مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 14/08/2009

الوازع الديني وتأثيره في الأمة

‏الجمعة‏، 23‏ شعبان‏، 1430 الموافق ‏14‏/08‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


مما لا ريب فيه ومما لا يسري إليه الشك أن الوازع الديني في النفس كلما ازداد قوةً ازدادت الأمة تضامناً، وازدادت تعاوناً في سبيل الخير ودرء الشر، وازدادت عوامل الودِّ فيما بينها، ومما لا ريب فيه أن الوازع الديني كلما ضَعُفَ وتراجع لا بد أن يتراجع التضامن من جرَّاء ذلك في حياة الأمة، ولا بد أن يتحول التعاون في سبيل الخير إلى خصامٍ وتهارج، ولا بد أن تنقطع جذور الود وخيوطه السارية فيما بين الأفراد، وتتحول العلاقة فيما بينهم إلى أنانية، ولا بد أن يتحول الإيثار إلى أثَرَة، ولا بد أن يتحول التعاون إلى أنانية وجهود يبذلها كل إنسان في سبيل مصلحته الشخصية، ومن هنا تتهارج الأمم، ومن هنا يتفاقم البلاء، هذا ما يفعله الوازع الديني في حياة المسلمين عندما يوجد، وهذه هي الآثار التي تتجلى في الأمة عندما يغيب الوازع الديني.


وانظروا يا عباد الله كيف لَفَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظارنا إلى هذه الحقيقة في هذا الحديث الذي يرويه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، يدعو فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التضامن وإلى الود وإلى التعاون في سبيل الخير، ولكنه صلى الله عليه وسلم يقحم في أثناء هذه الوصية ويبين لنا العلاج الذي لا بد منه لتنفيذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه يقول: )المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه[. ثم إنه يأتي بعبارة خارجة عن الموضوع فيقول: )التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره، التقوى هاهنا[ التقوى هاهنا، ثم يعود فيتمم وصاياه ويقول: )بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم[ لماذا يقحم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث عن التقوى في سلسلة من الوصايا لا علاقة لها بالتقوى، يقول: )المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه[ ثم يقول: )بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم[ فما الذي دعاه إلى أن يقحم هذه الجملة الاعتراضية فيقول: )التقوى هاهنا[ ثم يكررها ثلاثاً مشيراً إلى صدره؟ كل ذلك كي يبيّن لنا المصطفى عليه الصلاة والسلام أن وصاياه هذه لا يمكن أن تُنَفَّذَ، وأن الأمة لا تستطيع أن تطبق هذه الأوامر التي يخاطبها بها إلا إذا وُجِدَ الوازع الديني، وإنما يوجد الوازع الديني عن طريق التقوى إذ تهيمن على الفؤاد.                                           


وما هي التقوى هذه الكلمة التي يكررها كثيراً بيان الله سبحانه وتعالى؟ إنها بكلمة موجزة بسيطة الخوف من سخط الله عز وجل، الاتقاء من أسباب سخط الباري عز وجل، عندما يهيمن الخوف من سخط الله عز وجل على الفؤاد فقد هيمنت عليه التقوى، وإذا وُجِدَتْ التقوى فقد وُجِدَ الوازع الديني، عندئذٍ ينفذ المسلمون هذا الذي يقوله المصطفى صلى الله عليه وسلم: )المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه[ إلى آخر ما ذكر المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم.


أيها الإخوة، لعل فيكم من قد يقول: ولكن الوازع الديني بحمد الله موجود في مجتمعاتنا، ولا أدل على ذلك من أن كتاب الله عز وجل يُتْلَى في وسائل الإعلام صباح مساء، ولا أدل على ذلك من الاحتفالات التي تُقَام ولا تنتهي بالمناسبات الدينية المختلفة، ولا أدل على ذلك من الخطب التي تُلْقَى في مثل هذه المناسبة، والجواب عن هذا، أن الوازع الديني ينبع من الداخل -يا عباد الله- ولا يأتي إلى الإنسان من الخارج، الوازع الديني لا يتّجه إلى الإنسان من الخطب الرنانة التي يلقيها واحد مثلي، الوازع الديني لا يسري إلى القلب عن طريق الأصوات المفخمة الجميلة التي تتبارى بتلاوة كتاب الله، الوازع الديني لا يسري إلى الفؤاد عن طريق تسابق الناس إلى طباعة المصاحف والتفنن في زخرفتها وما إلى ذلك مما تعرفون، وإنما ينبع الوازع الديني من الداخل، من الفؤاد، فهل يوجد هذا الوازع الديني بهذا المعنى الذي أقوله لكم في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية؟ لعلكم جميعاً تعلمون الجواب، عندما تعلمون أن الوازع الديني ثمرة التقوى، وأن التقوى شيء ينبع من داخل الفؤاد الذي هو محل الحب ومكان الخوف من الله سبحانه وتعالى.


