مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 04/12/2009

اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي

‏الجمعة‏، 17‏ ذو الحجة‏، 1430 الموافق ‏04‏/12‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن النعم التي امتنَّ الله عز وجل بها على عباده كثيرة ومتنوعة ولكن ليست هنالك نعمة امتنَّ الله عز وجل بها على عباده كنعمة الإسلام الذي شرَّفهم به، تأملوا في هذا التمنُّن الذي نتبينه في كلام الله عز وجل وهو يخاطبنا به، يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ أي كل النعم التي أغدقها الله عز وجل على الإنسان منذ نشأته إلى قيام الساعة نعم ناقصة لا يتممها إلا شرف هذا الدين الذي كلفهم به بل الذي شرفهم الله عز وجل به، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ أي لقد تخيرت المذاهب والسبل والمبادئ كلها فما وجدت سبيلاً يضمن لكم سعادة العاجلة والعقبى إلا هذا الذي اخترته لكم، إلا هذا المبدأ الذي أحببته لكم ورضيت أن تلتزموا به فهو الذي يضمن لكم سعادة العاجلة في الدنيا والآجلة في العقبى.


ولعلكم تعلمون يا عباد الله أن هذا الإسلام الذي شرفنا الله به وامتن علينا به ليس خاصاً بأمة دون أمة ولم يشرِّف به بعثة نبي دون نبي بل ما أُرْسِلَ الأنبياء والرسل جميعاً إلا بهذا الدين وما شرفهم الله عز وجل وشرَّف أممهم وأقوامهم إلا بهذا الذي يمتن الله سبحانه وتعالى علينا به، أليس هو القائل: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ﴾ أليس هو القائل عن سيدنا عيسى ابن مريم على نبينا وعليه السلام: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ ألم يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن يعقوب قائلاً: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، هذا هو الدين الذي شرف الله عز وجل به الإنسانية جمعاء منذ فجر وجودها إلى أن يقوم الناس لرب العالمين.


عباد الله لو أن الإنسان عرف قيمة هذه النعمة لرفع رأسه عالياً بها ولما شعر وهو يعيش دنياه هذه بنشوة من خلال نعمة وفدت إليه من عند الله عز وجل كما يشعر بالنشوة التي تطوف برأسه إذ يجد نفسه قد اصطبغ بهذا الدين، إذ يجد نفسه قد اصطبغ بهذه القيم التي شرفه الله سبحانه وتعالى بها، هذه حقيقة ينبغي أن نتبينها، وما شرع الله عز وجل ما شرع من مبادئ خاطبنا بها لمنفعة تعود إلى ذاته العلية، حاشاه، فهو إله قبل أن يخلقنا وقبل أن يخاطبنا بهذه المبادئ وهو الغني عن عباده جميعاً لكنه شرفنا بهذه المبادئ وبهذه القيم لأنها مفتاح سعادتنا ولأنه السبيل الأوحد إلى النهضة الحضارية المثلى التي يسعد بها الفرد وتسعد بها الجماعة، هل رأيتم مشكلة من المشكلات المتنوعة المتمثلة في المشكلات الاجتماعية أو الاقتصادية أو العلمية أو التي تتمثل في الضعف بعد القوة أو الفرقة بعد الاتحاد ولم تجدوا في دين الله عز وجل الذي شرفنا الله به دواءً لهذا الداء، يا عجباً يا عباد الله لمن يرمي بهذا الدواء إلى أقصى الشرق أو الغرب ويفصله عن دائه ليبعده عما جعله الله عز وجل دواءً له يفصل بينهما فصل ما بين المشرقين، لماذا؟


 هذه نعمة دلَّ التاريخ القصي البعيد والقريب على أن أدواءنا، أمراضنا المختلفة إنما جعل الله عز وجل دواءها في هذه الشِّرْعَة التي امتن علينا بها، في هذا المبدأ الذي أخذنا الله عز وجل به، مشكلاتنا حُلَّتْ بالأمس عن طريق هذه القيم ولا يمكن أن تُحَلَّ اليوم إلا عن طريق هذه القيم.


بالأمس قبل شهر ونيف دُعِيْتُ إلى لقاء مع ثلة من السواح الأجانب فجلست إليهم في قاعة من هذا المسجد المبارك وقام القوم يسألونني كلٌّ يسألني عما بدر إلى ذهنه وعن المشكلات التي تطوف برأسه، قامت امرأة عرَّفَتْ على نفسها أنها امرأة فرنسية ذات مكانة مرموقة في أمتها ودولتها، قالت لي: مشكلتان اثنتان إلى اليوم لم نستطع أن نحل أيَّاً منهما، الأولى مجتمعاتنا الغربية الرجال فيها ينظرون إلى النساء نظرة دون، عند التعامل يتجلى هذا بشكل واضح وحاولنا جاهدين أن تكون المستويات في مختلف مجالات التعامل بين الرجل والمرأة واحدة ولكنا لم نفلح إلى اليوم، معاملة الرجل للمرأة تنبئ عن نوعٍ من الازدراء لها ولم نستطع إلى اليوم حلاً لها، أما المشكلة الثانية فهي أننا كنا ولا نزال نناضل في سبيل أن يكون أجر المرأة على العمل كأجر الرجل تماماً ولكننا لم نستطع أيضاً حل هذه المشكلة، هل من سبيلٍ عندكم لحل هاتين المشكلتين؟


طافت بذهني نشوة للجواب الذي لم أنطق به بعد عندما سمعت هذا السؤال، قلت لها: أما ما يتعلق بسوء التعامل من الرجل للمرأة عندكم، هذا السوء الذي ينبئ عن نظرة دونية فلقد عالج هذه المشكلة كتاب الله عز وجل، عالج هذه المشكلة المبدأ الذي خاطبنا الله عز وجل به وأمَرَنَا أن نأخذ أنفسنا به وذلك إذ قال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، أرسى بيان الله ما تسميه الشريعة الإسلامية الولاية المتبادلة بين الرجل والمرأة أي أن المرأة في مبدأ الإسلام وشرعته تمارس الولاية على الرجل في الأسرة والرجل أيضاً يمارس في الوقت ذاته الولاية على المرأة في الأسرة وكلا الولايتان تتعانقان في سبيل تحقيق السعادة إن في المنـزل أو في المجتمع، الولاية المتبادلة شرعة الله التي لا يعلم القانون الوضعي إلى اليوم معنى أو تطبيقاً لها.


أما المشكلة الثانية وهي مشكلة دنو أجر المرأة في العمل عن أجر الرجل فلقد حلَّها البيان الإلهي ومن ثم حلَّتْها الشريعة الإسلامية عندما قال لنا الله عز وجل: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، إذا قدَّمْتُ لك الجهد اللائق بما قد طلبْتَهُ ما ينبغي أن تبخسه لي سواء كنتُ رجلاً أو امرأة، شريعة الله عز وجل تقرر أن الأجر في العمل على الإتقان في العمل وليس على هوية العامل، لا علاقة لهوية العامل بالأجر الذي يستحقه العامل وإنما المناط إتقان العمل، هكذا قررت الشريعة الإسلامية استجابة لأمر الله القائل ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ﴾ وهكذا قررت في كلٍّ من باب الجعالة والإجارة. أجبت، لساني كان يجيب ببيان الحكم وفكري كانت تطوف به نشوة حمداً لله عز وجل على هذه الشرعة الغراء التي سما الله سبحانه وتعالى بها، سما بالإنسان إليها.


عباد الله ألم يئن لنا جميعاً ولإخوة لنا أن يعلمون أن أدواءنا التي نعاني منها، لا والله ليس لها من دواء إلا هذا الذي شرفنا الله به ومن ثم امتن علينا الله عز وجل به، أتريدون دليلاً فوق دليل البيان الواقعي الميداني تعالوا أقل لكم دليلاً مختصراً لا يسمح هذا الوقت بأكثر منه، إنما تنهض الأمة نهضتها الحضارية المثلى عن طريق التعاون أولاً، هي الخطوة الأولى، ولكن لابد لكي يؤتيَ التعاون ثماره أن تشيع بين المتعاونين الثقة فلئن لم تكن هنالك ثقة بين الجهات المتعاونة فإن التعاون يصبح أنكاثاً لا جدوى من ورائه، الثقة هي روح التعاون بين الجهات المتعاونة، والثقة من أين تأتي؟ إنما تأتي الثقة من الأخلاق الإنسانية المثلى، أخلاقك الإنسانية المثلى عندما تتلألأ في كيانك تبعث في نفسي الثقة بك وأخلاقي الإنسانية المثلى عندما تتجلى لك تبعث في نفسك الثقة بي ولكن من أين تأتي الأخلاق الإنسانية المثلى؟


لا والله لن تأتي الأخلاقية الإنسانية المثلى إلا عندما يقف الإنسان أمام مرآة ذاته فيعلم أنه عبد مملوك لله عز وجل وأنه إنما يتحرك بقبضة الله وأن الله الذي أمره ونهاه يراقبه، إن أحسن له الأجر الكبير يوم القيامة ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وإن أساء فله العقاب الوبيل الذي ينتظره، عندما أصطبغ بهذه الحقيقة تنبع مبادئ الأخلاقية الإنسانية المثلى في كياني، عندئذٍ أوثرك على نفسي، عندئذٍ إذا اضطرِرتُ أضحي بمصلحتي في سبيلك، عندئذٍ يتحقق التعاون الذي تسري فيه روحه، وروحه كما قلت لكم الثقة، هذا هو الدليل الذي ينبغي أن نتبينه جميعاً يا عباد الله.


لعل فينا من قد يقول وها نحن ولله الحمد نرى أن المسلمين بخير، نرى المسلمين مصطبغين بإسلامهم ولا أدل على ذلك من أن مساجدهم تفيض كما هو الحال الآن بالمصلين، بالراكعين الساجدين فما لنا نجد مشكلاتنا تتفاقم دون حل؟ وأقول لهذا الذي قد يسأل هذا السؤال لا تقف عند المشاهد والصور، لا تحبس عينيك عند المظاهر، اخترق المشاهد والمظاهر إلى ما وراء ذلك تجد نقيض هذا الذي تقول، ما الذي تراه إن اخترقت صورة المساجد التي تفيض بالمصلين؟ ما الذي تراه إن اخترقت صورة الناس الذاهبين الآيبين إلى بيت الله الحرام حجاجاً ومعتمرين؟ تجد القِطَاعاتِ الكثيرة من الناس الذين لا يعلمون من إسلامهم الذي شرفهم الله به شيئاً، لو سألت واحداً منهم عن مبدأ بدهي من مبادئ الإسلام لرفع رأسه معتزاً وهو يقول لست متخصصاً بالدين وكأن الدين الذي شرفنا الله به اختصاص يختص به أناس دون ناس وكأننا لسنا نحن الذين خاطبنا الله قائلاً: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾.


تجاوز الظاهر تجد الكثير والكثير ممن ينعت هذه الشرعة التي شرفنا الله بها والتي هي الدواء لكل مشكلاتنا ينعتنا بالعود إلى العهود الظلامية الغابرة، ينعت الذين يريدون عوداً حميداً إلى المبادئ والقيم التي شرفنا الله عز وجل بها ينعت هذه الرجعة إلى رجعة إلى نوعٍ من الظلام، إلى نوعٍ من التخلف وكأنما الإسلام ليس هو السُّلَّم الذي صعد منه أولئك الأعراب أعراب البادية إلى الحضارة المثلى خلال عشرين عاماً، تأمل فيما وراء هذه المشاهد التي تحبس نفسك فيها تأمل فيما وراءها، قل لي كم هم عدد الذين يستجيبون لأمر الله القائل: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾، كم هم الذين لا يستخفون بالصلاة إذا حان ميقاتها، كم هم الذين يتسامون ويترفعون عن الاستجابة لهذا الأمر الرباني.


لا، الأمر ليس كما نتصور يا عباد الله، ولكن الإشكال لم ينته بعد، إن فينا من قد يقول فهاهم أولاء أمم الغرب، ها هي ذي المجتمعات الغربية تتمتع بحضارة متقدمة وتتمتع بتقدمٍ تقني وعلمي وحضاري واجتماعي واقتصادي دون أن تلتزم بهذا الشرف الذي امتن الله عز وجل علينا به فما الجواب؟ لو أن الوقت لم يضق عن الجواب لحدثتكم في الجواب عنها حديثاً يشفي الغليل، حديثاً يضعنا أمام الحق الأبلج ولكن الوقت ضاق وأسأل الله عز وجل إن متعني بالحياة وجمعني بكم في الأسبوع القادم أن أجيب عن هذا السؤال مفصلاً. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي