مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 29/05/2009

دور المسجد في بناء المجتمع الإنساني المتماسك السليم

‏الجمعة‏، 05‏ جمادى الثانية‏، 1430 الموافق ‏29‏/05‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن مما يلفت النظر أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هاجر من مكة إلى المدينة المنورة، واستقر له المقام فيها، واتجه إلى إقامة أول مجتمع إسلامي، واتجه إلى بنائه على أركانه الثلاثة الكبرى بدأ من ذلك كله بالمسجد، مع العلم بأن من المتوقع - كما نعرف اليوم - أن يبدأ باستكتاب الوثيقة أي الدستور كما يُعَبَّرُ عنها اليوم، أو بعقد رباط الأخوة بين المسلمين بعضهم مع بعض وبين المهاجرين والأنصار، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يبدأ بهذه ولا بتلك، وإنما بدأ بالأمر بالمسجد، خطط للمسجد، وعيّن له مكاناً، وأمر أصحابه بالمبادرة والإسراع إلى بنائه، فلماذا وهو الذي يقول فيما صح عنه: )جُعِلَتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً[، أينما حل ميقات الصلاة للإنسان أن يصلي في ذلك المكان.


لماذا أسرع إلى هذا الركن من أركان المجتمع الإسلامي قبل الركن المهم الذي يتمثل في الدستور ويتمثل في عقد رباط الأخوة بين المسلمين؟ الجواب عن هذا - يا عباد الله - أن المجتمع لا يمكن له أن يتماسك وأن تترسخ جذوره إلا بالانضباط بالأخلاق الإسلامية، وإنما تنضج الأخلاق الإسلامية داخل المسجد، والمجتمع الإسلامي لا تترسخ جذوره ولا يتماسك وجوده إلا عن طريق الود والتراحم والتآلف، وإنما ينضج ذلك أيضاً في رحاب المسجد، والمجتمع الإسلامي لا يمكن أن يتكامل بنيانه، ولا يمكن أن تترسخ جذوره إلا بوجود مبدأ العدل والمساواة وخضوع المجتمع لقانون كل منهما، ولا يمكن أن ينضج العدل ولا أن تنضج المساواة إلا في رحاب المسجد، والمجتمع الإسلامي لا يمكن أيضاً أن يتماسك بنيانه ولا أن تترسخ جذوره إلا بالوحدة، وحدة الأمة تلتقي على حبل الله سبحانه وتعالى الذي أمر الله عز وجل بالاجتماع عليه، ولا يمكن للوحدة أن تنضج إلا في داخل المسجد.   


هذه حقيقة ينبغي أن نعلمها، وذلك هو السر في أن المصطفى صلى الله عليه وسلم بدأ ببناء المسجد، وجعله أول ركن وأخطر ركن من أركان المجتمع الإسلامي، وانظروا في هذا إلى قول الله عز وجل: )قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ[  [لأعراف: 29]، )وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ[ تعبير عن أدق معاني العبادة والعبودية لله عز وجل، ربط البيان الإلهي بين العبادة والمسجد لهذا السبب الذي أقوله لكم، ولما كان المسجد يؤدي هذه المهام الأربع التي حدثتكم عنها، أمر ربنا عز وجل بسبب ذلك كلاًّ منا إذا اتجه إلى المسجد أن يزَّيَّن، وأن يتطيب، وأن يتهيأ لكل ما ينبغي أن يوجد من أجل الإيناس ومن أجل تحقيق رسالة المسجد التي حدثتكم عنها، أليس هو القائل: )يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ[  [لأعراف: 31] لأنك عندما تأتي إلى المسجد إنما تمد آصرة الود والإخاء والمؤانسة والمساواة بينك وبين إخوانك، ولا يتم ذلك إلا بهذه الآداب التي يلفت البيان الإلهي النظر إليها.   


هذا باختصار، أما تفصيل ذلك بالقدر الذي يسمح به مثل هذا المقام فاسمعوا يا عباد الله، المجتمع الإنساني لا يمكن أن ينهض إلا عن طريق خدمات متنوعة مختلفة، ومن جرَّاء ذلك لا بد أن يختلف الناس في اختصاصاتهم، ولا بد أن يتفاوتوا في رتبهم، ولا بد أن يتفاوتوا في معاشاتهم ودخلهم، هكذا يقتضي التعاون الذي أقام الله عز وجل المجتمع الإنساني على أساسه، ولكن ما السبيل إلى أن يعلم الإنسان أن مظاهر التفاوت هذه التي تقتضيها الخدمات الاجتماعية إن هي إلا مظاهر زائفة، وأننا إذا طرحناها وعدنا بها إلى حقيقة الإنسان وجدنا الناس كلهم سواسية كأسنان المشط، وأنهم جميعاً يتساوون في الهوية عبيداً لله؟ ما الذي يُنَبِّه الإنسان إلى أن الرتب التي يقتضيها المجتمع في أسواقه وحوانيته وشوارعه ودوائره إن هي إلا رتب زائفة ما ينبغي أن يُخْدَعَ الإنسان بها؟ إنه المسجد الذي يلفت نظر الإنسان إلى ذلك، المسجد هو الذي ينبهك إلى أن كل تلك الرتب زائفة عارضة وتزول.   


تأملوا - يا عباد الله - عندما يدخل الداخلون إلى المسجد وهم رتب متفاوتة، مستويات مختلفة، لا بد أن يضع كل واحد منهم رتبته ومكانته حيث يضع حذاءه ويدخل إلى رحاب الله مجرداً من ذلك كله، مجرداً من شاراته، مجرداً من مكانته، مجرداً من وظيفته مهما تسامت، مجرداً من غناه وأبهته، كل ذلك يتجرد عنه، ويقف بين يدي الله عز وجل عبداً ذا هويةٍ أصلية هي الأساس، وينظر عن يمينه وشماله، وإذا الكل قد تساووا على هذه الشاكلة.   


يدخل الداخل إلى المسجد، وربما كان غنياً من الأغنياء، وربما كان مترفاً من المترفين، وربما كان ذا مكانة باسقة في دائرته أو بين قومه، يدخل ولا يمكن أن يصلي إلا حيث انتهى به الصف، يقف فيصلي ويسجد، ولعل رأسه تكون بين قدمي رجل لو رآه في الطريق لما التفت إليه، ينظر فيجد أن رأسه الساجد لله قد أصبحت بين قدمي إنسان يقدمه في الصف، رجل لا يؤبه به، مدفوع في الأبواب، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم، هل يستطيع أن يحتج؟ هل يستطيع أن يغير من هذه الحقيقة شيئاً؟ لا، وهذا يتجدد كلما تكرر دخول الإنسان على اختلاف الرتبة إلى المسجد، وتعهد نفسه بالإقبال إلى المسجد كل يوم خمس مرات كما شرع الله سبحانه وتعالى ونبه، ما الذي يحدث؟ يتجرد هؤلاء الناس من عوارض مراكزهم وأبهاتهم ومستوياتهم، ويعلمون أنها أمور عارضةٌ ينبغي أن تُلْقَى حيث تُلْقَى الأحذية، فإذا خرج عاد فاستعمل هذه الرتب من أجل المصالح، من أجل إزجاء حاجات المجتمع، وتحقيق مبادئ التعاون الذي ينبغي أن يكون فيه.   


الذين يختلفون إلى المسجد ليؤدوا الصلاة التي شرعها الله عز وجل جماعة في المسجد لا فرادى في بيوتهم تذوب الفوارق المختلفة شيئاً فشيئاً مما بينهم وبين الآخرين، وتمتد وشيجة التآنس بين التاجر الكبير والفقير الصغير، بين الموظف الكبير والإنسان الذي لا يؤبه له، تسيل وتسير جسور القربى والتآنس والتعارف بينهم، وهكذا تذوب في المسجد الفوارق المختلفة التي نراها في المجتمع والأسواق والدوائر ونحو ذلك، وعندما يكون أحدهم ممن يغشى المسجد دائماً وهو ذو مكانة عالية يلتفت في كثير من الأحيان يميناً وشمالاً فيجد مسكيناً من المساكين الذين كانوا أيضاً يجتمع بهم في رحاب هذا المسجد وإذا به يفتقده، يبحث عنه يوماً ويومين وثلاثة أيام فلا يراه، يسأل عنه، يُقَال له: إنه مريض، وإنه في بيته لا يستطيع أن يخرج إلى الصلاة، فيقول: أما ينبغي أن نزوره؟! أما ينبغي أن نعوده؟! يخرج هو وصحبٌ له من المسجد إلى زيارته، ما الذي جعله وهو ذو مكانة باسقة يبحث عن مثل هذا الإنسان المسكين الفقير، ويجد حاجة ماسة في نفسه وبين جوانحه إلى أن يزوره وإلى أن يعوده؟ المسجد، ولو أن هذا الإنسان لم يكن يلتفت إلى المسجد، ولم يكن من روّاده لما شعر بهذه الطبقة من الناس، ولما شعر بوجود مسكن أو فقير ينبغي أن يسلم عليه، فضلاً عن أن يدخل داره، فضلاً عن أن يزوره.   


أرأيتم إلى المسجد ماذا يصنع؟ بوتقة تنضج فيها الأخلاق، بوتقة تنضج فيها مشاعر الود والرحمة، بوتقة تنضج فيها مبادئ المساواة والعدل، بوتقة تنضج فيها الوحدة، وانظروا إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هل تلاقت فيما بينهم مشاعر الود إلا في المسجد؟ هل صفت قلوبهم من فوارق القومية والعصبية والعرقية وما إلى ذلك إلا في المسجد؟ هل عاشوا جسداً واحداً وقلباً واحداً ينبض بشعور واحد إلا في المسجد    تلك هي رسالة المسجد - يا عباد الله - وهذا هو السبب في أن المصطفى صلى الله عليه وسلم أعلن أن صلاة المرء جماعةً في المسجد تفضل صلاة الفذ، أي الفرد، سبعةً وعشرين درجة، من أجل هذا ينبغي أن نتواصى بالاهتمام بالمساجد والاختلاف إليها، ينبغي أن نجعل في كل سوق تجارية، أو بناء ينهض للتسوق، مسجداً أو مصلى في داخلها، ينبغي أن يكون في كل دائرة مسجد يتلاقى فيه الإخوة ليزداد شعور الأخوة فيما بينهم، ينبغي ألا تكون هنالك مؤسسة إلا وفي داخلها مصلى ينهض بهذه الرسالة التي حدثتكم عنه.   


هذه هي وظيفة المسجد، وإني لأسأل الله عز وجل أن يوقظنا للتحقق بهذه الرسالة، ولرفع مستوى مساجدنا إلى تحقيق هذا المعنى الذي شرعه الله عز وجل والذي لَفَتَ نَظَرَنَا إليه عندما قال: )قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ[  في المساجد )مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ[ [الأعراف: 29]  إن بدأتم على هذه الشاكلة تعودون إلى الله برحمة وصفح.


أقول قولي هذا، وأستغفر الله.

تحميل



تشغيل

صوتي