مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 23/10/2009

مقدمات صلاة الاستسقاء

‏الجمعة‏، 05‏ ذو القعدة‏، 1430 الموافق ‏23‏/10‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


في الناس من يلّح على ضرورة التداعي إلى صلاة الاستسقاء، ولا شك أن صلاة الاستسقاء سنة ماضية إلى يوم القيامة دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاها، وصلاها كثير من الخلفاء عندما اقتضت الحاجة وفُتِحَ السبيل إلى ذلك، ولكن صلاة الاستسقاء كالصلوات المفروضة الأخرى لها مقدمات لا بد منها، هذه المقدمات بالنسبة لصلاة الاستسقاء كالروح من الجسد، فإذا لم تتحقق مقدماتها كانت صلاة الاستسقاء كجسد انفصلت عنه روحه.


 صلاة الاستسقاء كالصلوات الأخرى، أرأيت إلى رجل أقبل يصلي قبل أن يتطهر، قبل أن يطهر ثيابه، قبل أن يتأكد من طهارة المكان الذي يقف عليه، قبل أن يتحرى القبلة فيتجه إليها، كذلكم صلاة الاستسقاء لا بد لقبول الله لها من أن تسري فيها روحها، وروحها هي الشروط التي أخبرنا عنها كتاب الله عز وجل، وبيَّنَها لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا بد بين يديها من التوبة إلى الله عز وجل، ومن الاستغفار بين يدي الله سبحانه، ولا بد أن يعبّر المسلمون عن صدق توبتهم بالعود والاصطلاح مع الله سبحانه وتعالى، لا بد من أن يعيدوا الحقوق إلى أصحابها، حقوق الله عز وجل الضائعة ينبغي أن يتوب الإنسان منها، ويجدد البيعة مع الله عز وجل أنه لن يضيعها بعد اليوم، حقوق العباد ينبغي أن يعيدها إليهم كاملة غير منقوصة، وباختصار لا بد بين يدي صلاة الاستسقاء من الاصطلاح مجدداً مع الله سبحانه وتعالى، ومن تجديد البيعة مع الله عز وجل على كل المستويات، وعلى تفاوت الناس واختلافهم في الرتب.


هذه الحقيقة ينبغي أن نهتم بها قبل الاهتمام بالتداعي إلى صلاة الاستسقاء، وعجبي الذي لا ينتهي من أناس يلّحون ويلحفون في الدعوة إلى صلاة الاستسقاء ممثلة في ركعتين تصلى، وفي خطبة تلقى، أما الحديث عن الأسباب التي اقتضت احتباس المطر، أما التأمّل في الأسباب التي ينذرُنا الله سبحانه وتعالى بسببها بسنة من الجفاف لم يسبق لها ربما نظير، فهؤلاء عن ذلك كله معرضون، كل ما في الأمر أنهم يتداعون إلى صلاة الاستسقاء، ولكن أعتقد أنا جميعاً نقرأ القرآن، فإن لم نكن ممن نقرؤه فنحن في أقل المراتب ممن يصغي إليه.


لقد قرأنا أو استمعنا إلى قول الله عز وجل: )فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً[ [نوح: 12]، لاحظوا الربط أيها الإخو )فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً[ [نوح: 12]، لا بد من توفر الشرط كي ننتظر توفر الجزاء، ألم نقرأ أو نصغي إلى قول الله سبحانه وتعالى: )وَإِنِّي لَغَفَّارٌ[ [طـه: 82] ولكن لمن، يقول الله عز وجل: )وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى[ [طـه: 82]، لاحظوا الرابط بين المقدمة والنتيجة، لم يقل: وإني لغفار، وأطلق ولم يقيِّد، وإنما قال: )وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى[  [طـه: 82].


 كثيرون هم الذين ينتظرون استجابة الدعاء بمجرد أن يرفع أحدهم كفيه إلى السماء ويسأل الله سبحانه وتعالى حاجاته ومتطلباته، ولكن قليلون هم الذين يتأملون في الشرط الذي نبَّهَنا إليه بيان الله عز وجل، تريد من الله عز وجل أن يستجيب دعاءك، إذن فاستجب طلبه يستجب الله عز وجل دعاءك )وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[  [البقرة: 186]. تريدون أن يستجيب ربكم الدعاء الذي تتوجهون به إليه، إذن فما عليكم إلا أن تستجيبوا أنتم أيضاً لما قد طلبه منكم، أما أن يطلب الله عز وجل مني أوامر يذكرني بضرورة تنفيذها فأعرض عنها، ويذكرني بها المرة تلو المرة تلو المرة وأعرض عنها، ويذكرني ويحذرني وأظل معرضاً عنها، ثم إنه تأتي ضائقة كهذه الضائقة التي نتحدث عنها، ونسمع أن الله عز وجل قد وعد عباده أن يتسجيب دعاءهم، فيرفع يديه إلى السماء يدعو الله سبحانه وتعالى، ثم إنه إن لم يجد الاستجابة، شكا وانتقد وقال: أين الاستجابة التي وعدنا بها الله عز وجل.


يا أيها الناس تأملوا في خطاب الله الذي أرسله الله عز وجل إلينا وتتدبروه ونفذوا أوامره ينفذ الله سبحانه وتعالى لكم ما قد وعدكم به )وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ[  [البقرة: 186] لكن ماذا قال بعد ذلك )فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي[  يستجيبوا لأوامري، دعوتهم إلى عبادات ما ينبغي أن يعرضوا عنها، دعوتهم إلى طاعاتٍ ودعوتهم إلى احترام شعائرها ما ينبغي أن يتساهلوا وأن يستخفوا فيها، دعوتهم إلى اتباع أحكام هي في مصالحهم، ولكنهم أعرضوا عن هذا وهذا وذاك، ثم راحوا يطالبون بحقوقهم.


لم يبتعد عهد رمضان عنا - أيها الإخوة - ولعلكم تذكرون الكثرة الكاثرة من الذين كانوا يتحدَّون شعيرة رمضان في الأسواق، في المقاهي، في المطاعم المفتحة الأبواب، في كثيرٍ من الدوائر، كلكم يذكر ذلك، هذه الحقيقة ينبغي - أيها الإخوة - أن نعلمها جيداً، وذكَّرْتُكُمْ في الأسبوع الماضي بقول الله عز وجل، وهو ليس خطاباً لبني إسرائيل فقط، وإنما هو خطاب لعباده جميعاً: )أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ[ [البقرة: 40]، لي عليكم عهد بايعتموني عليه، وعدتموني بتنفيذه، متى؟ عندما قلتم: نحن مسلمون، نحن مؤمنون، عندما شهدتم أن لا إله لكم إلا هذا الإله الواحد، )الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ[  [الانفطار: 7]، إذن ما لكم لا توفون هذا العهد الذي طُوِّقَ في أعناقكم؟ إذن يوف الله سبحانه وتعالى عهدكم.


خرج المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى الاستسقاء، وإنما حُبِسَتِ الأمطار في عهده تبييناً لنا، من أجل أن يعرفنا الباري عز وجل على سنته في معاملة عباده، بيّنها لنا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلة إيضاح، وإلا فلم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة من أوغل في الإعراض عن حقوق الله، لكنها سنة أنبأَنا الله عز وجل بها بطريقة عملية، خرج صلى الله عليه وسلم يستسقي، جدد التوبة، وأمر أصحابه بذلك، استغفر الله، وأمر أصحابه بذلك، تذلل تذللاً عجيباً وهو يرفع يديه يبسطهما إلى سماء الله عز وجل، فاستجاب الله، وأصبح يدعو يقول: )اللهم إلى الآكام والظراب وبطون الأودية، اللهم حوالينا ولا علينا[ أجل، وفي عهد عمر في عام الرمادة خرج عمر يستسقي، لكن بعد التوبة، وبعد الاستغفار، وبعد أن ذكَّرَ عمر المسلمين بأن يعودوا فيؤوبوا إلى الله، يؤدوا حقوق الله، يؤدوا حقوق عباد الله سبحانه وتعالى، وخرج عمر يستسقي، وما أدراكم بالمنهج والشكل الذي كان عليه عمر وهو يستسقي، كم تذلّل، وكم كان في حالة انكسار ومسكنة وهو يدعو الله سبحانه وتعالى، استجاب الله دعاءه، وتحقق الأمل، وما من عهد من العهود آبَ فيه المسلمون إلى الله حقاً، وأصلحوا الفساد، وقوموا الاعوجاج، وآبوا وتابوا إلى الله عز وجل، ثم طرقوا باب الله عز وجل عن طريق الاستسقاء إلا أجابهم الله سبحانه وتعالى.


واليوم أيها الإخوة عندما يُطلب مني أن أقوم فأدعو أن نتداعى إلى صلاة الاستسقاء دون التفات إلى شروطها وإلى مقدماتها ما الذي أخشاه أيها الإخوة؟ أشد ما أخشاه أن ندعو الله دعاءً لم تتوفر شروط الاستجابة فيه، وعندئذٍ نتفرق دون أن نجد استجابة، وما أقرب أن يستغلها الشاردون عن دين الله، البعيدون عن الإيمان بالله، فيعلِّقون التعليقات التي تعرفون، يقول أحدهم: ها هم المشايخ قد اجتمعوا ودعوا، وها هي ذي السماء لا تزال كما هي.


لا نريد - أيها الإخوة - أن تكون صلاتنا بطريقة تثمر نقيض ما نريد، نريد إذا تداعينا إلى صلاة الاستسقاء أن تكون قيودها كلها وافرة، قال الفقهاء: يدعو إليها إمام المسلمين، ويأمرهم بالتوبة، وإعادة الحقوق إلى أصحابها، والرجوع إلى الله، والاصطلاح معه، الذي كان شارداً عن صلاته يعود فيتوب إلى الله ويبدأ فيصلي، الذي كان شارداً عن صيامه يؤوب إلى الله، الذي كان عاكفاً على فواحش أو على منكرات يؤوب ويعود إلى الله، كلٌّ يعاهد ربه عز وجل على التوبة والإنابة، ثم إنهم يجتمعون ويدعون دعاء العبد المنكسر الأواب إلى الله سبحانه وتعالى، ما أسرع ما يجد هؤلاء المسلمون الاستجابة.


أيها الإخوة هذه الحقيقة ينبغي أن نعلمها، المسكنة على باب الله عبادة وأي عبادة، انظروا إلى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: )اللهم أحييني مسكيناً، وتوفني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين[، من المسكين؟ ليس المسكين هو الذي يطرق أبواب الناس، ويمد يد المسألة إليهم، لا أيها الإخوة، المسكين هو ذلك الذي يقف موقف انكسار ومسكنة وذل، لكن بين يدي خالقه عز وجل، المسكين هو ذاك الذي يقف موقف المضطر يسأل الله سبحانه وتعالى التوبة والإنابة، يعفِّر وجهه بالتراب تعبيراً عن ذله وعبوديته لله عز وجل، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان مظهره دائماً. ألسنا أتباع المصطفى عليه الصلاة والسلام؟


قلتها أكثر من مرة وأنا أقولها مرة أخرى: أيها الإخوة مشهدان اثنان كلٌّ منهما يبعث في نفسي نشوة ما مثلها نشوة، وسروراً ما بعده سرور، بل طرباً ما بعده من طرب، المشهد الأول مشهد إنسان أعرفه موغلاً في المعاصي، شارداً عن صراط الله عز وجل، متقلباً في حمأة الفواحش المختلفة ألواناً وأشكالاً، وأنظر إليه ذات يوم وإذا هو متبدّل متذلّل، يجلس في الصف الأول مع المصلين في مسجد من المساجد، أنظر إليه فلا تكاد عيناي تصدقان ما تريان، وإذا به قد آبَ وعاد إلى الله، هذا المنظر، هذا الذل الذي يتبدّى على كيان هذا الرجل، هذا الانكسار، هذه المسكنة التي يتوجه بها إلى الله عز وجل تبعث في نفسي نشوة ما مثلها نشوة، وأعتقد أنها تبعث في نفس كل منكم، المشهد الثاني مشهد إنسان أوتي بسطة من المال، وأوتي عزاً، وملّكه الله عز وجل ناصية حكم، إذا أمر نُفِّذَ أمره، وإذا حكم أُبْرِمَ حكمه، له السلطة المطلقة، وله القوة التي لا تقف عند حد، أنظر إليه في ساعةٍ كهذه الساعة، وإذا هو خاشع متبتل قد خلع من كيانه عوارض قوته وعزته وحكمه وما إلى ذلك، وتعرّى إلا من ذلِّ عبوديته لله عز وجل، أنظر إلى هذا المشهد فأطرب منه أيما طرب، ولا أريد أن أشبه هذا الطرب بشيءٍ ما ينبغي أن أقوله.


أيها الإخوة ما أحوجنا إلى هذا الذلِّ، ما أحوجنا إلى مسكنتنا بين يدي الله عز وجل، أقول لكم شيئاً: إن ربنا يغفر الذنوب كلها، يغفر الذنوب كلها على اختلافها، لكن بشرط واحد، أن يذيبها الإنسان بالمسكنة والذل الحقيقيين على باب الله عز وجل، أن يذيب الإنسان معاصيه بالألم من انحرافه عن الجادة التي أمره الله بالتزامها، أن يؤوب إلى الله وهو يقول إن بلسان حاله أو بلسان قوله: يا ربي أنا ضعيف، أنا لا أملك من أمر نفسي شيئاً، ما عصيتك حين عصيتك استكباراً على أمرك، ولكن لسابقة سبق بها قضاؤك، ها أنا ذا بين يديك، تبت إليك، لكن أعني يا رب العالمين، أُبْتُ إليك، لكن خذني إليك يا رب العالمين، خذني من نفسي يا رب العالمين، إن نفسي الأمارة تغلبت علي، وفقني اللهم للتغلب عليها، كلنا بحاجة إلى هذا التذلل، نحن عبيد أيها الإخوة، قوانا عزتنا أموالنا كل ذلك عوارض ستمحى وتزول، وُجدنا في ضعف، وسنرحل إلى الله في ضعف، أما القوة التي بين ضعفين فإنها لعوارض، لا تغرنكم هذه العوارض أياً كنتم، إن أُبنا إلى الله بهذا الشكل سقانا الله، إن تبنا إلى الله، إن اصطلحنا مع الله عز وجل سقانا الله عز وجل, وتحول هذا الخوف الذي نراه من شتاء جافٍّ إلى بشائر. 

تحميل



تشغيل

صوتي