مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 11/12/2009

سبب التخلف والتقدم

‏الجمعة‏، 24‏ ذو الحجة‏، 1430 الموافق ‏11‏/12‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن في الناس من يسأل مستشكلاً: إذا كان سبب تخلف المسلمين والابتلاءات والمصائب التي تنحط فيما بينهم إعراضَهُم عن الإسلام، وإعراضَهُم عن الالتزام بشرائعه وأحكامه، فما بال دول الغرب وهي مغرقة في الكفران والإعراض عن الدين كله، ما بال دول الغرب متقدمة لا تعاني من تخلف، ولا تعاني من الابتلاءات والمصائب التي تنحط فيما بيننا؟ هذا السؤال هو ما قد وعدت أن أجيب عنه في هذا اليوم المبارك، وأسأل الله سبحانه وتعالى لنا التوفيق.


عباد الله إن الكتاب الذي أنزله الله على رسوله خطاباً لنا يتضمن سنناً وقوانين ألزم الله عز وجل بها ذاته العلية تجاه عباده، من تأمل في هذه السُّنَن لم يستشكل من مثل هذه الأسئلة شيئاً، ولكن معظم الناس عن سنن الله في كتابه غافلون ومعرضون. هنالك سُنَّتَان، أو نقول: قانونان ألزم الله عز وجل بكل منهما ذاته العلية: أحدهما تجاه عباده المؤمنين، والآخر قانون ألزم الله عز وجل به ذاته العلية تجاه عباده المعرضين.


أما القانون الأول فهو قوله عز وجل: )وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً[ [النور: 55] وأما القانون الثاني الذي ألزم الله عز وجل به ذاته العلية تجاه عباده الشاردين عن أوامره وشرائعه فهو قوله سبحانه وتعالى: )مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [هود:15-16]


هل تأملتم يا عباد الله في كلٍّ من هذين القانونين؟ تعالوا نتأمل في الأول منهما، يقول مولانا وخالقنا عز وجل: )وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ[ أي ليجعلن زمام الحضارة الإنسانية في أيديهم )وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً[ أي ليبعدنَّ عنهم أخطار الأعداء والطغاة، ومن ثم فلسوف يعيشون أمناء مطمئنين يتقلبون في نعمهم وأوطانهم، لكن لمن هذا الوعد؟ لمن آمن بالله حقَّ الإيمان ولمن فسَّر إيمان الصادق هذا بالانضباط بأوامر الله والابتعاد عن نواهيه وهذا معنى قوله: )وَعَمِلَ صَالِحاً[، ينفِّذُ شرائعه، وهو واثق بأنها هي التي تسعد، وهي التي تحقق للإنسان رغد العيش في دنياه وآخرته، كل من التزم بهذا لا بد أن يمتّعه الله عز وجل بالتقدم بدلاً من التخلف، ولا بد لهذه الأمة أن يجعل الله عز وجل زمام الحضارة في أيديها، وأن يكرمها بطمأنينة العيش والأمن بعيداً عن المخاوف وبعيداً عن طغيان الطغاة، فهل التزمنا بهذا الذي ألزَمَنَا الله عز وجل به.


أجبتُ عن هذا في الأسبوع الماضي، نعم مساجدنا تفيض بالمصلين، لكن تعالوا نضع إلى جانب هذا الكمِّ الهائل الآخر من أولئك الذين جعلوا نسبتهم إلى الإسلام نسبة صورية شكلية فلكلورية، تعالوا ننظر إلى الكم الهائل الذين أعرضوا عن شعائر الله ووجباته وفي مقدمتها الصلاة )إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً[ [النساء: 103]، تعالوا إلى أولئك الذين يرفعون فوق رؤوسهم لواء الحداثة، وينظرون إلى التاريخ الأغر الإسلامي الماضي على أنه عَودٌ إلى الظلامية وعَودٌ إلى القيود التي تتعارض مع الحضارة الإنسانية المثلى، أليس كذلك؟! هذا هو السبب في أن الله عز وجل لم ينفذ في حقنا ما ألزم به ذاته العلية، أين العمل الصالح؟! والعمل الصالح كلمة تستوعب كلَّ ما في كتاب الله من شرائع وأوامر وتحذير من النواهي.


أما القانون الثاني الذي يعبر عنه بيان الله بقوله: )مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ[ انظروا إلى قوله: )نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا[  أي كل من بذل جهداً في سبيل الوصول إلى غاية، كل من بذل عرقاً، كل من أضنى نفسه في سبيل هدف لا بد أن يكرمه الله عز وجل بتحقيق الغاية التي سعى إليها مؤمناً كان أو كافراً، كل أمة أضنت نفسها، وأتعبت أيامها ولياليها في سبيل الوصول إلى حضارة، في سبيل الوصول إلى مظهر من مظاهر العيش الرغيد أو نعمة من النعم أياً كانت، وأتعبت نفسها في ذلك، فإن الله قد ألزم ذاته العلية أن يوصلها في الدنيا إلى الغاية التي كانت تَتَطَلَّبُها هذه الأمة، فإن كانت مؤمنة فذلك نعيم عاجل ووعد بنعيم آجلٍ أيضاً، وإن كانت غير مؤمنة فإن الله يكرمها بما سعت إليه في الدنيا ثم يقول: )أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [هود: 16].


إذاً عُرِفَ الجواب يا عباد الله. هذه الأمم التي تعيش في الغرب، وننظر فنرى حضارتها تتألق بالشكل على أقل تقدير، حضارتها نتيجة جهود بذَلَتْهَا وبذلها من قبل الآباء والأجداد، الحضارة الرومانية إنما هي نسيج جهود، نسيج علوم، نسيج جهاد بذلته تلك الأمم، وورث اليوم أحفاد تلك الأمم جهود آبائهم، بل جهود أنفسهم أيضاً، فما الاعتراض على أناس ألزم الله عز وجل ذاته العلية أن يحقق لهم في الدنيا ما قد سعوا من أجله؟ )مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ[.


أما نحن فتعالوا نتساءل: الحضارة الإنسانية البازخة التي تمتع بها تاريخنا الأغر نتيجة ماذا كانت؟ أفكانت نتيجة جهودٍ بذلها العرب في جزيرتهم العربية كالجهود التي بذلها الرومان واليونان؟ أفكانت الحضارة التي أشرقت للتوّ فجأة في الجزيرة العربية، ثم انتشر إشراقها إلى العالم كله نتيجة جهودٍ قام بها ودراساتٍ علمية عكف عليها أولئك الأعراب الجاهلون؟


لا يا عباد الله، كلكم يعلم أن الجزيرة العربية كانت مضرب المثل في الجهالة والتخلف، ولكن لما أشرقت بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم مجدِّدَةً رسالة الإسلام التي ارتضاها الله عز وجل لعباده سرعان ما أقبلوا إلى هذه الرسالة فآمنوا بها أولاً، وأخلصوا لله في تنفيذها ثانياً، والالتزام بها والجهاد دونها ثالثاً، عندئذٍ قفز بهم قضاء الله عز وجل وإحسانه إلى قمة التقدم فجأة وطفرة دون أن يتخذوا إلى ذلك مسلك التعلم ومسلك العلوم ومسلك الجامعات التي أقيمت ومسلك الجهاد والضنى في سبيل الحضارة كما فعلت الإمبراطورية الرومانية واليونانية، طفرة قفز بهم إحسان الله عز وجل إلى قمة الحضارة خلال عشرين عاماً، بأي سر؟ بسر انضباطهم بأوامر الله، بسر تمسكهم بصدق برسالة الله، فحق عليهم أن ينفذ الله فيهم قوله: )وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ[ [النور: 55].


واليوم إلى ما آل حال أولئك الناس بل أحفاد أولئك الذين أخلصوا لله؟ إنكم لتسمعون، وإنكم لترون أن كثرة كبرى من الناس تتبرّم بهذه الرسالة التي شرفت تاريخنا وشرفت سلفنا وأجدادنا، إنكم لتعلمون أن في الناس كثرة يصفونها بالظلامية، ويصفون الحنين إلى ذلك التاريخ بالرجوع إلى عهود الظلام، وإنكم لتعلمون أن في أحفاد ذلك الرعيل من يسيل لعابه على أنظمة الغرب، من يريد أن يبتعد عن نظام الأسرة الإسلامية التي شرفها الله بالحضارة الإنسانية المثلى، ويريد أن يقتفي وراء آثار الغرب في أمر الأسرة التي تحولت اليوم إلى أطلال، إنكم لتعلمون ذلك، فما الغرابة في أن يعود الأمر بنا نحن المسلمين شيئاً فشيئاً إلى ما كنا عليه قبل بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم.


لسان حال سنن الله يقول: لقد رأيتم ألق الحضارة وتمتعتم به عندما كنتم صادقين ومخلصين لرسالة الله التي هبطت إليكم من السماء، ورأيتم كيف أن الله قفز بكم قفزاً وبطفرة وخلال عشرين عاماً إلى قمة الحضارة الإنسانية وأنواع التقدم، واليوم ما دمتم قد اجتويتم هذا السلم الذي رقى بكم، وما دمتم قد تبرمتم به تنظرون إليه نظرة اشمئزاز ونظرة من أكل من طعام ثم أكل حتى ملَّ وقَرَفَ منه، إذاً فتعالوا )وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ[ [الأنبياء: 13]، إن كانت لكم جهودٌ بذلتموها في سبيل حضارة فلكم أن تحصنوا حضارتكم بجهودكم التالدة، وأما إن كانت حضارتكم وكان تقدمكم كل ذلك جاء طفرة بسبب صدقكم مع الله، وبسبب التزامكم لأوامر الله، واليوم أردتم أن تخلعوا رداء هذا العز الذي متعكم الله به، إذاً عليكم أن ترجعوا إلى ما قد كنتم عليه، ما الغرابة في هذا؟   


فإن جاء من يقول: ولكن لماذا لا يرجع أولئك الناس في غرب العالم أيضاً إلى التخلف وهم أيضاً معرضون بل أكثر منا، معرضون عن رسالات الله، الجواب: عودوا إلى القانون الثاني الذي ألزم الله عز وجل به ذاته العلية، أولئك ناس بذلوا العَرَق في سبيل ما وصلوا إليه، أولئك أناس وَرِثوا هذه الحضارة عن أبٍ عن جدٍّ عن تاريخٍ أغرَّ قديم، فمن حقهم أن ينالوا ثمرات جهودهم، من حقهم أن ينالوا الغايات التي حفيت أقدامهم سعياً إليها، وأنا لا أظلم )مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ[ [هود: 15] عالوا أضرب لكم هذا المثل -يا عباد الله- لعله يجسد ما أقول، رجل شهم كريم غني مرَّ بأسرة تعيش في العراء، تعاني من الفقر، تعاني من العدم والضنى، أخذته الشفقة على هذه الأسرة، فحلمها وأسكنها في دارٍ رائعة منيفة فيها كل أنواع النعيم، فيها كل ما لذَّ وطاب، وأجرى على هذه الأسرة أيضاً جرايةً من المال لا تنقطع، مرت مدة من الزمن والأسرة لا تنكر فضل هذا الإنسان، ولكن لما تكاثرت النعمة أمامها، ولما تقلبت بمزيد من الرفاهية فالرفاهية، وطاف سكر النعيم برؤوس أفراد هذه الأسرة، نسي أفرادها هذا الذي تفضَّلَ عليهم، وأخذوا يظهرون له الإعراض عنه، والتعالي عليه، ونسيان فضله، شيءٌ منطقي وطبيعي أن يطرق عليهم الباب فيقول: يبدو أنكم استغنيتم الآن عني، ولم تعودوا بحاجة إلي، فاخرجوا وانطلقوا وعيشوا في ممتلكاتكم التي تعبتم في سبيل الحصول عليها. فإن قال قائلهم: ولكن ألا ترى إلى البيوتات الأخرى لماذا لا تخرج أصحابها منها أيضاً؟! سيقول لهم: لا أولئك تعبوا وملكوا هذه الأرض وابتنوا عليها هذه البيوت، فنالوا حظوتهم بعرق جبينهم لا ينبغي أن أخرجهم، أما أنتم فلا تملكون شيئاً، لعلكم تملكون خارج هذه الدار أشياء فاخرجوا إلى ممتلكاتكم.


أقسم بالعلي الأعلى -يا عباد الله- إن هذا المثل صورة مصغرة عن حال المسلمين في هذا العصر، وأسأل الله عز وجل أن يوقظ المسلمين إلى الشرف الذي متعهم به، وأن يعيدهم إلى ألق الحضارة الإنسانية المثلى التي متعهم الله عز وجل بها عندما كانوا صادقين مع الله، عندما كانوا أمناء مع شرع الله، عندما كانوا يرفعون الرأس عالياً بِذُلِّ عبوديتهم لله عز وجل.


أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه يغفر لكم.


 

تحميل



تشغيل

صوتي