مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 05/02/2010

الجهاد كلٌّ لا يتجزأ

‏الجمعة‏، 21‏ صفر‏، 1431 الموافق ‏05‏/02‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


قالوا: إن المصائب إذا استشرت وحَّدت المشاعر، وجمعت الشمل، وقضت على أسباب الخلاف، وصدق ما قالوا، فإن مجتمعاتنا الإسلامية تعيش اليوم عصر المصائب المستشرية من جراء تسلط قِوى البغي والشر على حقوقها المادية والمعنوية بل على وجودها الحضاري، وما البغي الإسرائيلي المهيمن على حقوق أمتنا الإسلامية جمعاء في فلسطين إلا الكتلة السرطانية التي تنشر آلامها وأوجاع مصائبها في مختلف بقاع مجتمعاتنا الإسلامية، ونحن نصغي إلى مشاعر الناس وهم يعانون من هذه المصائب ويرون انتشارها واتساعها، وإذا بمشاعرهم تتلاقى على هدف واحدٍ فعلاً، وإذا بهم جميعاً يرفعون لواء الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى على اختلاف مشاعرهم وعلى اختلاف مشاربهم ومذاهبهم وتوجهاتهم، وهذا هو مصداق ما قالوا: إن المصائب توحد المشاعر وتجمع الشمل.


ولكن الذي يفوت جُلَّ المسلمين معرفتُه هو أن الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى كُلٌّ لا يتجزأ يا عباد الله، هو كلٌّ متكامل يأخذ بعضه بِحُجُزِ بعض، ولا يتأتى فصل جزء منه عن الأجزاء الأخرى، فالجهاد القتالي جزءٌ من الجهاد الكلي الذي شرعه الله سبحانه وتعالى ولا يستقيم نهوض الأمة بهذا الجزء إلا إذا تكامل نهوضها بكل معاني الجهاد الذي شرعه الله سبحانه وتعالى.


 شرع الله سبحانه وتعالى الجهاد منذ فجر البعثة النبوية، أي قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، أي قبل أن يشرع الباري سبحانه وتعالى الجهاد القتالي، ومع ذلك فإن الأمر بالجهاد كان يتنـزل بين الحين والآخر على المسلمين من خلال الوحي الرباني من مثل قول الله عز وجل: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا[ [العنكبوت: 69] وقوله عز وجل: )وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ[ [الحج: 78] مع أن الجهاد القتالي لم يكن مشروعاً بعد، فما المراد بالجهاد الذي كان يدعو الباري سبحانه وتعالى عباده إليه وهم يعيشون في أوائل عهد البعثة النبوية؟ المراد من الجهاد الذي كان يتكرر على سمع المسلمين آنذاك هو أن يجاهدوا بعقولهم في سبيل معرفة الحق، وفي سبيل اليقين به، وفي سبيل أن يعرفوا حقيقة الكون والإنسان والحياة وعلاقة الإنسان بهذا الكون الذي يعيش فيه، وأن يعلم عبوديته ومملوكيته لله سبحانه وتعالى، فهذا أول معنى من معاني الجهاد الذي أمر به الله سبحانه وتعالى.


المراد بالجهاد الذي خاطب الله عز وجل به عباده آنذاك جهاد النفس، التسامي بها فوق الشهوات المحرمة، التسامي بها فوق الأهواء الجانحة، هذه الشهوات والأهواء التي كم وكم أفسدت الحرث والنسل، كم وكم أفسدت المجتمعات، كم وكم فتحت سبل تسرب الأعداء إلى الأمة وإلى استنـزاف حقوقها ومبادئها.


المراد بالجهاد الذي أمر الله سبحانه وتعالى به التجمُّل بالأخلاق الإنسانية الإسلامية الفاضلة ولا سيما داخل الأسرة، الأخلاق الإسلامية التي تتمثل في علاقة الزوج بالزوجة والزوجة بالزوج، والمتمثلة في واجبات الآباء تجاه الأبناء والأبناء تجاه الآباء.


المراد بالجهاد الذي أمر الله سبحانه وتعالى به التحلّي بالأخلاق الإنسانية الإسلامية في السوق، في أعمال التعامل، في أخلاق المعاملات المالية المختلفة. ثم إن المراد بالجهاد بعد ذلك الوقوف في وجه العدو المستشري، وردّ غائلة العدوان عن الأمة.


هذا هو الجهاد، كلٌّ لا يتجزأ، والأمر العجيب -يا عباد الله- أن في الناس -بل لعلهم أكثر الناس- من إذا تلاقوا في سهرات لهم، في أمسيات سلوى، في ساعات لهوٍ جلسوا يتذاكرون أمر هذه المصائب المستشرية في مجتمعاتنا، فاتّفقوا جميعاً على أن لا علاجَ إلا الجهاد في سبيل الله، يؤكد ذلك أحدهم وهو ينفخ دخينته، ويؤكد الثاني على قوله وهو يزداد اتّكاءً على أريكته، والكل يؤكدون هذا وهم عن بقية معنى الجهاد غافلون، وهم عن بقية ما أمر الله سبحانه وتعالى به معرضون، كم وكم في هؤلاء الذين يرفعون لواء الجهاد القتالي في سبيل الله من إذا سألته عن حقيقة المعتقد الإسلامي قال لك: أنا لست مختصاً بالدين، أنا مهندس، أنا طبيب، وكأن اصطباغ الإنسان بالهوية اختصاص من الاختصاصات، أليس هذا هو الواقع المرئي في مجتمعاتنا يا عباد الله؟!


كم في هؤلاء الذين يرفعون لواء الجهاد في سبيل الله، ويؤكِّدون أنه السبيل الأوحد الذي لا سبيل من دونه، كم في هؤلاء من يتمرَّغون في أوحال الشهوات المحرمة، من يتمرَّغون في أوحال الأهواء الجانحة، وأي الأهواء وأي الشهوات؟ تلك الشهوات التي تفسد الحرث والنسل -كما قلت لكم- تلك الشهوات والأهواء التي تُقَطِّعُ صلة القربى بين الإنسان وأخيه الإنسان، تلك الشهوات والأهواء التي تفتح السبل أو النوافذ أمام العدو المستشري ليتسلل منها إلى أوطاننا وإلى حقوقنا، كم وكم في هؤلاء الذين يرفعون لواء الجهاد في سبيل الله عز وجل في سهراتهم وأمسياتهم من إذا دخلت دار أحدهم، وبحثت عن الأخلاق الإنسانية الإسلامية المثلى في معاملة الزوج للزوجة أو الزوجة للزوج وجدت ذلك كله غائباً، يدخل الزوج ولا يبالي بإهدار شيءٍ من حقوق الزوجة، كم وكم سمعنا في المصلين، في الحجاج، في المتَّجِهين بين الحين والآخر إلى أداء العمرة من يمعن داخل داره بظلم زوجته، وينهال عليها ضرباً ولَكْماً، لماذا؟ لماذا تفعل هذا؟ قال: لأنني أكرهها، تكرهها! وهل كراهيتك لها جريمة ارتكبتها في حقك؟! أنت الذي ترفع لواء الجهاد بكلامك، ألم تقرأ قول الله عز وجل في صلاتك أو في نسكك: )وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً[ [النساء: 19]؟


وما أقوله عن معاملة الزوج للزوجة أقوله ربما عن معاملة الزوجة أيضاً في بعض الأحيان للزوج، الكلام ذاته يقال لدى البحث والتدقيق في الواجبات التي ينبغي أن ينهض بها الآباء تجاه أبنائهم، التربية الإيمانية المثلى التي وضعها الله عز وجل مسؤولية في أعناقنا غائبة، كذلكم الأبناء وهكذا، كم في الناس الذين يرفعون لواء الجهاد في سبيل الله متحمسين مُحَمِّسين كم في هؤلاء من إذا دخلوا السوق، ومارسوا الصفق بالتجارة والمعاملات المالية لم يبالوا باختراع ألوان الغش، بل سلسلة الغش المتنوعة التي يُبْتَدَعُ منها كل يومٍ بدعة جديدة، هل أحدثكم والوقت يضيق عن أنواع هذا الغش، عن أنواع هذا التكالب على حقوق الآخرين باسم المعاملات المالية؟ هل أعود فأحدثكم كما ذكرت لكم بالأمس عن أولئك الذين يقدمون الأغذية الفاسدة المتنوعة ولا يبالون بأن يملؤوا جيوبهم بالمال ثمناً لقتل الناس، ثمناً لبثّ أسباب الأمراض الوبيلة المهلكة في جسومهم؟ أأحدثكم كما ذكرت بالأمس عن المطاعم وما تقدمه من أصناف الأطعمة المجلوة جمالاً في الأعين والتي تملأ البطون بأسباب الهلاك عند الأكل والطعم.


 لن أعيد ما قد ذكرت، الجامع المشترك بين هؤلاء كلهم أنهم إذا تلاقوا تنفسوا الصعداء، وأجمعوا على أن لا سبيل إلا الجهاد في سبيل الله عز وجل، إذا تلاقوا في سهراتهم أو في أنديتهم أو في أي مناسبة من المناسبات الوطنية المختلفة صاحوا وهاجوا ورفعوا لواء الجهاد في سبيل الله، والله ينظر، والله يرى، وكأن الله يقول لعباده: الجهاد كُلٌّ متكامل لا يتجزأ، فإن قطَّعْتَ جزءاً من كله شُلَّ ومات وفارقته الحياة، روح الجهاد في سبيل الله الأخلاق الإسلامية )إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق[، روح الجهاد في سبيل الله التراحم الذي ينبغي أن يسري معناه دائماً بين أفراد الأمة على اختلافها، روح الجهاد القتالي في سبيل الله أن يشيع الوئام في داخل البيت، داخل الأسرة، أن يعلم الزوج وهو يدخل إلى داره أنّ تقربه إلى الله عز وجل بالبسمة في وجه زوجته، أن تقربه إلى الله سبحانه وتعالى باللطف مع زوجته يثيبه أكثر من حجه النافلة إلى بيت الله الحرام، وصدق رسول الله القائل: )إن أقربكم مني مجالس يوم القيامة ألطفكم بأهله[.


 هذا هو معنى الجهاد الكلي، ولعل غياب كلي معنى الجهاد هو السبب في أننا نرفع لواء الجهاد في سبيل الله صباح ومساء، ولا نجد روحاً تسري في هذا اللواء، لا نجد روحاً تسري في هذا التوجه، لأنه -أقول لكم بصدق- توجهٌ كاذب في أكثر الأحيان، أجل، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي