مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 07/08/2009

ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب

‏الجمعة‏، 16‏ شعبان‏، 1430 الموافق ‏07‏/08‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


ورد في أسباب النـزول أن ثلة من اليهود تباهوا على النصارى وعلى المسلمين قائلين: إن نبينا موسى الكليم ناجاه ربه سبحانه وتعالى مباشرة وعياناً، وهي مزية انفرد بها عن سائر الأنبياء، فقالت ثلة النصارى: إن نبينا عيسى ابن مريم معجزة الله عز وجل في الأرض، أحيا به الله عز وجل الأموات، وقالت ثلة من المسلمين: إن نبينا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو آخر الرسل والأنبياء، وبُعِثَ للعالم كله، فأنزل الله عز وجل قوله: )لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً[ [النساء: 4/123].


الأماني -يا عباد الله- جمع الأمنية، والأمنية هي الرغبة التي تهيمن على كيان الإنسان دون أن يسلك أي سبيل للوصول إليها، تلك هي الأمنية، ومعنى كلام الله عز وجل الذي توجه به إلى كل هذه الفئات أن هذه الأماني لا تقربكم إلى الله شروى نقير، اعتزاز المسلمين بانتمائهم إلى آخر الرسل والأنبياء، واعتزاز النصارى بعيسى ابن مريم الذي ميزه الله عز وجل على سائر الأنبياء بما ميزه، واعتزاز اليهود أيضاً بسيدنا موسى الكليم، كل ذلك من الأماني التي لا تفيد أصحابها شروى نقير، إنما الذي يفيدهم السلوك، إنما الذي يقربهم إلى الله سبحانه وتعالى الانقياد لما أمر به الله سبحانه وتعالى، والابتعاد عما نهى عنه الله عز وجل، ومن ثم فإن كل من يتورط ويرتكب سوءاً لا بد أن يُجزى به، مسلماً كان أو غير مسلم، والمفهوم المخالف لذلك يعني أن كل من قام بعمل من الأعمال الصالحة للمجتمع لا بد أن يجزيه الله عز وجل الجزاء الأوفى، إن كان مسلماً فجزاؤه في الدنيا والآخرة معاً، وإن كان غير مسلم فلا بد أن يعجل الله عز وجل له الجزاء الأوفى في دار الدنيا، وصدق الله القائل: )كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً[ [الإسراء: 17/20].


    عباد الله، كم هو ضروري أن نتذكر هذه الآية وسبب نزولها في هذا المنعطف الخطير الذي يمر به العالم أجمع، عندما نجد العالم الإسلامي وقد ركن معظم المسلمين فيه قادة وشعوباً إلى الأماني دون أن تحركهم هذه الأماني إلى النهوض بأي واجب، يعتزون بانتمائهم التراثي إلى الإسلام، يعتزون بانتمائهم إلى الحضارة الإسلامية، حتى إذا جاء ميعاد التطبيق والتنفيذ والالتزام بهذا الميزان الذي شرفنا الله عز وجل به وألزمنا به إذا قال: )وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ[ [الرحمن: 55/7-8]. رأينا معظم هؤلاء الذين يعتزون بانتماءاتهم الإسلامية، ويتعزون بصلة التراث، التراث الذي يربطهم بالحضارة الإسلامية، نجدهم قد أعرضوا عن هذه التعاليم، نجدهم قد تجاهلوا الشرائع التي شرفنا الله عز وجل بها، نجدهم يترفعون أو يخجلون من أن يصطبغوا بالعبادات التي كلفهم الله عز وجل بها، ولاسيما رأس العبادات وهي الصلاة.


    ينبغي يا -عباد الله- ونحن نرى حالنا هذه في عالمنا العربي والإسلامي أن نتذكر هذا البيان الإلهي المخيف: )لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ[ [النساء: 4/123]. أمانيكم لا تفيدكم شيئاً، اعتزازكم بالإسلام التراثي لا يقربكم إلى الله عز وجل شروى نقير.


عباد الله كم هو عجيب عجباً لا ينتهي أن أنظر إلى حال كثير من المسلمين قادة وشعوباً -ولا أقول: كل المسلمين- فأجدهم يخجلون من أن يُتَوِّجُوا اعتزازهم التراثي بالإسلام بالسلوك الذي أمر به الله عز وجل، يخجلون من أن يصطبغوا أمام الراحل والآتي والغادي بصبغة العبودية لله سبحانه وتعالى، ولاسيما الصلاة التي هي شبكة الاتصال بين العبد وربه سبحانه وتعالى، في حين أنني أنظر إلى كثير من أعضاء المجتمعات الغربية وهم يعلمون أنهم يرتبطون من دينهم بتقاليد وطقوس، ولربما يعلمون أن موازينهم العلمية لا تتفق مع تلك الطقوس، ولكنك تنظر فتجد أنهم يضعون هذه الطقوس من حياتهم في موضع السلوك القدسي، وتنظر إلى لقاءاتهم المتنوعة المختلفة، وإذا بصلواتهم في كثير من الأحيان جزء لا يتجزأ من اجتماعاتهم ولقاءاتهم تلك، ولكم وُجِدتُ في مناسبات شتى فيما بينهم، فرأيتهم لا يبدؤون عملاً يمارسونه أياً كان إلا بصلوات يؤدونها على طريقتهم الخاصة، ولقد كُلِّفْتُ يوماً من الأيام بأن أبدأ أنا مجلسهم ذاك بصلوات أي ابتهال ودعاء أتوجه به إلى الله باسمهم جميعاً.


ألا تثير هذه الظاهرة العجبَ يا عباد الله؟! نحن الذين نعلم أننا نرتبط بحقائق دينية تسجد لها قواعد العلم، نرتبط بقيم إسلامية دينية جعلها الله سبحانه وتعالى موئل النصر في تاريخنا القصي والقريب، جعلها الله سبحانه وتعالى معين حضارة إنسانية بازخة كَسَفَتْ نور الحضارات الأخرى، نعلم هذا كله، ثم إننا نخجل أن نجعل من انتمائنا إلى هذا الإسلام الذي تسجد له حقائق العلم، نخجل من أن نحيل ارتباطنا به إلى سلوك، نخجل من أن نصطبغ بصبغة العبودية لهذا الإله الذي شرفنا بهذه التعاليم، شرفنا بهذا الميزان الذي جعله أمانة في أعناقنا إذ قال: )وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ[ [الرحمن: 55/7-9]، كيف هذا؟ أهو ازدواج في الشخصية نعاني منه؟! لنا شخصيتان: شخصية دينية نذكرها ونرفع الرأس بها عالياً عند الانتماء، وهو انتماء تراثي، وكثير ما نُلِحُّ على هذه الكلمة (تراثي) حتى إذا حان الانضباط بهذا الانتماء الذي شرفنا الله عز وجل به تبرمنا أو تجاهلنا أو خجلنا وترفعنا، كيف يمكن أن نحل هذه الظاهرة بل هذه المقارنة التي وضعتكم أمامها، وأنا أرى ذلك بعيني فيما أذهب وآتي.


لقد تعلمت من هذا الذي تأملته ورأيته في ربوع الغرب، تعلمت مزيداً من الاعتزاز بهذا الدين الذي شرفنا الله به. أنا معتز به ولكني عندما أجد هؤلاء الغربيين لا يعلنون عن صلتهم بطقوسهم الدينية انتماءً على طريقتنا نحن، بل يعلنون عن انتماءهم إلى هذه الطقوس بالسلوك وبالاعتزاز، بل بلقاءات في كثير من الأحيان رسمية، علمني ذلك أن أزداد اعتزازاً بهذا الذي شرفنا الله عز وجل به، العبودية هي تاج، تاج كم وكم انتشيت بشعوري بأنني أصطبغ بهذا الذي شرفني الله عز وجل به.


    ومما زادني شرفناً وتيـــهاً        وكدت بأخمصي أطأ الثري


دخولي تحت قولك يا عبادي    وأن صيرت أحمد لي نبيـا


  نعم، هذا الذي علمني ألا أشعر بأي حرج عندما تحين ساعة الصلاة وأنا في مكان كطائرة تقلني إلى مكان ما، ولا يمكن أن أجمع هذه الصلاة إلى غيرها مما قبلها أو بعدها قمت، وأعلنت أنني أريد أن أؤدي فريضة ربي، أما عندما كنت على متن طائرة من الطائرات العربية والإسلامية، فما أكثر ما وُوْجِهْتُ بالاستخفاف، ما أكثر ما وُوْجِهْتُ بالمنع والازدراء إن بشكل مباشر أو غير مباشر، ولكن عندما كنت مسافراً على متن طائرة أوربية، وحان ميقات الصلاة، وقلت لطقم المضيفين: إنني بحاجة إلى أن أؤدي شعيرة ربي، أقبل فريق المضيفين جميعاً، وبحثوا عن مقعد فارغ، طووا هذا المقعد، ووسعوا منه مكاناًَ للصلاة، وأقبلوا إليَّ يطلبون مني أن أقوم فأصلي، وعندما قمت لأصلي اتجهوا إليَّ يرجونني أن أدعو الله لهم بالهداية، نعم هذا الذي أقوله لكم، تعلمت قسطاً منه من اعتزاز أولئك الناس بطقوسهم الدينية.


وإنني لأذكر ساعة ما أعلم أنني انتشيت في عبادة لوجه ربي فيها مثل تلك الساعة، في مطار من تلك المطارات الأوربية، أنتظر ميقات الإقلاع، حانت الصلاة، وخفت أن تفوتني والمصلى في المطار موجود لكنه بعيد، قمت بسطت ردائي الخاص بالصلاة، واجتهدت في القبلة، ووقفت أصلي، وتذكرت حديث رسول الله الذي يرويه مسلم )العبادة في الهرج كهجرة إليّ[. العبادة في الهرج أي في الصخب والضجيج واللهو المنسي عن الله عز وجل كهجرة إليّ، وقفت أصلي، وقفت أناجي الله عز وجل، والقوم من حولي غادون رائحون في شؤونهم وأعمالهم، ولكني أناجي الخالق، أناجي مولاي وخالقي، شعرت بنشوة ما مثلها نشوة، وأنا أصدقكم ما من عين رمقتني وأنا أصلي لله وحيداً في ذلك المكان إلا وكانت نظرة صاحب هذه العين إليّ نظرة إكبار، نظرة إجلال، تُرَى ما سر هذه الظاهرة يا عباد الله؟


لعل سرها يكمن في التالي: كثيراً ما يكون المحروم متشوقاً إلى النعمة التي حُرِمَ منها، فإذا رأى من يتمتع بها، اهتاجت مشاعر الشوق بين جوانحه لهذا الذي متّعه الله عز وجل به، وكثيراً ما يكون الإنسان المُمَتَّعُ بالنعمة، والذي مضى عصر بل دهر بل سنوات عليه وهو يتمتع بنعمته هذه، كثيراً ما يكون قد شبع منها وتبرم منها، فهو ينظر إلى البديل لعل هذا هو السر    أعود فأقول لكم: يا عباد الله، أذَكِّرُ نفسي وأذَكِّرُكم بهذا البيان الإلهي المخيف )لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً[ [النساء: 4/123]. الاعتزاز بالإسلام وحده لا يكفي، الانتماء التراثي إلى الإسلام لا يكفي، الإصلاح هو الذي يُقَرِّبُ العبد في ميزان الله والفساد هو الذي يُبْعِدُ العبد في ميزان الله عز وجل، سواء كان هذا الإنسان مسلماً أو غير مسلم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي