مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 19/02/2010

واعلموا أن فيكم رسول الله

‏الجمعة‏، 06‏ ربيع الأول‏، 1431 الموافق ‏19‏/02‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


في هذا الشهر شهر ربيعٍ الأنور تهب رياح أقدس ذكرى، ذكرى ولادة الحبيب الأعظم خاتم الرسل والنبيين محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في هذا الشهر المبارك تهتاج مشاعر الشجو والحنين بين جوانح كل من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسرت مشاعرُ من مشاعرِ الحب إلى قلبه، في هذا الشهر يشد الحنين والشجو كل الناس من أمة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى مرابع سيرته النبوية، إلى مشاهد حياته القدسية، في هذا الشهر المبارك تستيقظ مشاعر الحب لدى كل من قال بلسانه المصدق لقلبه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله


ولكني أحب أن أقول لكم يا عباد الله: إننا لم ننفصل عن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تحجزنا عن حياته القرون والسنوات المتباعدة كما قد نتصور أو كما قد يُخَيَّلُ إلى كثير منا، إن محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يزال فينا، ولا أقول معنا بل إنه صلى الله عليه وسلم حيٌّ في مشاعرنا، هو صلى الله عليه وعلى آله حَيٌّ في قلوبنا، هذا كلام الله عز وجل، وليس تخيلاً مني أو افتئاتاً وتصوراً على لساني، ألم يقل ربنا سبحانه وتعالى خطاباً لنا جميعاً: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ ولعلكم تعلمون أن القرآن إنما تنـزل خطاباً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم جمعاء في كل الظروف، في كل الأماكن وفي كل الأزمنة، فهو ليس خطاباً لأصحاب رسول الله وحدهم، وليس خطاباً لقرن أو قرنين من الزمن ذلك الذي يُنْعَتُ بعصر السلف، وإنما هو خطاب لكل من بُعِثَ إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآمنوا به، واستنّوا سنَّتَه، وبايعوه على السير على النهج الذي بُعِثَ به


 ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ دعوني أقف اليوم عند هذه الجملة في مفتتح هذه الآية ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ﴾، أما أصحابه البررة الكرام فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم بجسده وروحه، كانوا يجلسون إليه، وكانوا يسمعون منه، وكانت أعينهم تكتحل بمرآه، فهو فيهم جسداً وروحاً وبياناً ونطقاً ونصحاً، ولكن فما معنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال في الناس الذين جاؤوا من بعد عصر الصحابة؟ ما معنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال حياً فينا وليس معنا فقط؟


إنها معية الحب -يا عباد الله- معية حب المصطفى لأمته، لكل من سيأتي مع الزمن مؤمناً به ملتزماً بأوامره إلى أن تقوم الساعة، إنها معية الحنين منه عليه الصلاة والسلام إلى أولئك الذين آمنوا به ولم يرهم ولم يروه، إنها معية الشوق إلى أولئك الذين استبدَّ به صلى الله عليه وسلم الحنين إليهم، إنها معية الدعاء لهم، معية الدعاء الضارع لهم متجهاً بدعائه إلى الله سبحانه وتعالى، وأَنْعِم بها من معية، ألم تسمعوا ما قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تلا قول الله عز وجل على لسان عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ثم تلا قول الله عز وجل على لسان إبراهيم الخليل ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ استبدَّ به الحنين عندئذٍ إلى أمته، إلى الناس الذين لم يرهم والذين سيأتون من بعده.


بكى عليه الصلاة والسلام وقال: ﴿اللهم أمتي، اللهم أمتي، جاءه جبريل يسأله: ما الذي يبكيك يا محمد؟ فقال: أمتي، فأوحى الله عز وجل إليه عن طريق جبريل يقول له: لن نسوءك في أمتك﴾. ألم يبلغكم ما ورد في الصحيح أيضاً مما رواه مالك في موطئه وغيره أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم زار البقيع قبيل وفاته، فسلم على أهل البقيع، ثم قال: ﴿وددت لو أني رأيت إخواننا، قال له أحد أصحابه الذين كانوا من حوله: ألسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني أولئك الذين لم يلحقوا بعد، وسأكون فَرَطَاً لهم على الحوض، سأستقبلهم على الحوض، قالوا له: أوتعرفهم يا رسول الله؟ كيف وأنت لم ترهم؟ قال: أرأيتم لو أن رجلاً له خيولٌ غرٌّ محجلة وسط خيول دهم بهم -أي سوداء- أفكان يعرفها؟ قالوا: نعم. قال: فأنا أعرفهم غُرَّاً من آثار الوضوء ﴿


 أليست هذه معيةً يا عباد الله؟ أليس هذا مصداق قوله عز وجل خطاباً لنا: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾، أنْعِم بها من معية الحنين منه صلى الله عليه وسلم إلينا، نحن الذين تشرفنا بالإيمان به، ولكن أعيننا لم تكتحل برؤيته، أنْعِم بها من معيةٍ تلك التي تجعل المصطفى صلى الله عليه وسلم يتشوق إلينا، أنْعِم بها من معية تلك التي يعدنا من خلالها المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه سيستقبلنا على الحوض، وأنه سيسقينا من يده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها، ولا ريب أن ذلك عنوان لشيء أجلّ وأعظم ألا وهي الشفاعة التي سيكرمنا الله سبحانه وتعالى بها عن طريق رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، فتلك هي المعية التي عبَّر عنها البيان الإلهي خطاباً لنا ولأمته جمعاء ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾


 تلك هي المعية التي بينها الباري سبحانه وتعالى، والتي تتجه من رسول الله إلينا حنيناً وشوقاً وحباً، فأين هي المعية التي ترقى منا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين هو الحنين الذي يستبد بقلوبنا إلى حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ أين هو الشجو الذي يهيمن على القلبِ، قلوبِنا التي يفترض أن تكون ملتاعة بالشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين هو مصداق هذا الحنين إن قلنا: نعم إننا لنشعر بالحنين؟ مصداق الحنين أن نسير على النهج الذي سار عليه رسول الله، مصداق الحنين أن نلتزم بالأوامر والوصايا التي تركها لنا من بعده رسول الله، إن مصداق الحنين والشوق إلى رسول الله أن نلتزم بوصاياه التي وجهها إلينا، بل إلى أمته جمعاء يوم كان يؤدي حجة الوداع، ويوم خاطب أجيال المسلمين الآتين من بعد من خلال خطابه المودع المليء بالوصايا والنصائح والأوامر، أين هو الالتزام بهذا الذي أوصانا به رسول الله وتركه وصيةً علَّقها بأعناقنا من بعده؟ أين؟


 ألا ولتعلموا يا عباد الله أن المصطفى صلى الله عليه وسلم ليس ذا شخصية واحدة كما يتصور كثيرٌ من الناس اليوم أنه رسول بُعِثَ إلى الناس، فهو يبلغ عن الله عز وجل ما يوحَى به إليه وانتهى الأمر، لا، تلك هي شخصية النبوة، وهذه حقيقة، ولكن له شخصية أخرى وُجِدَتْ بل وُلِدَتْ عندما هاجر المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة، وأقام أول دولة إسلامية شهدتها أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد بعثته المشرفة، الشخصية الثانية للمصطفى صلى الله عليه وسلم أنه كان إمام المسلمين، أنه كان رئيس دولة، بهذه الشخصية كان يُجَيِّشُ الجيوش، بهذه الشخصية كان يعلن الحرب عندما يجد أن الضرورةَ داعيةٌ إلى إعلانها، بهذه الشخصية كان يبرم الصلح، بهذه الشخصية كان يسوس حال الغنائم والأسرى، بهذه الشخصية كان يُقْطِعُ ويُمَلِّكُ، هي شخصية إمام المسلمين، هي شخصية رئيس الدولة، وعندما لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى انقطعت البعثة لأنه خاتم الرسل والنبيين، ولكن لم تنقطع حقيقة الشخصية الثانية، بقيت متسلسلة إلى يومنا هذا، ولسوف تبقى متسلسلة إلى أن تقوم الساعة، ما معنى خلافة أبي بكر لرسول الله؟ أما البعثة فقد انتهت، ومعاذ الله أن يأتيَ نبيٌّ بعد المصطفى، إنها خلافة رئاسة الدولة تسلسلت منه إلى أبي بكر فعمر فعثمان فعليٍّ، وينبغي أن نعلم من هنا أن الإسلام دينٌ ودولة، أن الإسلام دينٌ يتمثل في الوحي الذي أنزله الله عز وجل على رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم هدياً وتشريعاً، وهو دولة تتمثل في الإمامة التي أناطها رب العالمين بشخص محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم آلت من بعده إلى من ينبغي أن يكونوا حراساً على دين الله، حراساً على أوطان المسلمين، حراساً على الحقوق ألا تُغْتَصَب، حراساً على كيان الأمة الإسلامية المتمثلة في الدولة الإسلامية التي ينبغي أن تبذل كل ما تملك في سبيل ردع ورد العدوان الذي يطمع في النيل منها، ينبغي أن نتمثل هاتين الشخصيتين في حياة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما بقية الآية، وأما المعاني الكثيرة التي تحضنها الجمل التالية منها، فأرجو أن يوفقنا الله سبحانه وتعالى للعودة إليها في موقف آخر.


أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي