مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 30/10/2009

مُطِرنَا بفضل الله وإحسانه

‏الجمعة‏، 12‏ ذو القعدة‏، 1430 الموافق ‏30‏/10‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


روى البخاري في صحيحه من حديث زيد بن خالد الجهني قال: )صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر في الحديبية، فلما انصرف قال: هل تدرون ما قال ربكم الليلة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال الله عز وجل: أصبح الليلة من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطِرْنَا بفضل الله وإحسانه فهو مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مُطِرْنَا بنوء كذا ونوء كذا فهو كافر بي مؤمن بالكواكب[.


وأقول: أما نحن وقد أكرمنا الله عز وجل بفيض من رحمته وبمطر غامر من إحسانه، أما نحن فنقول: اللهم إنا مُطِرْنَا بفضلك وإحسانك وجودك، أكرمتنا بالعطاء ولسنا أهلاً له، أكرمتنا بالرزق الوفير ولم نؤدِّ شيئاً من حقوق ذلك في أعناقنا، استجبتَ الدعاء ولم نتحقق بعد بالشروط التي ينبغي أن تتوفر لاستجابة الدعاء، فأسألك اللهم أن تؤيِّدَنا عندك من المؤمنين الثابتين على إيمانهم، المستزيدين من دلائل قربهم منك، ومن مقومات رضاك عنهم، وإنا نعاهدك على أن نشكر نعمك الشكر الذي يرضيك عنا ولكنا في الوقت ذاته نعلن عن عجزنا الكلي، نعلن ألا حول لنا ولا قوة إلا بك، فنسألك اللهم يا أرحم من سُئِل ويا أكرم من أعطى أن تمدنا بمددك من عندك، وبتوفيق من لدنك حتى نشكرك دائماً ولا نبدل نعمك كفراً. 


عباد الله، هذا الذي أقوله لا أقوله خطاباً لله عز وجل من نفسي أنا، أعتقد أنه ما منكم من أحدٍ إلا وهو يقول هذا الكلام خطاباً لربه إن بلسان حاله أو بلسان قوله، ما من مؤمن إلا ويَعِدُ الله عز وجل وهو يرى نعمه الغامرة بالشكر، ولكن ينبغي أن ألفت نظري وأنظاركم جميعاً إلى أن شكر الله عز وجل ليس كما يظنه بعض الناس كلمات تتردد على الألسن، ويعتاد الناس في تردادها مساء صباح في المناسبات المختلفة، حتى أصبحت هذه الألفاظ كلمات تقليدية اعتادت عليها الألسن دون أن تكون بينها وبين القلوب وبين الوعي أي صلة، لو كان الشكر هكذا لكان الناس كلُّهم أو جلُّهم شاكرين لله عز وجل، ولما قال الله سبحانه وتعالى في محكم تبيانه: )وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[ [سـبأ: 13]، الشكر الذي ينبغي أن نعاهد الله عز وجل عليه هو أن نجند النعم التي يغدقها علينا، وأن نسخرها لما يرضي الله سبحانه وتعالى، وألا نستعمل شيئاً منها فيما يبغض الله عز وجل وفيما يناقض أوامره ووصاياه التي يخاطبنا بها   


هذه هي حقيقة الشكر يا عباد الله، تعالوا إذاً نعاهد الله عز وجل وقد أرانا من ذاته العلية صفحة الإكرام، صفحة الإنعام والصفح، أرانا الله عز وجل من ذاته العلية هذا المظهر، تعالوا نبادر إلى شكره، ولن نستطيع أن نؤدي حقوق هذا الشكر، ولكنا نعاهده ونتوِّج عهدنا هذا بالاستعانة به، نستعينه، نلجأ إليه أن يُحيل ضعفنا قوة وعجزنا إرادة، تعالوا نكرر ونردد ما نقوله بين يدي مولانا في كل صلاة )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[ [الفاتحة: 5]، ظني الذي لا يخيب هو أننا إن عاهدنا الله عز وجل على شكر نعمه الشكر الذي يرضيه بالمعنى الذي ذكرته لكم، إن شكرنا الله عز وجل على نعمه، فلسوف تمتد سلسلة هذا العطاء ولن تنقطع، لسوف تمتد سلسلة هذه الأمطار سخية تهمي كرماً من سماء الله سبحانه وتعالى وفضله، ولسوف تتجاوب معه الأرض المعطاءة، ولسوف تتفجر الينابيع، ولسوف تعود الأنهار متألقة، ولسوف يعود ماضي بردى الأغر الذي كم وكم تغزل به الشعراء، لسوف يعود بردى عقداً يتألق في جيد دمشق، ولسوف تعود الأنهار المتفرعة منه معطاءة مغدقة تتسرب في بقايا غوطة دمشق، هذا هو ظني بالله عز وجل، ولن يَخِيب ظن العبد بالله، كيف وهو القائل في حديثه القدسي الصحيح: )أنا عند ظن عبدي بي[


ولكن يا عباد الله هل عسيتم إن أكرمنا الله عز وجل بذلك كله، واستمرت سلسلة العطاء، واستمرت سلسلة هذه الأمطار سخية، ورأينا الأنهر كيف عادت إلى أَلَقِها، ورأينا الينابيع كيف عادت فتفجرت من هنا وهناك، هل عسيتم أن تستيقظ بين جوانحكم المطامع، وأن يسيل اللعاب على الآمال والمطامع الدنيوية المختلفة، وأن تستجيبوا لوساوس الشياطين، سواء كانت شياطين إنس أو جن، وننظر فنجد من يعود فيبني على جوانب هذه الأنهر الأعشاش التي تستثير غضب الله سبحانه وتعالى، الأعشاش التي تتحدى نِعَمَ الله سبحانه وتعالى بالكفر، الأعشاش المحشوة بكل ما قد حرم الله سبحانه وتعالى ونهى عنه مما تعرفون ومما لا داعي إلى دخول في تفاصيله، هل عسيتم أن تكونوا ممن قال الله عز وجل عنهم: )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ[ [ابراهيم: 29]، أفترض هذا وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا فوق هذا الاحتمال، وأن يجعلنا في نجوة من هذا الذي قد توسوس به إلينا شياطين الإنس والجن، )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا [


أي قابلوا نعمة الله التي أغدقها الله عليهم بالإعراض عن أوامره، بالجحود لنعمه، فاستغرقوا في حمأة الرذيلة، وتقلبوا في دنيا الشهوات والأهواء المحرمة. لا، أسأل الله سبحانه وتعالى ألا يجعلنا ممن عاهد الله ثم نكص على عقبه، أسأله عز وجل ألا يجعلنا ممن عاد فجدد البيعة مع الله، ثم كَذَبَ على الله سبحانه وتعالى، أسأل الله عز وجل ألا يجعل فينا من ينهج هذا المنهج، بل أسأله سبحانه أن يجعلنا ممن استجاب لقوله: )اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً[ [نوح: 12].


هذا أملي أيها الإخوة، بل أعتقد أن هذا هو أمل كل واحدٍ منا، قد نشكو العجز، ولكنا بوسعنا أن نتوّج عجزنا بالالتجاء إلى الله أن يبدل عجزنا قوة، وأن يبدل ضعف إرادتنا عزيمة، والله عز وجل يستجيب الدعاء.


يا عجباً أيها الإخوة لأناس - كما قلت - يسيل لعابهم على المطامع عندما يجدون نعم الله عز وجل تترى، إن هبوطاً من سمائه، أو تفجراً من أرضه، يسيل لعابهم على المطامع والآمال، فيحوِّلون هذه النعم إلى أداة لما حرم الله، أداة للبغي، أداة للطغيان أملاً في رزقٍ ينالونه، أملاً في عطاءٍ يستثمرونه من الدخول في الأبواب التي حرمها الله سبحانه وتعالى، أغاب عنهم أن الرزاق واحد هو الله سبحانه؟! أغاب عنهم قول الله عز وجل: )فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ[ [العنكبوت: 17]؟! أغاب عنهم قول الله سبحانه وتعالى: )وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[  [طـه:132]؟


 قد طمع أناس فغامروا ودخلوا فيما حرم الله سبحانه وتعالى لأنهم رأوا نِعَم الله تتألق أمام أبصارهم، لأنهم رأوا الينابيع تتفجر، ولأنهم رأوا بردى يتألق ويفيض بمائه الغامر، طمعوا فماذا كانت النتيجة؟ بنوا أعشاشهم وفعلوا ما فعلوا فكانت عاقبة ما فعلوا خسراناً لهم ولأمتهم، غارت المياه، وجفت الينابيع، وانتهينا إلى الخسارة الفادحة التي تعرفون، وأصبح الإنسان ينظر إلى هذا النهر الغمر التاريخي إلى بردى وقد تحول إلى كتل من الوحل منتنة، وتحول إلى مثابة للجرذان، هذه هي نتيجة البغي، هذه هي نتيجة من بدل نعمة الله سبحانه وتعالى كفراً.


أذكَّركم يا عباد الله بما قاله الله عز وجل لبني إسرائيل، وإنما أخبرنا بما قاله لهم عبرة لنا: )كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى[  [طـه: 81]


هوى إلى الشقاء في الدنيا وفي الآخرة، لماذا نطمع في الرزق الوفير من بابٍ غير بابه وندع الباب الذي فتحه الله عز وجل لنا برزق لا ينفد؟! سلوا - يا عباد الله - الذين كانوا عاكفين على محرمات في مطاعمهم أو في مقاهيهم ثم تابوا وآبوا إلى الله عز وجل، سلوهم كيف ضاعف الله لهم الربح؟ سلوهم كيف أكرمهم الله عز وجل بأكثر مما توقعوه من الرزق؟ لعلي حدَّثْتُ مرةً عن بعض الفنادق ذات النجوم الخمسة في تركية هدى الله سبحانه وتعالى أربابها إلى الالتفات إلى الله، وإلى التوبة إليه، وإلى تجديد البيعة معه، طهَّرَ كلٌّ منهم فندقه هذا من المحرمات، طهروها من الخمور، جعلوا أحواض السباحة منفصلة ما بين الرجل والمرأة، فتحوا في فنادقهم هذه مُصَلَّيَاتٍ حضارية لكل من يريد أن يُقْبِلَ فيؤدي حقوق الله عز وجل في ليلٍ أو نهار، فماذا كانت النتيجة؟ كان هناك مَنْ حذَّر أنهم سيخسرون، وأنهم سيقعون في حمأة الإفلاس، ولكن الله عز وجل أكرمهم بأضعاف أضعاف ما توقعوه، جاءهم الجواب من عند الله القائل: )فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ[ [العنكبوت: 17]


وها هي ذي هذه الحقيقة تنطق على رؤوس الأشهاد، بوسع كل منكم أن يتبين تفاصيلها، أقول هذا كله لنـزداد إيماناً بالله، ولنـزداد ثقة بعطائه، ثم لنـزداد تمسكاً بأوامره وابتعاداً عن نواهيه، مستعينين بالله، ملتجئين إليه، إن نحن فعلنا هذا وثبتنا على هذا المنوال فلا ريب أيها الإخوة أن قطر السماء لن ينقطع، وأن نعم الله ستهمي من سمائه، وتتفجر من أرضه، وأن نعمتين سيلتقيان على غدقٍ من الرزق لهذه الأمة، ولكن إن اتخذنا من نِعَم الله سَكَرَاً، وإن جعلنا من نعم الله سبباً لبطر، سبباً لعكوفٍ على البغي والطغيان والمعاصي، فلنعلم أن العطاء سيتحول إلى نقيضه.


 أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتمم فضله، اللهم كما رزقتنا النعمة من سمائك، فنسألك اللهم أن تقدرنا على شكرك، نسألك اللهم أن تبدل عجزنا قوة، وأن تغرس في كيان كلٍّ منا قوة الإرادة، وأن تملأ قلوبنا حباً لك، وتعظيماً لذاتك العلية، وخوفاً مما تهدد به عبادك الجانحين عن دينك وصراطك، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي