مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 19/06/2009

الوظيفة القدسية

‏الجمعة‏، 26‏ جمادى الثانية‏، 1430 الموافق ‏19‏/06‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن الله عز وجل أقام الإنسان في هذه الحياة الدنيا على وظيفة قدسية تتمثل أولاً في الدينونة بالعبادة والعبودية له عز وجل، وتتمثل ثانياً في الخضوع لشرعه، وإقامة المجتمع الإسلامي على المبادئ والنهج التي رسمها الله سبحانه وتعالى للإنسان، ثم إن الله عز وجل ضمن للإنسان في مقابل ذلك أمنه وطمأنينته ورغد عيشه ورزقه الموفور، ضمن له ذلك كله في مقابل أن ينهض بهذه الوظيفة القدسية التي أقامه سبحانه وتعالى عليها، ألم تقرؤوا في ذلك قوله سبحانه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]، ذلك هو الأمر، وهذه هي الضمانة، أولم تقرؤوا قوله سبحانه وتعالى:﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طـه: 132] ثم كان من شأن كثير من الناس -ويا للعجب- أن أعرضوا عن الوظيفة التي أقامهم الله سبحانه وتعالى عليها، ثم توجّهوا باهتماماتهم ومخاوفهم واضطراباتهم إلى هذا الذي ضمنه الله سبحانه وتعالى لهم، وإنه لَداء خطير هذا النهج المعاكس لما قد وصى به الله سبحانه وتعالى عباده، ولما أخبرهم به وأخذه على نفسه لهم من ضمانات.


    أما الوظيفة التي أقامهم الله عز وجل عليها، وهي الاصطباغ بذل العبودية والعبادة له عز وجل، ثم الانضباط بشرعه، وإقامة المجتمعات الإنسانية على النهج الذي أمر، وعلى المبدأ الذي خططه لهم، فإنهم يعرضون عن هذه الوظيفة التي كلفهم بها. أما الضمانة التي أخذها لهم الله عز وجل على ذاته العلية، فيتّجهون إليها باهتمام بالغ وباضطراب دائم وبخوف مستمر، هذا هو الداء الخطير الذي يعاني منه كثير من المسلمين في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية اليوم، معاكسة النهج الذي خاطبنا الله سبحانه وتعالى به، والاهتمام بما قد ضمنه الله لنا، والإعراض عما قد وظفنا الله سبحانه وتعالى فيه.


    وحديثي إليكم -يا عباد الله- بمناسبة تذكر هذا الداء الخطير هو التساؤل عن العلاج، ما العلاج الذي يعيدنا إلى النهج القويم، ويخرجنا من هذه الطريقة المعاكسة لما أمر الله سبحانه وتعالى به؟ ما العلاج الذي يجعلنا نقف على النهج القويم والصراط المستقيم، حتى نؤدي الوظيفة التي أناطها الله بأعناقنا، ونجعل اضطرابنا وقلقنا في سبيله، ثم نطمئن بالاً إلى الحياة الرغدة وإلى الرزق الذي ضمنه لنا الله سبحانه وتعالى؟ علاج ذلك يتمثل في شيء بسيط في الحديث عنه، وما أكثر ما استخف به كثير من الناس، ما أكثر ما استخف به كثير من المسلمين، إنه ذكر الله عز وجل، ذلك الذكر الذي ينبثق من القلب ويترجمه اللسان، ولا أعني به الذكر الذي يتحرك به اللسان مفصولاً عن شعور القلب، ذكر الله الذي ينبثق من الفؤاد هو العلاج لهذا الداء أيها الإخوة.


    ذكر الله سبحانه وتعالى يحقق نتيجتين قد تبدوان متعارضتين، النتيجة الأولى الطمأنينة النفسية التي تتحقق من وراء الاستمرار على ذكر الله عز وجل، والنتيجة الثانية الخوف والقلق والاضطراب، تلك المشاعر التي تهتاج بين الجوانح عند ذكر الله سبحانه وتعالى ولدى الاستقامة الدائمة على ذكره، أجل هما نتيجتان أخبر عنهما بيان الله سبحانه وتعالى، ولعل في الناس من يتصور أنهما نتيجتان متناقضتان، يقول الله سبحانه وتعالى:﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]، ويقول أيضاً:﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾[الأنفال:8/2]، هما نتيجتان؛ الوجل والاضطراب اللذان يسريان في القلب من جراء ذكر الله عز وجل، والطمأنينة التي تتحقق أيضاً من ذكر الله سبحانه وتعالى، فما حل هذا التناقض فيما يبدو يا عباد الله؟


ذكر الله سبحانه وتعالى إذا داوم عليه الإنسان يحقق في كيان الإنسان الطمأنينة تجاه رزقه، يحقق في كيان الإنسان الطمأنينة تجاه رغد عيشه، يحقق في كيان الإنسان الطمأنينة تجاه حياته الدنيوية التي يعيش فيها، ذكر الله عز وجل يزيدك ثقة بما وعدك به الله تعالى، تعلم عندئذٍ أن الله سبحانه لن يتخلَّ عنك، سيرزقك، سيمتعك بالنعيم وبرغد العيش، وسيحقق لك الطمأنينة والأمن في الحياة التي تعيشها إن أنت تحققت بالوظيفة التي أقامك الله سبحانه وتعالى عليها.


    وهكذا، فذكر الله عز وجل إذ ينبثق من نبضات الفؤاد يحقق طمأنينة النفس تجاه ما ضمنه لك الله سبحانه وتعالى. وذكر الله عز وجل يفجر بين جوانحك الخوف والاضطراب والقلق مما أنت مقبل عليه بعد موتك عندما ترحل إلى الله سبحانه وتعالى، ذكر الله عز وجل يفجّر بين جوانحك القلق والاضطراب تجاه الوظيفة التي أقامك الله سبحانه وتعالى عليها، والتي لم تقم بها كما ينبغي، ولم تؤدِّها حق الأداء كما أُمرت، وهذا هو المعني بقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال: 2]


    لعلك تقول: إن في الناس من لم يقصروا في جنب الله، في الناس من استطاعوا أن يسلكوا الطريق الذي أمر به الله، واصطبغوا بكسوة العبودية والعبادة لله، ففيم يشعرون بالوجل والاضطراب عند ذكرهم لله؟ لا -يا عباد الله- ليس في الناس ناسٌ أدوا حقوق العبودية لمولاهم وخالقهم قط، ليس في الناس ناسٌ استطاعوا أن ينهضوا بكل ما أمر به الله عز وجل، حتى الرسل والأنبياء يظلون في خوف دائم وفي قلق مستمر تجاه شعورهم بأنهم مقصرون في أداء حقوق الله، مقصرون في شكر الله عز وجل، أو لم يكن يقوم رسولنا صلى الله عليه وسلم معظم الليل على قدميه يناجي الله ويقف بين يديه حتى يتورم منه القدمان، وحتى يقول لعائشة وقد سألته عما يفعل بنفسه وعن السبب في ذلك، قال لها: ﴿أولا أكون عبداً شكوراً؟﴾.


فما بالك بأمثالنا نحن الذين نتطوح في شهواتنا وأهوائنا، ونتطوح في أودية التقصير وإنه لأشكال وألوان، أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نقيم مجتمعاتنا على النهج الذي أمر، وعلى الدعائم الدينية التي كلفنا الله سبحانه وتعالى بإقامة مجتمعاتنا عليها، فأعرضنا عن هذه الوظيفة التي أناطها بأعناقنا، وقلنا: لا، بل الأَولى أن نقيم مجتمعاتنا على نظم مدنية، بل الأَولى أن نقيم مجتمعاتنا بعيداً بعيداً عن الدين ووحيه، عن الشرعة وأمرها، ثم نقول: إن ذكر الله سبحانه وتعالى ما ينبغي أن يبعث الوجل في القلب، كيف؟ نحن مقصرون -يا عباد الله- والإنسان المقصر أحد رجلين، رجل معترف بتقصيره من شأنه أن يلتجأ إلى الله وأن يذكر الله عز وجل دائماً مستغفراً مسبّحاً مهلّلاً مكبّراً، ويجعل من ذكره لله سبحانه وتعالى أداةَ رجوع إلى الله ولسانَ توبةٍ إليه، في هذه الحال لا بد أن تتفجّر بين جوانح هذا الذاكر مشاعر الوجل، مشاعر الاضطراب، مشاعر الخوف مما هو مقبل عليه بعد الموت، ولسوف يكون وجلُه هذا شفيعاً له عند الله، لسوف يكون اضطرابه الذي ينبعث من خلال ذكره لله عز وجل شفيعاً له بين يدي الله عز وجل.


أما الرجل الآخر، فهو ذاك الذي يبرّر إعراضه عن الله، هو ذاك الذي يبرّر سيره على النهج الذي تشاؤه له أهواؤه ورعوناته، هو ذاك الذي يقول: لا، بل الحداثة أَولى، الحداثة التي نُدْعَى إليها أَولى من الانقياد لأمر الله عز وجل، ومن تحقيق ما طلب الله سبحانه وتعالى، فهذا الإنسان محجوب -يا عباد الله- عن رحمة الله، محجوب عن مغفرته وكرمه لا بسبب الذنب، فإن الله يغفر الذنوب جميعاً، ألم يقل ربنا سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، ولكن الذي يحجب الإنسان عن رحمة الله استكباره، الذي يحجب الإنسان عن رحمة الله عتوه، يُذَكَّرُ بالله فيعرض، يُقَال له: يا هذا إننا عبيد مملوكون، وظائفنا في هذه الحياة الدنيا أن نتحقق بذل العبودية له، وأن ننهض بتطبيق شرعته، وأن نقيم مجتمعاتنا الإنسانية على الدعائم التي بَصَّرَنَا بها وأمرنا أن نقيمها على أساسها، فيعرض ويقول: ذهب ذلك الموقف، وذهب ذلك الوقت، وذهب ذلك العصر الذي تدعوننا إلى الرجوع إليه، هذا ما يحجب الإنسان عن رحمة الله سبحانه وتعالى ومغفرته.


    عباد الله، أعود فأقول لكم: إنه داء وبيل أن نعرض عن الوظيفة التي أقامنا الله سبحانه وتعالى عليها، وأن نهتم ونقلق ونضطرب تجاه ما قد ضمنه الله عز وجل لنا، فما علاج هذا الداء؟ علاجه ذكر الله ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعد:28] ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾[الأنفال: 2]، هما نتيجتان: وجلٌ واضطراب، وكم نحن بحاجة إلى هذين الدوائين؛ وجلٌ مما نحن مقبلون إليه غداً، وطمأنينة تجاه ما قد ضمنه الله سبحانه وتعالى لنا اليوم.


أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي