مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 16/10/2009

نعمة خفية يكرمنا الله عز وجل بها

‏الجمعة‏، 27‏ شوال‏، 1430 الموافق ‏16‏ تشرين الأول‏، 2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


قلت لكم في آخر خطبتي الأسبوع الماضي: إنني أحمل إليكم من الله عز وجل نذيراً بشتاء جاف موصول قيظه بقيظ الصيف الذي انطوى ومضى، فسأل سائلون: أوحيٌ تنـزّل من بعد بعثة خاتم الرسل والأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم حتى بلغك منه هذا النذير؟ والجواب يا عباد الله: أن الوحي قد انقطع ببعثة خاتم الرسل والأنبياء دون ريب ولا شك، ولكن سنن الله تعالى وقوانينه في عباده ماضية، وقراراته التي يتعامل على أساسها مع عباده ما تزال ناطقة، والنذير الذي ينبغي أن نتلقاه من عند الله عز وجل ليس محصوراً في وحي يأتي به رسول أو نبي، ولكنه يخاطبنا ويتصل بنا عن طريق سنن الله تعالى، بل عن طريق دستوره وقوانينه التي يأخذ الله عز وجل بها عباده.


نحن أمة مسلمة ولله الحمد، إذاً فقد بايعنا الله عز وجل على الإسلام، وهذا يعني أننا عاهدناه بأن نؤدي حقوق هذا الإسلام الذي بايعنا الله عز وجل عليه، وقانون الله عز وجل يقول لنا عندئذٍ: )أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ[ [البقرة: 40]. لقد ألزمتم أنفسكم بأن تنفّذوا عهد الإسلام الذي بايعتموني عليه، وهو عهد مستقر في أعناقكم، نفّذوا هذا العهد الذي ألزمتم أنفسكم به تجاه أوامري، تجاه الدين الذي شرّفتكم به، وأنا أُلزم ذاتي بأن أنفّذ عهودي تجاهكم، نعمات جُلَّى لا تنقطع، سأكرمكم ببركات السماء، وسأكرمكم بنبات الأرض ورزقه، ولسوف أكفّ أيدي الظُّلام والطغاة عنكم، ولسوف أحمي حقوقكم من الناهبين والمغتصبين، ولكن إن بايعتموني على الإسلام ثم أعرضتم عن تنفيذ ما عاهدتموني عليه، فانتظروا نقيض ذلك. هذا ما يقوله قرار الله: )اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ[ [البقرة: 40]


ولربما قال قائل: فلماذا يكرم الله عز وجل الطغاة والمارقين والجاحدين لدين الله عز وجل في شرق العالم وغربه؟ ويأتي قانون الله وينطق دستوره قائلاً: أولئك ليس بيني وبينهم عهد، لم يبايعوني على الخضوع لهذا الدين، لم يبايعوني على الاستسلام لعبوديتهم لي، فليس بيني وبينهم أي تلازم، أما أنتم فهنالك عقد بيني وبينكم، ألم تبايعوني على الإسلام؟ ألم تُعلنوا أنكم معتزون بإيمانكم بالله عز وجل؟إذاً فقد تحمّلتم في أعناقكم حقوق هذا الإيمان،في حين أن أولئك لم يتحمّلوا في أعناقهم تلك الحقوق، وآثروا الحياة الدنيا على الآخرة التي وعد الله بها عباده الصالحين، وقانون الله سبحانه وتعالى يقول: )مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ[ [هود: 15]، هذا قانون الله عز وجل، ليس ثمة حاجة إلى استمرار وحي ما دمنا نقرأ كتاب الله    وأعود فأقول: إنه شتاء يحمل في داخله النذير وأيَّ نذير، والذي ينطق بذلك قانون الله تعالى المقروء في كتابه وسننه التي تطرق أسماعنا صباح مساء، إن لم نكن نقرؤها في كتاب الله سبحانه وتعالى، فتعالوا يا عباد الله، تعالوا نعكف على ساعةٍ قدسيةٍ من نقد الذات أدعوا إلى ذلك نفسي، وأدعوكم جميعاً، وأدعو أمتنا جمعاء شعوباً وقادةً إلى أن نعكف ساعةً قدسيةً على النقد الذاتي، تعالوا نشمّ رائحة أكفنا، ماذا صنعنا؟ نحن مسلمون، وهذا شرف كبير تَوَّجْنا وجودَنا الذاتي والحضاري به، لا شك في هذا ولا ريب، لكن هل أدّينا حقوق هذا الدين الذي بايعْنَا الله عز وجل عليه؟ هل احترمنا شعائر الإسلام؟ وأنتم تعلمون أركان الإسلام بعد الشهادتين، أولها إقامة الصلاة، ولم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم: أداء الصلاة وإنما قال: إقامة الصلاة، وفرق كبير بين الأداء والإقامة، المطلوب منا أن نقيمها على خير وجه، وأن ندافع عنها بكل شكل، وأن نعتز بها أينما وُجِدْنَا، هذا معنى إقام الصلاة، إلى آخر الأركان الأخرى.


بايعْنا الله عز وجل على الإسلام، هل اعتززنا بما يتضمنه الإسلام من مبادئ وقيم، أم سال لعابنا على ما عند الآخرين؟ أعرضنا عن النظم التي قضى الله عز وجل فضلاً منه وإحساناً أن يحصن الأسرة الإسلامية بحصن الوقاية والسعادة والحقوق الدائمة، فأعرضنا عن هذا الذي ضمنه الله عز وجل لنا، وسال لعابنا على الأحوال التي يتقلب فيها الآخرون، وأنتم تعلمون أن الأسرة قد أصبحت أطلالاً وبقايا أبنية، ألم يؤل حالنا مع الله إلى هذا يا عباد الله؟! أمرنا الله سبحانه وتعالى بكثير من الأحكام التي تتعلق بشخصية كل فرد على حدة، والتي تتعلق بالنظم الاجتماعية والاقتصادية وعلاقة ما بين المسلمين وغيرهم، ونظرنا يميناً وشمالاً، وإذا بالقلّة فقط تلك التي لا تزال على العهد، وأما الأكثرية فمفتونون بما لدى الغربيين


وأقول لكم أيها الإخوة: في هذه المناسبة بالأمس الحقيقي - أي في يوم الخميس - استقبلت ثلةً من الأجانب في قاعة هذا المسجد رجالاً ونساءً، فكان فيمن سأل، والسائل امرأة، تقول: إننا إلى اليوم في الغرب نجاهد ونحاول أن تكون أجور المرأة كأجور الرجل، ولم نفلح إلى اليوم، إننا ما زلنا نناضل إلى اليوم في سبيل أن تكون المرأة لها من القيمة في نظر الرجل مثل ما للرجل في مجتمعاتنا، ولكنا لم نفلح بعد، امرأة فرنسية مثقّفة قامت تقول لي هذا الكلام، ثم قالت: تُرى هل من المأمول أن تنجحوا فيما لم ننجح به نحن؟ قلت لها وكياني كله من الفرق إلى القدم يحمد الله: أما الأجور فشريعتنا تنصّ على ألا فرق بين الرجل والمرأة في الأجر، إنما المقياس الجودة في العمل، وليس المقياس الهوية في العامل، وأما نظر المجتمع إلى المرأة فمتفرع عمّا ربَّانا كتاب الله سبحانه وتعالى عليه إذ يقول: )وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ[  [التوبة: 71] إنها الولاية المتبادلة، المرأة تتمتع بالولاية على الرجل، وفي الوقت ذاته يتمتع الرجل أيضاً بالولاية على المرأة، إنها الولاية المتبادلة التي لا تعرفها القوانين الوضعية بعد.


