مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 24/07/2009

البطل صلاح الدين الأيوبي

‏الجمعة‏، 02‏ شعبان‏، 1430 الموافق ‏24‏/07‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


تهب في هذه الأيام ذكرى بطولات تعتز بها شامنا هذه أيما اعتزاز، إنها ذكرى الثورة على اغتصاب الحقوق والدفاع عن الحق، إنها ذكرى الثورة على الاحتلال والدفاع عن الحرية والحق، إنها ذكرى الثورة على الإباحية والدعوة إلى الانضباط بالمبادئ والقيم، ذكريات مرت بها دمشق ومر بها شامنا ولكن التاريخ لم يتركها تمر، خلدها التاريخ وينبغي وفاءً منا لهذه الذكرى أن نتذكرها وأن نتحدث عنها وأن نستخرج العبر والدروس منها، إنها ذكرى الثورة على الاستعمار الفِرَنْسِي، ذلك الاستعمار الذي أصر آنذاك إلا أن يَعُدَّ نفسه حلقةً في سلسلة الغزوات الصليبية التي مرت وانقضت أصر قادتها إلا أن يعتبروا أنفسهم ورثةً لأولئك الصليبيين، ألم يقل واحد من جنرالات فرنسا وقد وقف أمام قبر بطل الإسلام صلاح الدين هذا الذي يرقد إلى جانب هذا المسجد الجامع، قال وهو يركَل القبر بقدمه ها قد عدنا يا صلاح الدين، إذاً إنه يعد نفسه واحداً من ورثة أولئك الصليبيين ويعد ذلك الاستعمار حلقة في سلسلة تلك الغزوات الصليبية فماذا كان جواب بطولاتنا في شامنا هذه، قام من يقول: لئن كنتم ورثة لأولئك الغزاة الصليبيين فنحن ورثة لبطل الإسلام صلاح الدين الذي طهَّر الشام وبيت المقدس من رجس الصليبيين، قام يوسف العظمة، قام إبراهيم هنانو، قام إخوة لكل منهما يدافعون عن الحق، يدافعون عن القيم، يلبون نداء الله سبحانه وتعالى وأنتم تعلمون أن يوسف العظمة قد لا أقول قد سقط شهيداً بل ارتقى شهيداً في هذا اليوم أو في مثل هذه الأيام.


هذا الذي وقع ما ينبغي أن يمر في كل عام دون حديث عنه. لقد انطوى ذلك الاستعمار وأيد الله عز وجل الإخوة المجاهدين الثائرين على الباطل والمدافعين عن الحق لكن ينبغي أن نقف أمام هذا الذي أعلنه الاستعمار آنذاك، أصر على أن ذلك الاحتلال إنما هو حلقة في سلسلة الغزوات الصليبية، إذاً الثأر لم يرقد بعد والحقد لم تنطفئ جذوته بعد بل أصروا على أنهم هم أحفاد أولئك الصليبيين وورثتهم وهذا هو الذي جعل أبطالنا يقولون إذاً نحن أحفاد صلاح الدين ونحن الذين ورثنا عن صلاح الدين القيم والدفاع عنها والمبادئ والاستبسال دونها، نعم أيها الإخوة، تعالوا نعد إلى ينبوع المأساة عندما اتجهت فلول الصليبية إلى بلادنا هذه، بقيت هذه الفلول أكثر من مائتي عام كما تعرفون ثم إن الله عز وجل قيض لتخليص هذه البلاد من شاء الله سبحانه وتعالى أن يشرفه بمسؤولية تطهير هذه الأرض من رجس ذلك الغزو، إنه بطل الإسلام حقاً صلاح الدين الأيوبي. ماذا كان يصنع؟ يسمع عن الغزوات التي يُفاجَئ بها المصريون في مصر هنا وهناك فينقذف من الشام إلى مصر ويخمد تلك الحروب هنا وهناك بتوفيق من الله عز وجل عجيب، ثم ما يلبث أن يأتيه الخبر بأن فلول هذا الغزو ينتشرون في الشام وأن حرباً أُلْهِبَتْ جذوتها هنا وحرباً ألهبت جذوتها هنا وهناك من بلاد الشام فيكر عائداً من مصر إلى بلاد الشام وهكذا يذهب إلى مصر ويعود منها، يذهب إلى الشام ويعود منها ملبياً نداء مولاه وخالقه سبحانه وتعالى.


نظر فوجد أن الخلافات مستشرية بين كثيرٍ من الأمراء الذين يستظلون بالخلافة العباسية فاتجه مستعيناً بالله، مستعيناً بإيمانه القوي وعلمه الغزير بدين الله عز وجل وإخلاصه لله، اتجه إلى رأب الصدع وجمع الشمل وسد ثغرات الخلاف ولا يعلم كثير من الناس أن من أجلى مظاهر بطولاته أنه قضى على تلك الخلافات، جمع الشمل، وحَّد القلوب قبل أن يوحد الصفوف، كان فاتحة انتصاراته العظمة في طبريا وما حولها، نصره الله أيما نصر، أيده أيما تأييد وأسر ثلة كبيرة من قادة أولئك الصليبيين فعفا عمن عفا وقتل من استحق القتل، ثم إن صلاح الدين نظر، تأملوا يا عباد الله فيما أقول وأنا أنقل لكم ترجمة هذا البطل الذي يرقد إلى جانبكم، تأمل فوجد أنه بحاجة إلى جيش لا تزداد كميته إلى القدر الذي ينبغي أن يطمئن إلى الاعتماد عليه، لا بل شعر أنه بحاجة إلى جيش هو من حيث الكيفية ذي إيمان كامل بالله عز وجل، مصطبغ بحقيقة العبودية لله، متشبع بمعرفة دين الله عز وجل فزرع القاهرة بالمعاهد والمدارس العلمية الإسلامية وعاد فاتجه إلى الشام، زرع سفح قاسيون هذا بالمدارس العلمية والشرعية المختلفة ولعلكم تجدون اليوم كثيراً من أطلالها، وهكذا أنشأ عشرات المعاهد والمدارس العلمية الإسلامية في كل من الشام ومصر، كان يرعاها مباشرة وكان يحضر فيها آناً مدرساً وآناً متعلماً، حتى إذا استطاع أن يُكَوِّنَ من خريجي هذه المعاهد والدارسين فيها سدى ولحمة الجيش الذي كان يحلم به ونظر فوجد أنه أمام جيش موصول العواطف بالله، موصول اليقين بوعد الله، مصطبغٍ بذل العبودية لله، اتجه بهذا الجيش متكلاً على وعد الله ونصره إلى بيت المقدس وسرعان ما كتب الله له النصر والتأييد.


ولعلكم جميعاً تعلمون أن الغرب الذي كان يسمى آنذاك ببلاد الفرنجة عجبوا من هذا النصر أيما عجب واستغربوا منه أيما استغراب وزاد استغرابهم فتحول إلى تقدير وتبجيل لأن هذا البطل الإسلامي كان يستلهم سيره من تعاليم الله، من كتاب الله عز وجل، فكان يجمع بين صرامة الحكم والتنفيذ دون هوادة وبين الرأفة والرحمة وشفافية القلب وكان مَثَلَه الأعلى دائماً يا عباد الله قول الله عز وجل لرسوله: (فبما رحمة من الله لنت لهم. ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) ثم قال: (فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) ، وكم كان يردد هذا الوعد، بل هذا البيان القاطع في كتاب الله (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون)، أجل يا عباد الله ذلك هو صلاح الدين البطل الإسلامي الذي قيضه الله لتطهير بلاد الشام من غزو الصليبيين ثم جاء أحفاد صلاح الدين يوم أعلن الاستعمار الفرنسي أنه ليس إلا حلقة في سلسلة الغزوات الصليبية فقال هؤلاء الأحفاد أما نحن فنحن إذاً من أحفاد بطل الإسلام صلاح الدين، وأنا أعلم أن هؤلاء الأحفاد ساروا سيرة صلاح الدين، قرأت ترجمة يوسف العظمة، قرأت ترجمة إبراهيم هنانو، كانوا يسيرون على نهجه ولعلهم كانوا ينفذون وصيته التي أوصى بها لابنه وها أنا أقرأ لكم فقرات منها محاولاً أن لا أغيَّرَ شيئاً من الكلمات التي نُقِلَتْ عن فمه، يقول صلاح الدين الأيوبي لابنه: (أوصيك بتقوى الله تعالى فإنها رأس كل خير وآمرك بما أمر الله به فإنه سبب نجاتك، حافظ على عباداتك وأكثر منها لاسيما الصلاة في مواقيتها وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والأمراء وأرباب الدولة فإني ما بلغت ما بلغت إلا بمداراة الناس ولا تحقد على أحد فإن الموت لا يبقي على أحد واحذر حقوق ما بينك وبين الناس فإنه لا يغفر الله إلا برضاهم وما بينك وبين الله يغفره الله بتوبتك إليه فإنه كريم)، أجل أظن، ولعلي أعتقد، أن هؤلاء الذين أعلنوا بالأمس، للاستعمار الفرنسي الذي عد نفسه حلقة في سلسلة الحروب أو الغزوات الصليبية قالوا إذاً فنحن أحفاد بطل الإسلام صلاح الدين، ساروا سيرة صلاح الدين، استلهموا النصر من مولاهم الأجل بعد أن التزموا بأوامره وابتعدوا عن نواهيه. أما صلاح الدين فكيف قضى نحبه؟ لم يقع صريعاً في حرب من الحروب بل أعاد سيرة خالد ابن الوليد ذاك الذي قال وهو يتقلب على فراش المرض: ما من وقعة من المواقع إلا شهدتها وما من شبر في جسمي إلا وهو محل لطعنة بسيف أو ضربة برمح ومع ذلك فها أنا ذا أموت على فرشي حتف أنفي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء. هكذا توفي صلاح الدين الأيوبي بعد أن أوصى بهذه الوصية المقتضبة، قال: أوصيكم بأن تدفنوا سيفي الذي جاهدت فيه معي في قبري فلعله يكون يوم القيامة خير شاهد وشفيع لي.


في ذكرى يوسف العظمة التي ما ينبغي أن تمر دون حديث عنها ودون اقتطاف للعبرة منها من موقفه ومن موقف إخوانه وفي ذكرى هذه الحلقة التي تعود بنا إلى الغزوات الصليبية والبطل الذي قيضه الله عز وجل لتطهير شامنا هذه من رجس تلك الغزوات ينبغي أن نأخذ دروساً كثيرة من ذلك، إلى جانب هذه الدروس ينبغي أن نتصف بالوفاء وأن يتمثل الوفاء فينا، الوفاء لهذا الذي يرقد إلى جانبنا، هذا الذي قيضه الله لتطهير الشام من رجس الصليبيين هل أعطيناه حقه؟! هل أقمنا متحفاً ينطق بآثاره ويتحدث عن تاريخه، هل فعلنا ذلك؟! هل وضعنا تاريخه في كلمات على الجدران ندرسها صباح مساء ونلقنها لأطفالنا لكي نرث البطولة كابراً عن كابر؟! أسأل الله العلي القدير أن يرزقنا نعمة الوفاء وأن يكرمنا بمثل ما أكرم به أولئك الأبطال حتى نسير سيرتهم وحتى نجعل من اتصالنا بالله يقيناً في العقل ووجداناً في القلب ثمناً لنصر الله عز وجل لنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي