القيام بحق حبكم المهتاج بين جوانحكم لله سبحانه وتعالى، صحيح أن هذا الحب يدعوكم إلى أن تقوموا الليل كله تساهروه ساجدين راكعين مناجين لله، صحيح أن هذا الحب يدعوكم إلى أن تخلعوا عن أن أنفسكم انتسابكم إلى المال كله كما أراد أن يفعل كعب ولكن هنالك شيئاً يعيضكم عن ذلك كله، إنه هذا الإيمان الذي حببه إلى قلوبكم، إنه هذا الذي غرسه الله في قلوبكم من كراهية الفسق والعصيان والكفر، ربما قال قائل: ولكن المؤمن في كثيرٍ من الأحيان يعصي والمؤمن في كثيرٍ من الأحيان ينحط في الفسق والمؤمن في كثيرٍ من الأحيان يشرد عن أوامر الله سبحانه وتعالى فكيف يكون ذلك عوضاً له عن القيام بضريبة الحب الذي يهتاج لظاه بين جوانحه؟


تعالوا فتأملوا في الجواب الذي تعنيه هذه الآية يا عباد الله، الإنسان المؤمن لا يكون مؤمناً إلا والإيمان مرتكزٌ في زاوية الحب من فؤاده، لا يكون الإنسان مؤمناً إلا وهو كارهٌ للعصيان، كارٌ للفسوق والكفر ولكن كيف يفعل ذلك، كيف يعصي إذاً؟ قد يندلق إلى المعصية بسائقٍ من شهوته، بسائق من غريزته التي ابتلى الله الإنسانَ بها، قد يشرد عن صراط الله عز وجل وهو مؤمن بسائق من الغريزة التي تهتاج فتتغلب عليه في كثيرٍ من الأحيان ولكنه في الوقت ذاته وهو مؤمن يكره هذا الذي اندلق فيه، يكره هذا الذي زلَّتْ به القدم إليه، يكره ذلك، هذه الكراهة تحفزه بعد أن وقع في ما وقع من عصيان إلى أن يقبل إلى الله عز وجل تائباً، تحفزه هذه الحالة من كراهية المعصية التي ارتكبها، من كراهية الفسوق الذي جنح إليه، تحفزه هذه الكراهية إلى أن يقبل إلى الله متألماً نادماً باكياً تائباً وإذا بالذنب قد ذهب وإذا بالمعصية قد ذابت وقبل الله سبحانه وتعالى أوبته إلى رحاب الله سبحانه وتعالى، هذا معنى قوله عز وجل: ﴿وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِيقُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾.


لا يقولن قائل كيف هذا وفي المؤمنين من يرتكبون المعاصي والأوزار ويجنحون إلى الفسوق والعصيان؟ أجل ولكنهم في الوقت ذاته يكرهون هذا الذي وقعوا فيه ويتألمون من هذا الذي غُلِبَ على أمرهم، يتألمون من هذه الغريزة التي اهتاجت بين جوانحهم فدفعتهم إلى العصيان ومن ثم يعودون إلى رحاب الله تائبين، يعودون إلى رحاب الله سبحانه وتعالى راجعين مستغفرين. هذا الذي يقوله لنا الله عز وجل ما مؤداه يا عباد الله؟ معناه لا أُحَمِّلُكُم عنتاً، هذا كلام الله عز وجل، لا أُحَمِّلُكُم عنتاً في هذا الذي كلفتكم به، نعم إن مشاعر الحب إذا اهتاجت في القلب دفعت صاحب هذا الحب إلى أن يفعل المعجزات ليعلن بذلك عن حبه، يدفعه ذلك إلى أن ينفذ كل ما يمكن أن يجعله ضحيةً لحبه ليعلن بذلك لله عن حبه، حبه يدفعه إلى هذا ولكن ضعفه الذي ابتلاه الله عز وجل به يقف في طريقه بالمرصاد يمنعه من أن ينفذ ما قد فعل، نعم لقد كان ذلك الرجل الصالح المحب لله عز وجل يردد كلمة ما يفتأ يعبر بها عن حبه لله يقول:


وليس لي في سواك قصدٌ                فكيف ما شئت فامتحني


منطق الحب كان يحرك لسانه بهذه النجوى لله عز وجل ولكن هل استطاع أن ينجح في الامتحان، جاء الجواب من الله له، من الإله الرحمن الرحيم، ابتلاه الله بمرض، ابتلاه الله بحصر البول، صبر ثم إنه صبر ثم إن صبره نفد ثم إنه تَذَكَّر أن بين حبه المهتاج بين جوانحه وبين الحالة الجسمية التي أقامه الله فيها تناقضاً، الحب يدفعه إلى أن يفعل المعجزات والضعف الجسمي يقول له لا، علم أنه أخطأ في هذا فكان يخرج إلى السوق يلقى الأطفال يعطيهم الحلوى ويقول ادعوا الله لعمكم الكذاب، إنه ليس كذاباً ولكن منطق الحب تغلب عليه وأنطق لسانه بهذا الذي قال إلا أن ضعفه وكينونته الجسمية كل ذلك كان مناقضاً للحالة التي كان يعبر بها عن حبه. هذا هو الذي يعنيه بيان الله، أي لكم في هذا الحب الذي غرسه الله بين جوانحكم، حب الإيمان بالله عز وجل، لكم في هذا الذي غرسه الله عز وجل بين جوانحكم من كراهية الكفر، كراهية العصيان والفسوق ما يغني عن أن تستجيبوا للحب الصادق المهيمن على قلوبكم فتحاولوا أن تضحوا بجسومكم أو أن تتركوا أموالكم كلها وأن تنخلعوا عنها نهائياً، لكم في ذلك غنى، ما الذي يغنيكم عن ذلك؟ حب الإيمان، كراهية الكفر والفسوق والعصيان، هذا سيكون شفيعاً لكم وسيدفعكم هذا الحب إلى التوبة والأوبة. وإن الله سبحانه وتعالى عندما هيَّأ جنان الخلد لعباده الطائعين لم يهيئ هذا النعيم للمعصومين أبداً، لم يهيئ هذا النعيم لمن ارتقوا إلى درجة الملائكية وإنما قال: ﴿مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾ والأواب صيغة مبالغةٌ من آيب وكلمة آيب يعني راجع ومعنى الآية ﴿هذا﴾، أي هذا النعيم ما توعدون لكل رجاعٍ إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يكون العبد رجاعاً إلى الله إلا إذا كان كثير الشرود عن الله.


المؤمن واهن راقع فطوبى لمن مات على رقعه. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل من الإيمان الذي زيَّنَ به قلوبَنا ومن كراهية الكفر والفسوق والعصيان شفيعاً لنا إذا أُبْنَا إليه يوم يقوم الناس لرب العالمين.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم 

تحميل



تشغيل

صوتي