مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 27/11/2009

الوظيفة والضمان

‏الجمعة‏، 10‏ ذو الحجة‏، 1430 الموافق ‏27‏/11‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


ليس فينا -نحن المسلمين- من لا يعلم أن الله سبحانه وتعالى إنما أقام الإنسان في هذه الحياة الدنيا على وظيفة شرفه بها، وكلفه بمهمة أقامه عليها، وهذا هو معنى الاستخلاف الذي خاطب الله عز وجل به الملائكة إذ قال: )إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[ [البقرة: 30]، وكلنا يعلم أن الله عز وجل قد ضمن للإنسان الذي كلفه بما كلفه من وظيفة شرفه بها ضمن له في هذه الحياة الدنيا رزقه، ضمن له رغد عيشه، ضمن له أمنه وطمأنينته، ألزمه بوظيفة كلفه بها، وضمن له في مقابل ذلك بكل ما يحتاج إليه في حياته، وسخَّرَ له المكونات التي من حوله ضمانة لذلك، ومع هذا فإنك لتنظر فتجد أن أكثر الناس تائهون عن هذه المهمة التي خُلِقُوا من أجلها، يلهث أحدهم وراء ما قد ضمنه له الله عز وجل، ويُعْرِض عما قد كلفه الله عز وجل به، هذا هو الغالب اليوم في حياة الإنسان وتعامله مع الله.


تقول لأحدهم وهو يلهث وراء تجارته بل تجاراته المتنوعة، يمضي ليله ونهاره كادَّاً متعباً في سبيلها، تقول له: يا هذا ألم يضمن الله سبحانه وتعالى لك رغد عيشك؟ فلماذا لا تلتفت إلى الوظيفة التي أقامك الله عز وجل عليها؟ لماذا لا تُقْبِل على كتاب الله عز وجل تتأمل من خلاله واجباته التي خاطبك بها، وظيفتك التي أقامك عليها؟ فيجيبك قائلاً: إنني لست غافلاً عن هذا الذي تقول، إنني أنتظر ريثما أفرُغ من عملي التجاري هذا الذي أخذ عليَّ الوقت كله، وبمجرد أن أنتهي إلى ما أريد، وأنجح في شؤوني وعملي التجاري لسوف أقبل إلى الله عز وجل وإلى كتابه، ولسوف أشمّر عن ساعد الجدّ لأداء الوظائف التي كُلِّفْتُ بها.


 وتقول لآخر وقد أكرمه الله عز وجل بالرزق الوفير والمال الكثير، ومتعه برغد العيش، وهو مع ذلك يلهث وراء المزيد والمزيد، تقول له: يا هذا ألم يئن لك أن تلتفت إلى ما قد طلبه الله منك؟ ألم يئن لك أن تؤدي المهمة التي قد خُلِقْتَ من أجلها؟ فيجيبك قائلاً: ليس بيني وبين أن أنهض بهذا الذي تقول سوى أن أنتهي من مشاريعي الاستثمارية والتجارية المختلفة، وبمجرد أن أنجح فيها لسوف أنشئ مشفاً ومستوصفاً للفقراء، ولسوف أجعل عشرين بالمئة من أرباحي التجارية للفقراء والمدقعين والمرضى، يقول لك هذا الكلام، وتلتفت إلى طائفة الموظفين وأصحاب الرتب الحساسة فيهم، فتقول لهم أو تقول لكل واحدٍ منهم: ألم يئن لك أن تلتفت إلى ما قد أقامك الله عز وجل عليه؟ كتاب الله يلاحقك، وأنت معرض عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشرح لك ويحذرك، وأنت تائه عنه لا تعلم فرقاً بين آيةٍ في كتاب الله ولا حديثٍ من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجيبك هذا الذي تقول له هذا الكلام: ليس بيني وبين أن أتقاعد عن الوظيفة إلا سنوات قليلة أو أشهر معدودة، ولسوف أتّجه رأساً بعد ذلك حاجّاً إلى بيت الله الحرام، ولسوف تجدني عندئذٍ في أول صفٍّ في المسجد أؤدي مع الناسكين والمصلين فرائض الله سبحانه وتعالى، فإن قلت له: فما الذي يمنعك من أن تؤدي أوامر الله الآن؟ نظر إليك محدقاً، وذَكَّرَكَ بأنه يمر بوظيفة، وأنه يمر بعمل حساس وهكذا.    


أأزيدكم من الأمثلة يا عباد الله؟ هذا وإننا جميعاً نقرأ كتاب الله، وننظر كيف أن الله كلَّفنا بأمر وكلَّف ذاته العلية تجاهنا بضمانات، قال لنا: )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ[ [الذريات: 56-58]، ويقول: )وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[ [طـه:132]، ويقول مؤكداً: )مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ[ [النحل:97] انظروا إلى العقد بين الله والعبد، أما وظيفتي فيعبر عنها الشطر الأول من الآية )مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى[ وأما الضمانة التي أخذها ربنا على ذاته العلية لنا فقوله عز وجل: )لَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً[، لماذا يفصل هؤلاء الناس بين الدين الذي كُلِّفُوا به، والدنيا التي ضمنها الله عز وجل لهم، يضع الواحد منا نصب عينيه أنه سيمضي شبابه وريعان عمره ومرحلة النشاط حياته من أجل رغد عيشه، من أجل دنياه، من أجل تجارته ومزرعته وما إلى ذلك، حتى إذا ولَّى الشباب، وجاءت الكهولة، وتراجع النشاط، أخذ يمضي ثمالة عمره مقوس الظهر معتمداً على عكاز، عندئذٍ يتذكر أوامر الله، عندئذٍ يتذكر الوظيفة التي خُلِقَ من أجلها، ألا يُخْجِلُ هذا الأمر الذي نرى أنفسنا وكثيراً من الناس عليه؟ أليس أمراً مخجلاً؟ وربنا سبحانه وتعالى يرى ويراقب.


    ماذا نقول لهؤلاء الناس -يا عباد الله- بعد أن نُذَكِّرَهُمْ ببيان الله، وبعد أن نُذَكِّرَهُمْ بالضمانات التي أكدها الله سبحانه وتعالى لهم، نقول أولاً: من الذي أنبأكم بالمقدار الذي كُتِبَ لكم أن تعيشوه من الحياة التي تتقلبون فيها؟! أيُّ خبر صادق جاءكم من عند الله يقول: إن الواحد منكم سيعيش إلى أن يقطف ثمالة عمره، سيتجاوز الشباب إلى الكهولة فالشيخوخة وعندئذٍ يلتفت إلى أوامر الله؟! كم من شاب تخطّفه الموت وهو في ريعان الشباب، كم من إنسان وضع نصب عينيه المشاريع المختلفة، ثم إن الموت عاجله وسارعه وكان كامناً خلف أذنه، أنت لا تدري وأنت تقف في الطابور الطويل أمام بوابة الموت لا تدري أأنت تقف في مقَدَّمَةِ الطابور أم مؤخرته أم بين المقدَّمَةِ والمؤخرة، أنت لا تعلم، كيف تضمن لنفسك أن تعيش حياة تجارتك كلها، وتعيش أيام تقلبك من أجل دنياك ورفاهية عيشك، حتى إذا وصلتَ إلى خاتمة عمرك وجَّهْتَ هذه الخاتمة إلى الله، من الذي أدراك بهذا؟ إنها رقية شيطان يوسوس لك.


شيءٌ آخر نقوله، وإنه لأمر دقيق يجب أن نعلمه جميعاً يا عباد الله، ربنا سبحانه وتعالى جعل من تعاليم الدين ووظائفه التي كُلِّفْنَا بها ضابطاً ومنظماً لأنشطتنا الدنيوية، شاء الله عز وجل أن يجعل من أحكام الدين وشرائعه المختلفة المتنوعة، وفي مقدمتها العبادات التي تعلمون شاء الله عز وجل بل أمر أن تُمْزَجَ بالأنشطة الدنيوية المختلفة؛ لتكون وظائف الدين وشرائع الله منظمةً لأنشطتنا الدنيوية، ضابطةً لتوجهاتنا إلى دنيانا المختلفة، ويأتي ناس من الناس، بل هم اليوم أكثر الناس، فيفرقون بين الدنيا والدين الذي خلقنا الله عز وجل لأجله، ويقررون في منهجية عجيبة أن يعيشوا أيامهم الطويلة وأنشطتهم المقبلة، يعيشوا للدنيا، حتى إذا حانت النهاية، وقَرُبَ الأجل طُوِيَتْ عندئذٍ الدنيا وتم الإقبال إلى الدين، من الذي قال: إن الأمر هكذا يكون؟ أيها الإخوة ألا فتعلّموا أن الدين بالنسبة للدنيا كالملح والسمن بالنسبة للطعام، فلتعلموا هذه الحقيقة، هل هنالك عاقل يُنْضِجُ طعامه، ثم إنه يضع وعاءً فيه الملح وفيه السمن مستقلاً إلى جانب والطعام الذي أنضجه موضوع إلى جانب؟!


ستقدم الضيوف فيضع أمامهم الطعام الخالي من الدهن والملح يقول لهم: كلوا، ولسوف يأتي ميقات تناول الملح والسمن من بعد، إنه لحمق عجيب، أرأيتم إلى الدين بالنسبة للدنيا، الدين من الدنيا كالملح والسمن بالنسبة للطعام الذي تنضجه، إذا أقبلت إلى دنياك تنشط في سبيلها، أقبلت إلى تجارتك، مشاريعك الاستثمارية المتنوعة، وظائفك المختلفة المتنوعة وقد أبعدت سلطان الدين عن ذلك كله واضعاً نصب عينيك أنك ستقبل إلى الدين بعد ذلك، فأنت مثل هذا الأحمق إذاً الذي يضع الطعام أمام الضيفان منفصلاً عن سمنه وعن ملحه، حتى إذا أكلوا الطعام قال لهم: تفضلوا، والآن أقبلوا إلى السمن والملح، حقيقة بدهية تغيب اليوم عن أفكارنا وأمورنا وأنشطتنا العجيبة أيها الإخوة.


هل سمعتم أن رئيس دولة أرسل موظفاً من كبار موظفيه إلى بلدة في دولة نائية ليؤدي مهمة شرفه بها، وصل هذا الموظف إلى تلك البلدة، لا شك أن السفير هناك سيستقبله، ولا شك أن رئيس الدولة قد حقق له سائر الضمانات لكي يعيش عيشاً هنيئاً، ولكي يتقلب في رغد من العيش، وهيأ له علاوة من المال أيضاً في سبيل أن يجد الطريق معبّداً للقيام بالمهمة التي كُلِّفَ بها، أرأيتم لو أن هذا الإنسان ذاق طعم المتعة التي وُضِعَتْ أمامه، ذاق طعم المقومات التي هيأها من أرسله إلى ذلك المكان، منزل فاره، كل مقومات العيش الرغيد، كل ما يحتاج إليه وأكثر مع العلاوات المالية والمادية، نظر إلى ذلك كله فَسَهَا به عن المهمة التي أُرْسِلَ من أجلها، سها بهذا الإكرام عن الواجب الذي أنيط بعنقه، سَكِرَ بذلك، وأخذ يتقلب فيما قد هُيِّئ له من رغد العيش وأسباب النعيم والمتعة، وعاد خالي الوفاض لم يُؤَدِّ شيئاً مما قد كُلِّفَ به، والله الذي لا إله إلى هو هذا هو شأن الإنسان الذي أرسله الله إلى الحياة الدنيا مكلفاً بوظيفة، مكلفاً بمهمة وقد ضمن الله عز وجل له رغد عيشه، ومع هذا فهو لم يمنعه من أن يقبل إلى دينه ودنياه، لكن كما يفعل العاقل إذ يمزج السمن بالطعام الذي ينضجه، ويمزج الملح بالطعام الذي يهيئه.


أسأل الله عز وجل أن يوقظنا من هذا السبات قبل فوات الأوان، غداً إذا طرق الموت باب أحدنا، ووجد نفسه أمام ضجعة الموت لا عودة ولا رجوع، وكُشِفَ له ما كان خفياً، وجاء البيان الإلهي يقول له )فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[  [قّ: 22]، عندئذٍ سيأكل الندم قلبه، ولسوف تهتاج نيران الألم بين جوانحه، ولكن ما الفائدة؟ ذهبت الفرصة.


عباد الله فرصتنا سانحة، والوقت لم يفت بعد، نحن عبيد لله عز وجل، خُلِقْنَا لمهمة، خُلِقْنَا لأداء رسالة، ليس التكريم الذي كَرَّمَ الله عز وجل به عباده إلا ترجماناً لهذه الرسالة التي حُمِّلَهَا )وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً[ [الاسراء: 70] فما مآل ذاك الذي أعرض عن الرسالة التي حُمِّلَهَا وركل هذا التكريم بقدمه؟ ذاك هو الذي ينطبق عليه قوله تعالى: )ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ[  [التين: 5] للهم لا تجعلنا منهم، اللهم اجعلنا ممن تفاعلوا مع الوظيفة التي كلّفتَهم بها، أخضعنا يا مولانا للرسالة التي حَمَّلْتَنَا إياه، يا هادي المضلين اهدنا إلى سواء صراطك المستقيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي