مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 18/12/2009

الهجرة: دروس وعظات

‏الجمعة‏، 02‏ محرم‏، 1431 الموافق ‏18‏/12‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


وهكذا تمر بنا مرة أخرى ذكرى هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم  من مكة إلى المدينة يحتضنها عام هجري جديد، تمر بنا هذه الذكرى كعادتها في صمت وتواضع لا تُعَبِّرُ عنها إلا العطلة الرسمية التي تلفت الأنظار وتنبه السادرين وتوقظ الغافلين، ولعله صمت تواضع وخشية ولعله صمت تدبر وتأمل، إذاً تعالوا نستثمر هذا الصمت، نستثمره لاقتطاف العبرة وللوقوف أمام بعضٍ من دروس هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم  هذه.


عباد الله دعونا نتساءل أفكانت هجرة النبي عليه الصلاة والسلام اجتواءً من مكان لأنه فضَّل عليه مكاناً آخر؟ معاذ الله، لم يكن فضل مكة أقل من فضل المدينة المنورة عند الله وعند رسوله، إذاً ما الذي دعا المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أن يهجر مكة وهي البلدة ذات القداسة التي لا ريب فيها؟ الذي دعاه إلى أن يهاجر عنها الابتعاد عما يبغض الله، الابتعاد عن رؤية المحرمات التي لم يعد يستطيع القضاء عليها، الذي دعاه إلى الهجرة أن المدينة المنورة تنتظره ليشيد عليها أول دولة من دول الإسلام، ليشيد عليها المجتمع الإسلامي الذي يحتضن ويتبنى مبادئ الإسلام وشرائعه والذي يَبْتَعِدُ ويُبْعِدُ سائر ما حرمه الله سبحانه وتعالى عن تلك الأرض.


إذاً هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لم تكن اجتواءً لمكان لأنه فضل مكاناً آخر عليه ولكن هجرته كانت إلى تلك الأرض التي يتسنى له فيها أن يطبق مبادئ الإسلام وأن ينفذ شرائع الله عز وجل وأن يطهرها من الموبقات والمحرمات، وإذا كان الأمر كذلك فالهجرة بهذا المعنى باقية إلى يوم القيامة لأنه مبدأ نطق به المصطفى صلى الله عليه وسلم بسلوكه قبل أن ينطق به بلسانه أن الأرض التي يجد المسلم نفسه فيها غريباً لا يستطيع أن ينفذ فيها أوامر الله ولا يستطيع فيها أن يتقي رشاش المعاصي التي قد تصيبه من هنا أو هناك.


إذاً ينبغي بل يجب عليه أن يدع تلك الأرض ويهاجر منها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتغي أرضاً أخرى يستطيع فيها أن يؤدي رسالة الله، يستطيع فيها أن يبتعد عما حرَّمَ الله سبحانه وتعالى، هذا الذي فعله المصطفى هو ذاته الذي ينطق به بيان الله القائل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾  [النساء: 97-98].


والآن ونحن نمر بهذه الذكرى أو قل إن هذه الذكرى العزيزة تمر بنا كما قلت لكم في خشوعٍ وهدوءٍ وتواضعٍ وصمتٍ أين هم الذين يقطفون منها ثمار العبرة؟ أين هم المسلمون الذين يقطفون من هذه الذكرى الدروس والعظات التي نطق بها رسول الله بسلوكه والتي بيَّنَها بيان الله عز وجل بأبلغ بيان؟ كثيرون هم المسلمون الذين طاب لهم المُقام في مجتمعات الإسلام فيها غريب بل الإسلام فيها محكومٌ وليس حاكماً يقول أحدهم إن بلسان حاله أو بلسان مقاله إن تطبيق الإسلام الذي أمر الله عز وجل به لا يتأتَّى مع العيش الذي ينبغي أن نوفره لأنفسنا، العيش المترف، العيش الباذخ، إذاً فلنغمض العين عن كثير مما أمر الله به مما لا يتأتَّى لنا تنفيذه في هذا المكان الغريب، إن المجتمع ليس مجتمعاً إسلامياً وإن التيارات الحاكمة فيه ليست تيارات مهتدية بهدي الإسلام.


إذاً فلنغمض العين ولنصدر الفتوى التي تنطق بأن الربا لم يعد محرماً ذلك لأن الضرورة تقتضي ذلك، وما الضرورة؟ الضرورة هي البقاء مع العيش الباذخ، الضرورة هي التقلب بنعيم ورغدٍ من العيش، هذه هي الضرورة، إن النظام الإسلامي للأسرة لا يتأتَّى تطبيقه هناك ولابد من البقاء إذاً فلنغمض العين عن كثيرٍ مما شرع الله عز وجل من أحكامٍ تتعلق بالأسرة ولنصدر الفتوى المؤكدة بأنه لا حرج من أن تتزوج الفتاة المسلمة من رجل غير مسلم مخالفين لنص كتاب الله سبحانه وتعالى، ويقول قائلهم إننا نعيش في مجتمع الإسلام فيه غريب ولا يتأتَّى لنا أن ننفذ ما قد أمر الله مما نقرؤه في محكم تبيانه أو مما نردده على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذاً فلا حرج من أن نحتك بالمحرمات ونجالس العصاة ونجلس مع المعاصي، لا حرج من أن نرى المعاصي في المجالس ولا حرج من أن نرى محرمات الله عز وجل تُنْتَهَك لأننا نعيش في مجتمع لا يعرف معنى للإيمان ولا للإسلام والضرورة تقتضينا البقاء.