عباد الله، إن مشكلتنا التي تجعل مجتمعاتنا محلاً للفساد الذي يستشري أشكالاً وألواناً، إن مشكلتنا التي تتمثل في الخصومات بدلاً من التضامن، في التدابر بدلاً من التعاون، ولا أريد أن أفصل، ولا أريد أن أضع النقاط على الحروف، هذه المشكلات التي نقوم ونقعد بالحديث عنها، والتي تتحدث عنها وسائل الإعلام في عالمنا العربي والإسلامي صباح مساء ما سببها؟ سببها باختصار غياب الوازع الديني من أفئدة الناس الذين تتكون منهم هذه المجتمعات، مجتمعاتنا العربية والإسلامية. ولو وُجِدَ هذا الوازع لتحول الإفساد إلى إصلاح بكل أشكاله، لو وجد هذا الوازع لتحول الخصام إلى وئام، لو وجد هذا الوازع لتحولت الأنانية التي تهيمن على الأفراد إذ يتهارجون ويتسابقون في سبيل المصالح الفردية، يتحولون إلى أناس يتسابقون بالإيثار بدلاً من الأثرة.


والذي أريد أن أنتهي إليه الآن هو الجواب عن السؤال الذي لا بد أن يقفز إلى ذهن كل واحدٍ منا ألا وهو: فكيف السبيل إلى غرس هذا الوازع الديني في القلوب حتى نتحرر من الفساد الذي نعاني؟ سبيل ذلك -يا عباد الله- باختصار وإيجاز يتمثل في الإكثار من مراقبة الله عز وجل، وأشد ما يوقظ الإنسان إلى مراقبة الله أن يضع أحدنا الموت نصب عينيه دائماً، وأن يعلم أن شبابه إن كان شاباً لن يبق له، وأن كهولته إن كان كهلاً لن تصاحبه إلى المدى الذي لا نهاية له، وأن شيخوخته تؤذنه بالرحيل، وأن الموت لا بد أن يقرع بابه، وإذا جاء الموت انكشف الغطاء، إذا جاء الموت ارتفع الستر الذي كان يحجب الإنسان عن حقيقة هويته وعن كينونته وعن وظيفته التي أقامه الله عز وجل عليها، وصدق الله القائل: )وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ[ [قّ: 50/20]. الدواء الأول إذاً من أجل أن نغرس الوازع الديني بين جوانحنا رقابة الله سبحانه وتعالى، وروح هذه الرقابة أن نتذكر الموت، والموت لا يعرف طفلاً، ولا يفرق بين شاب وكهل، ولا بين كهل وشيخ أبداً يا أيها الإخوة.


العلاج الثاني: الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى، الإكثار بإحياء القلب بنبضات الذكر لله عز وجل، وسيد أنواع الذكر الصلاة إذ يتقرب بها الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، التي هي -كما قلت لكم في الأسبوع الماضي- شبكة الاتصال بالله عز وجل.


عباد الله، أقول لكم كلمة مختصرة توضح لكم دور الصلاة بوصفها نوعاً من أجلّ أنواع ذكر العبد للرب، إن هذه الصلاة تنتشل الإنسان من أسباب اللهو، ومن أسباب النسيان، ومن التقلب في حمأة هذه الحياة الدنيا، كلنا بحاجة إلى أن نخرج إلى السوق ونقصف ونشتغل ونعود بالرزق الوفير إلى أهلينا، بل كلنا مكلف بأن نقيم الحضارة الإنسانية المثلى على النحو الذي أمرنا الله إذ قال: )هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا[ [هود: 11/61] لكن عندما أدخل في تيار الحياة الدنيوية، وأدخل في مشاغلها التجارية والزراعية والاجتماعية والسياسية المختلفة لا بد أن أُشْغَلَ بها، ولا بد أن تقحمني في نسيان ولهو.


فما الذي يجعلني أتعامل معها وفي الوقت ذاته أتحرر من غوائلها؟ الصلاة. عندما تنفض يدك من عملك الدنيوي في اليوم خمس مرات، وتتجه إلى الله سبحانه وتعالى واقفاً بين يديه، راكعاً ساجداً داعياً منكسراً متذللاً، فإن حمأة الدنيا لا تستطيع أن تهيمن عليك، وإن عدت بعد ذلك إلى سوقك وإلى تجارتك وعملك، بعد قليل يدخل ميقات الصلاة الثانية، تنفض يدك مرة أخرى من عملك الدنيوي، وتقبل إلى الله عز وجل، وهكذا كلما أوغلت في حمأة الدنيا عدت إلى ربك سبحانه وتعالى تذكره من خلال صلاتك، وإذا أنت نقي، وإذا أنت صافٍ من أسباب اللهو والنسيان، وهكذا يستطيع المؤمن أن يجمع بين دنياه وآخرته عن طريق هذا النوع من الذكر القدسي العجيب ألا وهو الصلاة، ومن أجل هذا يركز البيان الإلهي أيما تركيز على الصلاة، ألم تقرؤوا قوله: )وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[ [طـه: 20/132]، ألم تقرؤوا قوله: )وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي[ [طـه: 20/14] كم هي محببة هذه الجملة إلى الإنسان وإلى النفس، كم يتحبب الله إلى عبده من خلال هذا الكلام )وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي[، ألا تريد أن تتذكر هذا الذي ينعم عليك؟! ألا تريد أن تتذكر هذا الذي يبعث إليك رسائل حبه، رسائل إنعامه؟ لا بد أن يكون الجواب: بلى يا رب، أحب ذلك، إذاً تعال إلى استضافتي التي أدعوك إليها في اليوم والليلة خمس مرات، )وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي[، كي تذكرني فأذكرك، كي تذكرني من حمأة هذه الدنيا فأذكرك بالعطف، أذكرك بالتوفيق، أذكرك بالنصر على نفسك، أذكرك بالنصر على أعدائك، )وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[ [البقرة: 2/45].


هذا هو العلاج الثاني -يا عباد الله-، أما العلاج الثالث فهو الابتعاد عن المحرمات، ابتعدنا عن المحرمات كلما صفت نفوسنا، وتألقت قلوبنا بالوازع الديني، وكلما استدرجتنا المحارم وجُذِبْنَا إليها ابتعدنا عن هذا الوازع الديني، الوازع الديني أيها الإخوة هو العلاج ولا وبديل عنه. كثيرون هم الذي يجادلون بالباطل، وربما يستخفون بما نسميه الوازع الديني عند الحديث واللجج، ولكن انظروا لو أن رجلاً ملحداً كانت له تجارة، واحتاج إلى موظف يقف على صندوقه المالي. من الذي يختاره هذا الملحد؟


أنا أعلم وأنتم تعلمون أنه ينتقي من بين الناس أكثرهم تديناً، وأكثرهم التزاماً بأوامر الله، وإن قيل له عن زيد من الناس: إنه لا يصلي ولكنه أمين، أما الآخر فهو يحافظ على صلاته، يترك الأول ويتمسك بأذيال الثاني وهو ملحد، ذلك لأنه يعلم أن الإنسان الصادق في تعامله مع الله، يعلم أن الإنسان الصادق في بيعته لله عز وجل لا يخون مولاه، لا يخون ربه سبحانه وتعالى، ومن ثم لا يخون عباد الله، هذه حقيقة نعلمها، فلماذا نتجاهل الحقائق؟ لماذا لا نُهْرَعُ إلى هذا الدواء؟ نحن بحاجة إلى أن نتخلص من مظاهر الفساد في مجتمعاتنا وما أكثرها، نحن بحاجة إلى أن نمد جسور الوئام والود فيما بيننا بدلاً من الخصام، ما السبيل إلى ذلك؟ لا يوجد أي سبيل إلى ذلك في حياتنا نحن الأمة الإسلامية والعربية إلا الوازع. 

تحميل



تشغيل

صوتي