مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 08/01/2010

حقيقة الموت

‏الجمعة‏، 23‏ محرم‏، 1431 الموافق ‏08‏/01‏/2010


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


تعالوا أحدثكم اليوم عن حقيقة طالما تأفّف منها كثيرٌ من الناس، طالما اشمأز من الحديث عنها كثير من الناس، ألا وهي حقيقة الموت، ويا عجباً لأناس يشمئزون من الحديث عن هذه الحقيقة، ويتأفّفون ويفرّون منها، وهم يعلمون أن رسولهم صلى الله عليه وسلم هو القائل: ﴿أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات فإنه ما ذُكِرَ في كثيرٍ -أي من المعاصي- إلا قلَّلَه، وما ذُكِرَ في قليلٍ -أي من الطاعات- إلا كثَّره﴾    


يا عجباً لأناس يشمئزون من الحديث عن الموت، ويتأفّفون من ذكره وفتح ملف الحديث عنه، وقد أكد البيان الإلهي للإنسان أنه على موعدٍ مع هذه الحقيقة لن يستطيع شروداً ولا فراراً منها، أليس هو القائل: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 185] أليس هو الذي أكد هذه الحقيقة فقال: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [النساء: 78]؟ أليس هو الذي زاد هذه الحقيقة تأكيداً فقال: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ﴾ [الجمعة:8]؟ أليس هو الذي زاد الأمر تأكيداً وتبياناً إذ قال لرسوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر:30].   


عباد الله إن تذكر الموت مع معرفة حقيقته وما وراءه هو الذي يُقَلِّمُ أظافر البغي، وإن تذكر الموت مع معرفة حقيقته هو الذي يحطم أنياب الظلم والعدوان، وهو الذي يجتث الفساد بأنواعه من المجتمع    الموت -يا عباد الله- جعله الله عز وجل كابحاً ليستعين به الإنسان في منـزلقات الشهوات والأهواء والرعونات التي يجد نفسه سائراً إليها، كلنا نعاني من هذه المنـزلقات، منـزلقات الرعونات، الشهوات، الأهواء الجانحة، لا بد للإنسان لكي يتغلب على هذه الرعونات بعقلانيته من كابح، فما الكابح الذي يحمي الإنسان من هذه المنـزلقات؟ إنه الموت يا عباد الله.


ألا ترون إلى العربة التي يقودها صاحبها، نعم إن الإقلاع هو الذي يبدأ، ولكن التنبه إلى الكابح يكون أسبق من هذه البداءة، لا بد لهذا الإنسان قبل أن يقلع بعربته أن يتبين الكابح، وأن يتبين مدى أدائه لوظيفته، فالكابح في الأهمية مُقَدَّمٌ على عوامل الإقلاع، وإن كانت عوامل الإقلاع هي السابقة من حيث ما نرى، من أجل هذه الحقيقة قدَّمَ البيان الإلهي الموت على الحياة عندما خاطبنا فقال: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾  [الملك:1-2]. كثيراً ما سأل أناسٌ: لماذا قدَّم البيان الإلهي الموت والحياة قبلها؟ الجواب هو هذا، لأن الإنسان ينبغي أن يستبين الكابح، وأن يتبين أهميته، وأن يدرك ضرورة التعامل معه قبل أن يُقْلِعَ في المسير    تعالوا إذاً بنا نتأمل في هذا الذي يفرُّ منه كثيرٌ من الناس ولا فرار منه، تعالوا نتأمل في حقيقة الموت التي قضى بها الله سبحانه وتعالى على الإنسان.


هل الموت مصيبة يا عباد الله؟ في الناس من قد يخطئون فيتصورون أن الموت مصيبة، الموت ليس مصيبة للمَيْتِ، وإنما هو مصيبة لأقاربه وأحبابه وذوي رحمه، مصيبتهم تتمثل في الاستيحاش من غياب قريبهم، حبيبهم الذي غاب عنهم، المصيبة تتمثل في حنين الأقارب والأحباب إلى هذا الذي غاب عنهم، أما المَيْتُ ذاتُه فهو الذي يضع في حقيقة الموت معناه عندما كان حياً، أي إن الإنسانَ المقبلَ على الموت يملك أن يضع في الموت معنى العرس إن شاء، ويملك أن يضع في الموت معنى المصيبة الفادحة التي لا توجد مصيبة أفدح منها إن شاء، فالإنسان الحي هو الذي يضع في الموت حقيقته، ومن ثم فما ينبغي أن نتصور بإطلاق الكلام أن الموت مصيبة    متى يكون الموت مصيبة للحي؟ عندما يسير هذا الإنسان في فجاج الحياة وقد عرف خالقه وصانعه ومولاه، واصطبغ بحقيقة العبودية لهذا الإله، ثم أصغى إلى أوامره ووصاياه فنفذَّها كما طلب، سار في فجاج الحياة يمسك بموازين العدل، لا يظلم، لا يبغي، لا يعتو ولا يستكبر، سار في فجاج الحياة وهو يغرس في جنباتها أسباب الصلاح وعوامل الحب والود وعوامل صلة القربى، لا أقول بين الأقارب فقط، بل بين أفراد الرحم الإنساني أجمع، هذا الإنسان الذي يتسامى على البغي، يتسامى على العدوان، يتسامى على الغش، لا يخدع إخوانه في الإنسانية، لا يغشهم في معاملة أياً كان نوعها، لا يفسد في الأرض بعد أن أصلحها الله عز وجل، وسلَّمها الله لعباده صالحة، نفَّذ قول الله عز وجل: ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا﴾ [الأعراف:56]، أصغى إلى بيان الله سبحانه وتعالى القائل: ﴿لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص:76]، فقال: سمعاً وطاعةً يا رب ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص:77]، أقبل إلى الله قائلاً: سمعاً وطاعةً يا رب ﴿وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾ [القصص:77]، قال: نعم يا رب، عاهدتك ألا أفسد، عاهدتك ألا أبغي ولا أظلم، عاهدتك أن أمسك بميزان العدالة الذي أنزلته لعبادك في الأرض، لن أسير بين الناس إلا محتكماً إلى هذا الميزان.


هذا الإنسان -يا عباد الله- سيقبل الموت إليه عرساً، أجل، علم ذلك من علم وجهله من جهل    أما الإنسان الذي أعرض عن هويته، أعرض عن مملوكيته لله سبحانه وتعالى، أما الإنسان الذي استجاب لرعونات نفسه فطغى وبغى واستكبر، وأخذ يفسد في الأرض، ويبْدِلُ إصلاح الله لها فساداً، وأخذ يغش ويخدع ويستلب الحقوق إن بصورة بارزة أو بصورة خفية، وسار على هذا النحو، فلسوف يستقبل الموت مصيبة وأي مصيبة، وعندما يدخل عليه ملك الموت يتبين ذلك تماماً، وانظروا في هذا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ﴿من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه،﴾. قالت عائشة: أهو الموت يا رسول الله؟ فكلنا يكره الموت، قال: ﴿ليس ذاك، ولكن المؤمن -أي المؤمن الصالح الذي وصفْتُه لكم الآن- إذا دنا إليه الموت بُشِّرَ بلقاء ربه، فلم يكن شيءٌ أمامه أحب إليه من الموت، وأما الكافر -أي الطاغي والباغي والمفسد في الأرض- فإذا دنا منه الموت بُشِّرَ بمقت الله وسخطه، فلم يكن شيءٌ أبغضَ وأخوفَ إليه من الموت﴾ هذه الحقيقة ينبغي أن نعلمها عباد الله.


وانظروا إلى هذا الكلام الذي قاله ذلك العالم الرباني سلمة بن دينار للخليفة سليمان بن عبد الملك وقد جاء يزوره، جلس إليه كما يجلس المريد بين يدي شيخه، نعم هو خليفة جلس بين يدي سلمة بن دينار كما يجلس المريد بين يدي شيخه، قال له: يا أبا حازم لماذا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم وخرَبْتم آخرتكم، فكرهتم أن تنتقلوا من دار عمارٍ إلى دار خراب، سكت ثم قال: ليت شعري كيف القدوم غداً على الله؟ قال له: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالعبد الآبق، أي الهارب، يقدم على مولاه، استعبر سليمان بن عبد الملك باكياً.   


إذاً هذا هو الموت يا عباد الله. أنت تستطيع أن تجعل من الموت الذي أنت مقبل إليه عرساً وأي عرس، وتستطيع أن تجعل من الموت الذي أنت مقبل إليه مصيبةً تنسيك لذائذ الدنيا، تنسيك كل ليالي لهوك وفرحك وشؤونك، فيا عجباً لمن يلح على أن يجعل من الموت الذي هو مقبل إليه مصيبة وهو يملك أن يجعل من الموت الذي هو مقبل إليه عرساً.   


عباد الله لماذا لا نتعامل مع عقولنا وقد متعنا الله عز وجل بالعقل؟ نحن في هذه الدنيا نشبه أحد رجلين في المثل التالي، رجل استأجر داراً إلى عشر سنوات وله دارٌ خربة على مَقربة من هذه التي استأجرها، أما الفريق الأول من الناس فعندما دخل الواحد منه إلى هذه الدار، وقد رأى فيها أسباب المتع وعوامل رغد العيش، ورأى فيها كل ما هو بازخٌ من الفرش والأثاث ونحو ذلك، أنساه ذلك كله خربته التي هي على مَقربة منه، فلم يتعدَّها بالترميم، وأسكرته الدار التي استأجرها، وظل يتقلب في نعيم تلك الدار التي سيرحل عنها عما قليل حتى إذا مرَّتْ السنوات العشر أقبل إليه صاحب الدار وقال: لقد انتهت مدة الإيجار فاخرج، صحا في تلك الساعة هذا الإنسان من سكر نعيمه، ونظر إلى الدار الخربة التي هي على مقربة منه، فقالت له بلسان حالها، أنا آسفة، لست مهيأةً لك، خرج إلى العراء. أما الآخر الذي استعمل عقله استأجر هذه الدار وتقلب، نعم، في نعيمها، وتمتع برغد العيش فيها، لكنه كان يتعهد داره الخربة كل يوم ساعةً أو ساعتين يصلح منها ما فسد، ويرمم منها ما اعوج، ويجددها جهد استطاعته، حتى إذا مرَّتْ السنوات العشر، وجاء ميقات خروجه من هذه الدار، وجاءه صاحب الدار يطلب منه الخروج منها، نظرت إليه الدار وكأنها عروس مجْلُوَّة تقول له: مرحباً بك، لقد تهيأت لك، تهيأت لك لأنك أعطيتني من حياتك حقاً، لأنك كنت تتعامل مع الدنيا من خلال كفتي ميزان كفة الحياة التي تعيشها، وكفة الحياة التي أنت مقبل إليها   


عباد الله الموت ليس كما يتصور الغربيون، وقد وصلت إلينا اللوثة منهم، ليس عدماً، الموت مرحلة ثالثة من مراحل أربعة للحياة، احفظوها وأنا أقول بلسان العلم ولست أقول بلسان الخرافة التي يعيش كثيرٌ من الناس في عششها؛ المرحلة الأولى هي حياة الأجنة، هي حياة الجنين في عالم الرحم، المرحلة الثانية هي هذه الحياة الدنيا التي نتقلب في فجاجها، أما المرحلة الثالثة فهي الحياة البرزخية التي نحن على موعدٍ معها، وأما المرحلة الرابعة فهي الحياة الأخيرة التي نحن على موعدٍ معها، ولتعلموا أن كل مرحلة من هذه المراحل الأربع أوسع وأقوى من المرحلة التي قبلها، فمرحلة الحياة البرزخية التي نحن على موعدٍ معها من خلال بوابة الموت أقوى وأوسع من هذه الحياة التي نتقلب فيها، يتهيأ فيها الإنسان للنعيم إن كان أهلاً للنعيم، ويتأهل الإنسان فيها للعذاب إن كان مؤهلاً للعذاب، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه يغفر لكم. 

تحميل



تشغيل

صوتي