ومع كل هذا ننظر إلى مجتمعاتنا الإسلامية، فنجد من قد سَكِرَ بهذا الذي يعاني منه الغربيون، قد سَكِرَ بهذا البلاء المحاق الذي يتأفّف منه الغربيون، والله عز وجل يقول )اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ[ [البقرة: 40]


هذا هو مصدر الإنذار الذي حدثتكم عنه، فإن أردتم مصدراً آخر، وما أكثر مصادر هذا الإنذار في كتاب الله عز وجل فاسمعوا قوله: )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ[ [الأنعام:42]، تلك هي سنة رب العالمين، سنة رب العالمين في عباده أن الناس الذين عاهدوا الله عز وجل على السمع والطاعة إذا أعرضوا عن تنفيذ العهد الذي ألزموا أنفسهم به فإنه يطبق عليهم القاعدة القائلة: من لم يُقْبِلْ إلى الله بلطائف الإحسان سيق إليه بسلاسل الامتحان، أي سيق إليه بسلاسل الابتلاءات، بسلاسل المصائب، بسلاسل الحرمان، بالسلاسل المتملثّة بتسليط الطغاة عليهم، هذا هو قانون الله عز وجل )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ[ [الأنعام: 42]، قانون الله )فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا[ [الأنعام: 43] هلا تضرعوا عندما جاءهم بأسنا.


وما المراد بالتضرع أيها الإخوة، ليس المراد بالتضرع المسكنة الظاهرية، ليس المراد بالتضرع الأكف التي ترتفع مرتجفة إلى السماء، ثم يعود كل واحد إلى شأنه، المراد بالتضرع تجديد البيعة مع الله عز وجل، المراد بالتضرع إصلاح الفساد، المراد بالتضرع تقويم الاعوجاج، المراد بالتضرع أن يقف كل واحد منا ساعةً قدسية مع نقده لذاته، ماذا صنعت؟ ماذا أسأت؟ ثم يجدد البيعة مع الله عز وجل، هذا معنى قوله: )فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[  [الأنعام: 43]


هذه المرحلة التي نحن فيها - أيها الإخوة - مرحلة عنوانها نعمة خفية يكرمنا الله عز وجل بها، الحرمان الذي نُبْتَلى به في هذه المرحلة نعمة، وصَدَق من قال: ربما مَنَعَكَ فأعطاك، وربما أعطاك فَمَنَعَك، أي ربما كان العطاء في المنع، يمنعك فتستيقظ فتتوب فتؤوب إلى الله عز وجل، فتعود نِعمُه تترى في حياتك، أجل، ولكن إذا ركبنا رؤوسنا، ولم تعمل الإنذارات في أنفسنا، ولم نلتفت إلى الله على اختلاف المستويات أقول: فلربما تحيق بنا المرحلة الأخرى التي يخاطبنا بها الله في هذه السنَّة الماضية في عباده )فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[  [الأنعام: 43]. اسمعوا: )فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ[ [الأنعام: 44]


أخشى ما أخشاه أن تحيق بنا هذه المرحلة الثالثة، نركب رؤوسنا في الإعراض ثم في الإعراض، النُّذُرُ لا تعمل شيئاً في مشاعرنا، وعندئذٍ تأتي المرحلة الثالثة، يفتح الله عليه نِعمَه تترى كلها، ونسكر بنعم الله الوافدة من السماء والنابعة من الأرض، ولكن إن هي إلا فترة يسيرة من الزمن وتأتي ساعة المحق والهلاك.


أجل يا عباد الله، إن الله عندما يهلك أمة لا يهلكها وهي مستضعفة، إنما يهلكها عندما تبلغ الأوج في تصورها، وصدق المثل القائل: لا يسقط أحد من الحصير، وإنما يسقط من العرش أو السرير. الإنسان الذي يكون على حصيره لا معنى لسقوطه، ولكن الناس الذين يريد الله عز وجل أن يمحقهم يشدهم، ويملي لهم، ثم يملي لهم، حتى إذا سكروا بالنعمة، ووصلوا إلى أعلى حد من البطر عندئذٍ يقعون من حالقٍ، أجل يسقطون من العرش أو السرير، ولا يسقطون من الحصير.


أيها الإخوة هذا هو مصدر الإنذار الذي حدثتكم عنه في الأسبوع الماضي، وأنا أوجّه هذا الإنذار إلى نفسي أولاً، ينبغي أن أشمَّ رائحة كفي، ولسوف أقْبِلُ إلى الله تائباً، وأسأله أن يعينني على الاستقامة على دينه.. وتوبوا إلى الله جميعاً أنتم أيضاً يا عباد الله، أسأله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بالتوفيق إلى العود آمناً متطمئناً إلى دينه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي