مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 18/09/2009

الإنفاق والثبات على الأمر

‏الجمعة‏، 28‏ رمضان‏، 1430 الموافق ‏18‏/09‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


ها هو شهر رمضان قد هبَّ ليودعكم ولتودعوه، ولقد استشهدتموه خلال أيامه ولياليه على أنكم عائدون إلى الله، مصطلحون معه، ملتزمون بأوامره، تؤدون واجباته، تنتهون وتبتعدون عن محرماته، فإياكم -يا عباد الله- أن تخونوا استشهادكم له، فتكونوا كذلك الذي أشهد قريباً له أو أشهد أحداً من أهل العلم أو من المرشدين الذين تاب على أيديهم أشهده أنه تائب إلى الله، وأنه ملتزم بأوامر الله، سائر على صراطه، حتى إذا أدبر هذا المرشد وابتعد عنه عاد فأوغل مرة ثانية في معاصيه، وابتعد مرة أخرى عن أوامر الله سبحانه وتعالى، خان الشهادة وخان من استشهده، لا يكونن الواحد منكم مثل هذا الإنسان، يستشهد رمضان في أثناء توديعه له على أنه تائب سائر على صراط الله عز وجل، حتى إذا وَلَّى الشهر عاد مرة أخرى إلى دأبه الذي كان عليه. هذه واحدة من النقاط التي ينبغي أن أُذَكِّرَ نفسي وأُذَكِّرَكُمْ بها.


شيء آخر، لقد قيل: إن المساجد -بحمد الله- فاضت لا بالقائمين الركع السجد فقط، بل فاضت بمن أحْيَوا ليلة القدر، بل ربما كثيراً من الليالي التي قد تكون هي ليلة القدر، ولقد كان هذا حقيقة ولكني أسائل نفسي وأسائلكم: كم نسبة الذين سيدأبون ثابتين ملتزمين هذا النهج الذي ألزموا أنفسهم به بعد أن ينطوي رمضان وبعد أن تزول أيامه ولياليه؟ كم هم أولئك لا أقول: الذين يحيون الليالي، بل الذين يشهدون صلوات الجماعات والجمعات؟ كم هم أولئك الذين سيبتعدون عن المحرمات ويبتعدون عن الولوغ في المال الحرام؟ كم من الذين أحيوا ليلة القدر الفائتة الذين سيواصلون إخوانهم لا بالمصافحة والبسمة الظاهرة فقط بل بالتراحم، بالعطاء، بالإنفاق؟ كم.


إذا كان هؤلاء الذين فاضت بهم المساجد وهم يحيون ليلة القدر قد عاهدوا الله عز وجل على أن يثبتوا على أوامره، وأن يلتزموا حقوق الله عز وجل التي بينهم وبينه، وأن ينهضوا بالحقوق السارية بينهم وبين عباد الله، فأشهد أن هذا سيكون سبباً لرحمة عظمى يكرمنا الله سبحانه وتعالى بها، ولهذه الرحمة آثارها الكثيرة والكثيرة، ولكن الذي أعلمه -يا عباد الله- وأرجوا أن أكون خاطئاً فيما أعلم، أن النفوس لا تزال تعاني من الشح إلا ما رحم ربك، وأن التراحم الحقيقي الذي أمر الله عز وجل به غائب عن الساحة إلا ما ندر.


التوجه إلى الصلاة ولا سيما في المواسم أمر سهل على النفوس، ولا سيما وإن المواسم تجعل النفوس تستأنس بهذا الشيء الذي يمر علينا ويطل علينا كل عام مرة، مزاج يدعونا إلى أن نجتمع ونصلي ونركع وندعو، وأن نعلن أصواتنا ونحن ندعو ونجأر إلى الله بالدعاء نحيل هذه الأصوات إلى المآذن، توقظ النائمين، وتقض مضجع المرضى، وكل ذلك دليل على أننا إنما نندفع إلى ذلك مزاجياً لا من أجل استنـزال رضا الله سبحانه وتعالى ورحماته.


مرة أخرى أعود فأقول لكم: أيها الإخوة إن الناس الذين لا يتراحمون لا يرحمهم الله، ومقياس التراحم اليد، وليس مقياس التراحم البسمة التي تكون على الوجه، حدثتكم عن طرف من هذا في الأسبوع الماضي، وأعود فأقول: لو أن هؤلاء الذين فاضت المساجد بهم بالأمس ركعاً سجداً إلى لمعة الفجر أدوا حقوق الله عز وجل في أموالهم كما أمر، إذاً لذاب الفقر في المجتمع، ولفاض الخير ولتلألأت رحمة الله سبحانه وتعالى تطل على عباده في هذه البلدة.


عباد الله الصلوات التي أمرنا الله بها، الحج الذي دعانا إليه، الصيام الذي أمرنا به كل ذلك وسيلة لتراحم الناس بعضهم مع بعض، كل ذلك وسيلة لأن يكرم الغني الفقير، ولأن يعطف القوي على الضعيف، فإذا لم تتحقق هذه الثمرة من وراء عباداتنا فلعل ذلك دليل على أن عباداتنا غير مقبولة ولا مَرْضِيَّة عند الله عز وجل، ولقد حذر الله سبحانه وتعالى من الذين يكنـزون الذهب والفضة، أي الذين لا يخرجون زكاة أموالهم، حذر هؤلاء الناس وأنذرهم كما لم ينذر المعرضين عن الصلاة، كما لم ينذر المعرضين عن الصيام، ألم تقرؤوا قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التوبة:34-35]  وكما قلت لكم من أخرج زكاة ماله بدقة خرج من عُهْدَةِ هذا الإنذار الذي يحذرنا منه بيان الله سبحانه وتعالى.


كثيرون هم الذين يتوقعون الفقر من المال الوفير الذي ينبغي أن يعطيه أحدهم للفقير، ملايين من الليرات ينبغي أن يدفعها؟! كل هذا ينبغي أن أُخْرِجَه من مالي؟! إذا سأفتقر، يرد الله عز وجل على هؤلاء هذا الوهم الباطل قائلاً: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:268]، يؤكد هذا فيقول: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:261]، ويؤكد المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة فيقول: ﴿ما نقص مالٌ من صدقة﴿ عباد الله ليت الذين فرض الله عز وجل عليهم الزكاة في أموالهم وهم متفاوتون في الغنى ليتهم يطرقون أبواب الفقراء الذين يعيشون بين ظهرانيهم، ليتهم يدخلون إلى بيوتاتهم ليجدوا مظاهر الأسى، وليجدوا مظاهر الآلام الممضة التي تتجلى من قلوبهم ظُلَلاً على وجوههم، ليتهم يرون هذا ثم يعودون إلى الإنسانية الراقدة بين جوانحهم لعلها تستيقظ.


أدركوا الساعات الباقية من شهر رمضان يا عباد الله، توِّجوا طاعاتكم، لياليكم التي أحييتموها توِّجوها بهذا التواصل، توِّجوها بهذا التراحم، وإلا فاعلموا أن عبادة لا تعطي ثمارها غير مقبولة عند الله، وإن كانت مقبولة قضائياً في دار الدنيا.


وهنا ألفت نظركم إلى أمرٍ عجيب باهر يبرز لنا حكمة عجيبة بل مظهراً من مظاهر رحمة الله عز وجل، أن علاقة الأغنياء بالفقراء شبكة التواصل -كما قلت لكم- طريقها الإنفاق الذي أمر الله عز وجل به، ومن شأن هذه الشبكة إذا امتدت ما بين المعطي والآخذ أن تقدح مشاعر الحب والألفة والود فيما بينهم، لكن ماذا عسى أن يكون الشأن في هذا بين الفقير والفقير، بين مجموعة من الفقراء ليس فيهم من يعطي وليس فيهم من يأخذ فيما بينهم؟! الفقراء مع الفقراء ومن ثم فإن هذه الشبكة، شبكة سريان الود لن تتحقق فيما بينهم، الفقير ليس مكلفاً بالعطاء، والفقير الآخر لن يعطيه، ومن ثم فلن تمتد يدٌ بالعطاء، ولن تمتد يدٌ أخرى بالأخذ، ولكن الله الرحمن الرحيم شرع أمراً آخر يغطي هذه الحاجة، شرع زكاة الفطر، وزكاة الفطر قدر يسير يسير من المال أناطه الله عز وجل بعنق كل من يستطيع أن يؤديه، ولن تجد فقيراً لا يستطيع أن يؤدي زكاة فطره، لأن زكاة الفطر عبارة عما قيمته ألفي غرام من غالب قوت البلد، يخرج هذا القوت أو يخرج قيمته لإنسان فقير من الفقراء، ورُبَّ فقير تجده يخرج زكاة فطره، وفي اليوم الثاني يأخذ زكاة فطره من إنسانٍ مثله، شرع الله سبحانه وتعالى هذا، وأمر به الناس جميعاً، لكن الحكمة من ذلك أن تسير هذه الشبكة شبكة العطاء والأخذ بين جماعات الفقراء فيما بينهم أيضاً، حتى تسري مشاعر الود ما بينهم آخذاً ومعطياً، وهم جميعاً فقراء، تجب على من مَلَكَ قوت نفسه وقوت من كلفه الله عز وجل بالإنفاق عليهم ليلة العيد ويومه، فإن فاض عن ذلك مبلغ وجب عليه إخراج زكاة فطره.


هذا المعنى الذي أقوله لكم يلفت نظرنا إلى أهمية التراحم، ويبين لنا أن التراحم لن يكون ببسمة كاذبة تتاجر بها بين عباد الله سبحانه وتعالى، ولا بالمصافحة بيد فارغة من العطاء وإنما يكون التراحم بالإنفاق الذي أمر الله عز وجل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 254].


قولوا لإخوة لنا أكرمهم الله بالمال الوفير، أكرمهم الله بالمال الذي ربما لا يستطيع الإحصاء أن يَعُدَّه، لا يَرقُدَنَّ الواحد منهم على هذا المال كما ترقد الدجاجة على بيضها، أنفقوا يا هؤلاء الناس من مال الله الذي أعطاكم، ولئن أجاب هؤلاء الناس إلى أمر الله سبحانه وتعالى، فأنا على يقين أن الفقر الذي يتنامى بين ظهرانينا وفي حواشي هذه البلدة وسائر أطرافها سينمحي، وإذا انمحى الفقر أكرمنا الله عز وجل بالقوة، أكرما الله عز وجل بالعطاء، أكرمنا الله عز وجل بالنصر، أكرمنا الله سبحانه وتعالى بالعزة، فلا تغلقوا أبواب هذه المنح كلها دونكم، وافتحوا أبوابها بهذه الطريقة التي أمرنا الله عز وجل بها.


هذه كلمتي في توديعنا لرمضان، فاجعلوا توديعه لنا صدىً لهذا الكلام الذي أقوله لكم، وأسأل الله عز وجل أن يثبتنا بقوله الثابت. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي