مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 26/06/2009

الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين

‏الجمعة‏، 04‏ رجب‏، 1430 الموافق ‏26‏/06‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


ورد في أسباب النـزول أن عقبة بن أبي مُعَيط، وهو من مشركي قريش، أقام في داره وليمة دعا إليها بعض وجوه المشركين من قريش، وكان فيمن دُعِيَ إلى هذه الوليمة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلما حضرت المائدة، وجيء بالطعام، أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم من طعامه إلا إن شهد شهادة الإسلام، فعزَّ على عقبة بن أبي معيط أن يخرج محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم من داره وقد وضعت مائدة الطعام دون أن يطعم منها، فشهد شهادة الإسلام أمام الجمع كلهم، وكان له صديق اسمه أُبيّ بن خلف كان غائباً عن مكة آنذاك، ولما عاد إليها قيل له: إن صاحبك قد صبأ، فأسرع أُبيّ إلى عقبة يقول له: أحقاً أنك قد صبأت؟ فقال له: لقد دخل الرجل داري، وأصر على ألا يأكل من طعامي إلا إن شهدت شهادة الإسلام له، فأحببت أن أطيِّبَ خاطره بكلمة، فقال له أُبيّ: وجهي من وجهك حرام إن لم تلق محمداً وتبصق في وجهه وترد عليه دينه، وفعل عقبة ما طلبه صديقه منه، تحين فرصة لقاء لقي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن ارتداده عن الإسلام، وبصق في وجهه، فارتدت البصقة شظية إلى وجهه أحرقت طرفاً من وجهه.


هذا هو الذي حدث، وهو الذي رواه علماء السيرة وأصحاب النـزول، وإليكم تعليق بيان الله عز وجل على هذا الذي حدث، يقول الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً, يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً, لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً﴾ [الفرقان:25/27]   


عباد الله، ما أكثر الذين يخلفون اليوم كلاًّ من عقبة بن أبي معيط وأُبيّ بن خلف، ما أكثر هؤلاء الضالين والمُضلّين، وحديث الباري سبحانه وتعالى في بيانه ليس عن هذين الشخصين اللذين اقتضت المناسبة أن تنـزل هذه الآيات عنهما، وإنما تعني الآية كل من سار على نهج أُبيّ بن خلف، فلم يكتف بالضلال الذي يتصف به، بل أصرَّ على أن يضل الآخرين أيضاً، إن كلام الله سبحانه وتعالى يشمل كل من ذاق لذة القرب من الله تعالى، وذاق نشوة التوبة والعودة إلى حظيرة الإيمان، ثم استبدل بهذه النشوة وبهذه اللذة الرجوع إلى الضلال والكفر   


كم وكم من قرين صدَّ قرينه عن الهداية بعد أن وصلت إليه، صدَّ قرينه عن الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى، صده عن لذة المناجاة لله عز وجل، صده عن السجود في الأسحار، صده عن مناجاة الله سبحانه وتعالى في الخلوات، حيل بينه وبين تلك اللذة التي كم وكم تقلَّب فيها، ما أكثر الذين ذهبوا ضحية الخلة الفاسدة وصدق الله القائل: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67]، وعن هؤلاء وعما يحيق بهم غداً، وعن الندامة التي تأكل قلوبهم يقول الله عز وجل: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ [القلم: 43-42].


هكذا يقول الله عز وجل عن أناس انقادوا لإضلال أخلاء أو أصدقاء أو قادة لهم في دار الدنيا، فانقطعوا عن السجود لله بعد أن ذاقوا لذته، انقطعوا عن الوقوف بين يدي الله عز وجل بعد أن ذاقوا نشوته، يوم القيامة يريد الواحد منهم أن يعود فيسجد ليتذكر لذة سجوده، ولكن لا يتأتى له ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ, فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾ [القلم: 43-44]   


عباد الله، بيان الله عز وجل يصور لنا بطريقة أخّاذة الندامة التي تفري قلوب هؤلاء الذين كانوا في دار الدنيا إما ضحايا لمن أضلهم، أو كانوا مُضلّين غير مقتنعين بضلالاتهم الشخصية لأنفسهم، يصور البيان الإلهي الندامة التي تحيق بهم ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا, وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا, رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً﴾ [الأحزاب: 66-68].   


أرأيتم إلى هذه الصورة يا عباد الله؟! أرأيتم إلى صورة العذاب الذي يُعاقَبُ به هؤلاء الذين استجابوا للإضلال، والذين أصروا بدورهم على الإضلال ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ﴾ صورة تأملوها ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا, وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا﴾ ويحك، هل لك سيد غير ربك؟! ويحك، هل لك كبير ينعم عليك، يرأف بك، يحنو عليك، بيده حياتك، إليه مصيرك غير واحد لا ثاني له؟! كيف تنسى من بيده أمرك؟! كيف تنسى من إليه مصيرك، ثم تتخذ من دونه سيداً أو كبيراً؟! ولكن هكذا تاهوا في دار الدنيا، وهكذا أخذت الندامة تفري قلوبهم، إن الندامة هي التي تنطق على ألسنتهم بهذا الكلام ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا﴾ صور وليست صورة من الندامة التي يبرزها أمامنا بيان الله عز وجل، وإن الفرصة لا تزال سانحة، وإن الدهر لا يزال في المرحلة الأولى، مرحلة الحياة الدنيا، مرحلة التكليف، الفرصة سانحة للآيبين بعد شرود، للتائبين بعد ضلال.   


عباد الله، لقد استعرضت ألوان العقاب التي أعدها ربنا سبحانه وتعالى للمستكبرين، التي أعدها الله سبحانه وتعالى لا للضالين بل للذين أصروا على أن يُضِلُّوا الآخرين، فما وجدت عقاباً ادخره الله عز وجل للعاتين والطغاة من عباده أشد من العقاب الذي أعده لمن أصروا على أن يُضِلُّوا عباد الله، لم أجد عقاباً في بيان الله عز وجل أشد من العقاب الذي بيَّنَهُ لنا كتاب الله عز وجل، وأعده لمن وقف في طريق السالكين إلى الله، لمن وقف في طريق الممارسين إن لعبادتهم أو لعبوديتهم لله سبحانه وتعالى، تأملوا في هذه الصورة، وإنها لواحدة من الصور الكثيرة ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى, عَبْداً إِذَا صَلَّى, أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى, أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى، أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى، كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ, فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ, سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ, كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ [العلق: 9-19]   


سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، صورة تأملوها - يا عباد الله - من بطلها في دار الدنيا، إنه أبو جهل، وقف أمام محمد صلى الله عليه وسلم يهدده إن هو رآه مرة أخرى يصلي في البيت أن يدق عنقه بقدمه، جاء بيان الله عز وجل يخاطبه بلطف ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى, عَبْداً إِذَا صَلَّى, أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى﴾ لعل هذا الذي يصلّي يسير على طريق الحق، لعله يسير إلى طريق الهداية، لعله يتعامل من الإنسانية المثلى، لماذا تمنعه؟ ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى, أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى، أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ لكن الرجل مارس طغيانه، وعاد فهدده قائلاً: لئن رأيت محمداً يصلي بعد اليوم في البيت الحرام لأقتلنه، فجاء بيان الله عز وجل يقول: ﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ﴾ لنسحبنه من ناصيته إلى النار ﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ هدَّدَ بدعوة ناديه قال: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ, سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ, كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾    


صورة يضعنا بيان الله أمامها، أو يضعها بيان الله أمامنا، والفرصة سانحة لكي نعلم أن ولينا واحد هو الله، كبيرنا واحد هو الله، مولانا واحد هو الله سبحانه وتعالى ﴿اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 11]   


لسنا يتامى في جنبات الأرض - يا عباد الله - نحن منسوبون إلى الله، نحن عبيده، هو ولينا، وليس بعد ولاية الله لنا من سيد ولا كبير، لا يمكن إلا أن نطيع سيدنا الأوحد، كبيرنا الأوحد، جل جلاله سبحانه وتعالى، الفرصة لا تزال سانحة، والصور التي تتكرر في كتاب الله عز وجل تنطق قائلة: إياكم أن تضيعوا الفرصة، إياكم، ليفترض كل واحد منكم أنه ارتحل عبر بوابة الموت إلى الحياة الآخرة، ووقف في عرصات القيامة، ليتخذ الموقف الآن، ليتخذ الموقف الذي يعلم يقيناً أنه لن يزجه في ندم، وليكن هذا الموقف أياً شاء، المهم أن تعلم يقيناً أن الموقف الذي تتخذه الآن لن يزجك في الندم، ولن يحرق فؤادك ندامة وأسىً عندما تقف في عرصات القيامة بين يدي الله سبحانه وتعالى، حاذر الندامة، ثم اسلك في هذه الدنيا الطريق الذي تشاء، هذا ما يقوله لنا بيان الله سبحانه وتعالى ﴿الْأَخِلَّاءُ﴾، من هو خليلك في هذه الدنيا يا عبد الله؟ خليلك الذي يأخذ بيدك إلى الله فيكرمكما الله عز وجل بحبه بعد أن يكرمكما الله سبحانه وتعالى بجزاءه.  


﴿المتحابّين فيَّ على سرر من نور يوم القيامة﴾، ﴿وجبت محبتي للمتحابين فيّ﴾، هذا هو خليلك يا أخي، خليلك ذاك الذي يدلُّك على الله، إياك أن تتخذ من شيطان من شياطين الإنس خليلاً لك، إياك أن تتخذ من شيطان من شياطين الإنس صديقاً لك، فيزجك يوم القيامة في ضلال، ثم يزجكما هذا الضلال معاً في ندامة، وصدق الله عز وجل القائل: ﴿قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ, قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ، مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [قّ: 27-29]    

تحميل



تشغيل

صوتي