ما هي الضرورة؟ الضرورة كما قلت لكم أن الواحد منهم لا يتأتَّى منه أن يترك عيشه الباذخ، لا يتأتَّى منه أن يترك نعيمه الذي يتقلب فيه، لقد تعود على ذلك ولابد أن يبقى وأن يستمرئ هذه الحياة التي اعتاد عليها.


رسول الله صلى الله عليه وسلم  يستجيب لأمر ربه فيهاجر الأرض التي أحبها، يهجرها، الأرض المقدسة التي لا تقل قداسةً عن المدينة المنورة لأنه يريد أن يهجر المعاصي، يريد أن يهجر المحرمات، بل لأن عليه أن يبتعد عن رؤية المحرم الذي لا يستطيع إنكاره ولا يستطيع القضاء عليه، هكذا يفعل رسول الله وهكذا يوصينا وهكذا يعلمنا بل هكذا يأمرنا كتاب الله عز وجل وفي المسلمين كثرة كاثرة تعرض عن هذا الذي فعله رسول الله وتتناسى في يوم ذكراه، يوم هجرته هذا المعنى الذي أقوله لكم، تُصَنَّعُ الفتاوى تلو الفتاوى تلوى الفتاوى حسب الطلب، حسب ما تقتضيه الظروف.


وشيءٌ آخر يا عباد الله، كثيرون هم الذين يقيمون في تلك المجتمعات يخدمون إن باختصاصاتهم العلمية وإن بأعمالهم الوظيفية المختلفة يخدمون أولئك الذين يخططون للقضاء على حضارتنا، يخططون للقضاء على حقوقنا، يخططون لترسيخ أقدام الصهيونية العاتية وربيبتها إسرائيل في بلادنا ومع ذلك فإن حسهم الديني لا يدعوهم إلى أن يتركوا ذلك المكان وأن يوفروا علومهم لبلدهم وأن يوفروا اختصاصاتهم لمجتمعاتهم الإسلامية، ذهبوا إلى هناك ليتعلموا، تعلموا وتخصصوا ثم إن المُقام طاب لهم هناك لأن العيش هنالك رغيد ولأن المال الوفير وفير بل أكثر من وفير والنفس تتعشق ذلك كله ولذلك طاب لهم أن يعرضوا عن نداء رسول الله بل طاب لهم أن يعرضوا عن أمر الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [النساء: 97].


والعجب أيها الإخوة أنني رأيت في هؤلاء الناس من يقرأ آيةً في كتاب الله عز وجل ثم إنه يستنكر أنه لا يجد مصداقها، الآية التي تلاها هي قوله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾ [لأنفال: 36]، قال قائلهم ها هم ينفقون أموالهم ثم إنهم يَغْلِبُون ولا يُغْلَبُون، وأقول في الجواب: اقرأ الآية التي تليها مباشرة فإن فيها الجواب عن سؤالك يا هذا ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾ [لأنفال: 37]، ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [لأنفال:37]، أرني الطيب وكيف يتميز من الخبيث لأريك كيف يتغلب الطيب على الخبيث ولكن عندما أنظر فأجد أن الخبيث قد امتزج بالطيب بل تمازجا حتى إنك لا تستطيع أن تستبين فرقاً بينهما فليس لك أن تعترض على بيان الله قط، هذه عبرة من العبر بل هو درس من الدروس التي ينبغي أن نقف عندها وأن تتشبع عقولنا منها ثم نطبقها في حياتنا.


فهل عسيتم يا عباد الله أن تجددوا اليوم البيعة مع مولانا وخالقنا، أن نكون على قدم المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما فعل، الضرورة! الضرورة هناك وليست الضرورة متمثلة في حياة من يستمرئون العيش الرغيد في المجتمعات الغربية، الضرورة تتمثل في أولئك الذين تركوا بيوتهم، تركوا بلغة عيشهم بل فيهم من ترك زوجته، من ترك ضروريات عيشه ليلحق بحبيبه المصطفى، ليوجَدَ فوق أرض يستطيع أن يتنفس فيها الصعداء معبراً عن استجابته لأمر الله عز وجل، هكذا يكون المسلمون الصادقون، وعندما نعيد سيرة ذلك الرعيل الأول بسلوكنا فلسوف نجد مصداق قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾ [لأنفال: 36]


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي