مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 22/05/2009

شجرة الإسلام الباسقة

‏الجمعة‏، 28‏ جمادى الأولى‏، 1430 الموافق ‏22‏/05‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


بوسعنا أن نتصور الإسلام شجرة باسقة يانعة مثمرة، أما جذورها الضاربة في طوايا الأرض فتتمثل في هيمنة مشاعر العبودية لله عز وجل على طوايا النفس والفؤاد، وأما جذعها فإنما يمثلها العقيدة الإسلامية الواحدة والموحِّدَة، والتي لا مجال للخلاف فيها، وأما أغصانها فهي تلك الأحكام والشرائع السلوكية والمبادئ الأخلاقية المتنوعة، وأما ثمارها فهي السعادة التي وعد الله سبحانه وتعالى بها كل من تشرف بهذا الإسلام، وكل من هيمنت عقائده الإيمانية على عقله يقيناً، وعلى قلبه وجداناً وحباً، هذه الحقيقة جسَّدَها لنا بيان الله عز وجل في هذه الصورة، وقد صدق ربنا القائل في محكم تبيانه: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [إبراهيم: 24-25]. هذه خلاصة البنيان الإسلامي بدءاً من جذوره الخفية في طوايا الكيان والنفس عبودية لله عز وجل، وانتهاءً بثمار السعادة التي وعد الله عز وجل بها عباده المؤمنين.


 وإذا عرفنا هذه الحقيقة - يا عباد الله - فبوسعنا أن نعلم أن عبودية الإنسان لله عز وجل هي معين التزاماته بأحكام الشريعة والمبادئ الإسلامية المتمثلة في العقائد والأخلاقيات وغيرها، هيمنةُ سلطان العبودية على الإنسان هي مصدر الالتزام بأوامر الله عز وجل، وهي مصدر الانتهاء عن النواهي التي حذَّرَنَا منها بيان الله عز وجل، وإذا هيمنت حقيقة العبودية لله عز وجل على نفس الإنسان أيّاً كان اصطبغت أعماله كلها - حتى ما نحسبه منها من الأعمال الدنيوية المختلفة - بحقيقة العبودية لله عز وجل، وتحولت إلى عبادة يتقرب بها هذا الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى.


فإذا ساقت الأقدار هذا الإنسان الذي هيمنت مشاعر العبودية لله على كيانه الداخلي، إذا ساقته إلى فلاحة الأرض وحراثتها واستخراج الخيرات منها، فإن عمله الدائب هذا يصبح عبادة من أجلّ العبادات إلى الله، ولا يلاحظ من خلال نشاطه في هذا الذي وجَّهَتْه الأقدار إليه إلا أن يستنزل رضا الله سبحانه وتعالى من خلال كدِّه وجهده، وإذا ساقته الأقدار إلى إشادة مصانعَ وإنشاء صناعاتٍ فإنه إنما يتجه بالبناء الذي شاده وبالصناعة التي أقامها إلى هذا الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، تغيب عن مشاعره فكرة الأرباح الدنيوية، تغيب عن مشاعره فكرة الأهواء والحظوظ النفسية المختلفة، ذلك لأن سلطان العبودية المهيمن على كيانه الداخلي يقوده إلى حيث رضا الله سبحانه وتعالى، ويحجبه عن حظوظ نفسه المختلفة، وإذا ساقت الأقدار هذا الإنسان إلى وظائف مختلفة، وإلى رتب حكومية متفاوتة، فإنه ينسى في عمله الذي ينهض به معنى المهنة التي يمارسها، ويُحْجَبُ عن حظوظه النفسية التي هو بصددها، ولا يتصور إلا أنه إنما وُظِّفَ لهذا العمل من قبل مولاه وخالقه سبحانه وتعالى، العمل الإداري الذي أنيط به له مظهر وكلنا يعرفه ويتبينه ويعلم حدوده، ولكنّ له مضموناً أيضاً، ومضمون هذا العمل إنما تعرِّفه وتحدده مشاعر عبوديته لله سبحانه وتعالى.


إذا عاد هذا الإنسان أياً كان مستواه في العمل الوظيفي أو الإداري الذي يمارسه إنما يسأل نفسه: ماذا صنعت في هذا اليوم من الأعمال التي تقربني إلى الله؟ هل تنكبتُ الجادة وفعلتُ شيئاً لا يرضي الله عز وجل؟ لقد أنيطت بي مهمة قدسية تتمثل في رعاية هذه الأمة، تتمثل في نقلها إلى المستوى الذي ينبغي أن تتبوأه والذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لها، ترى هل فعلتُ ما أملك في هذا السبيل؟ ترى هل إذا عدت إلى الله عز وجل أستطيع أن أجعل من خدماتي هذه شفيعاً بين يدي تقصيري أمام الله سبحانه وتعالى؟ ترى إذا تخطّفني الموت عما قريب ترى هل أستطيع أن أجعل من المهام - التي هي بحسب الظاهر دنيوية - عباداتٍ تنبض بها مشاعر عبوديتي لله سبحانه وتعالى تلكم هي وظيفة العبودية في كيان الإنسان، وهذا ما تفعله العبودية توجيهاً في حياة الإنسان وفي صبغ الأعمال أيّاً كانت بصبغة العبادة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى.


 ومن المعلوم - يا عباد الله - أن عبودية الإنسان للإنسان هي أبلغ مظهر من مظاهر الشقاء والضيم، ولكن عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى هي النشوة التي لا يمكن أن تعلوها نشوة مسعدة، شعور الإنسان بأنه منسوب إلى الله بالعبودية له مبعث سعادة ما بعدها سعادة، شعور الإنسان بذل عبوديته لله عز وجل يجعله ينتشي ولا كنشوة السكير بسكره.


 انظروا - أيها الإخوة - إلى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، انظروا إلى كلماته التي افتتح بها خطابه وقد أحدق المشركون به، قال: ﴿لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده﴾، أنا أستطيع أن أتبين مدى النشوة التي كانت تطوف برأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نسي نبوته ورسالته وتذكر عبوديته لله سبحانه وتعالى ونسب نفسه في تلك الساعة إلى الله بنسب العبودية له.


 تأملوا في قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها، وقد جاءت تقول له: لماذا تتعب نفسك كل هذا القدر في قيام الليل حتى تتورم قدماك وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ أجابها قائلاً: ﴿أفلا أكون عبداً شكوراً﴾، كان بوسعه أن يقول: أفلا أكون شاكراً، لكنها نشوة العبودية جعلته يطرب لهذه الكلمة: ﴿أفلا أكون عبداً شكوراً﴾ وعندما تحدث البيان الإلهي عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بمناسبة المكرمة التي أكرمه الله بها، مكرمة الإسراء ثم المعراج، ماذا قال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ [الإسراء: 1]، ولو كانت هنالك صفة ترضي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتبعث السعادة في كيانه أجلّ من هذه الكلمة لاستبدل البيان الإلهي تلك الكلمة بهذه، ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: 23]


ولكن كأني بكم تسألون: ما معنى عبودية الإنسان لله عز وجل؟ أو ما معنى شعور الإنسان بالعبودية لله عز وجل؟ معنى هذه العبودية - أيها الإخوة - أن يستشعر الإنسان منتهى الذل لمن هو أهل لهذا الذل، وأن يستشعر الإنسان منتهى المملوكية لمن هو المالك ألا وهو الله سبحانه وتعالى، لذلك الإله الحي القيوم، هذه هي حقيقة عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى، وإذا حُجِبَ الإنسان عن هذه الحال، حال العبودية التي تهيمن على طوايا النفس، فإن الإسلام يغدو في كيان هذا الإنسان مجرد أفكار، مجرد رؤى، مجرد نقاشات، مجرد مواقف من مثل هذا الموقف الذي أقف به أمامكم، والأفكار الإسلامية ما كانت لتأتي بأي حقيقة قط، الأفكار الإسلامية وحدها دون أن تتصل بجذور العبودية لله عز وجل لا تفعل شيئاً، ولعلكم ترون دلائل ذلك في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية، إسلام الفكر لا يحقق شيئاً، هذا الإسلام الذي يتمثل في ألسنة ذَلِقَة، وفي بيانات سامية، وفي مؤلفات تُصَدَّرُ وتسَوَّق ذات اليمين وذات الشمال، هذا كله إذا لم يكن متّصلاً بهذا الذي أحدثكم عنه، إذا لم يكن متّصلاً بوقود العبودية لله عز وجل، لا يمكن لهذه الأفكار مهما كَثُرَتْ ومهما كانت صائبة ومنطقية لا يمكن أن تفعل في كيان أصحابها شيئاً.


وهنا لا بد أن ألفتَ نظركم إلى شيء يجب أن نتبينه، ولعله يدخل في شعار من الشعارات التي يُحَارَبُ بها الإسلام بشكل خفي، كلمة فوجئنا بها في هذا العصر تلتصق بالإسلام والإسلاميات والإسلاميين دون أن نجد فيما مضى ذكراً لهذا الكلمة أو لهذه النسبة، هذه الكلمة هي (الفكر الإسلامي، الأفكار الإسلامية، المفكر الإسلامي، المفكرون الإسلاميون)، هل سمعتم بهذه الكلمة في القرون التي خلت؟ ما أظن أن فيكم من سمعها، لماذا تُرَوَّجُ هذه الكلمة؟ هنالك خطة، وأنا المسؤول عن البرهان عليها، هي أن يستقر شيئاً فشيئاً في أذهان وتحولت إلى دين الناس أن الإسلام إن هو إلا أفكار بشرية تكاثرت ثم تكاثرت، ثم إنها تناسقت، ثم إنها اصطبغت بصبغة الدين، وهكذا فالدين في عقائده وشرائعه ليس وحياً من عند الله لعباده، وإنما هو رؤى وأفكارٌ تجمعت ثم تناسقت ثم ترسخت، هذا هو المقصد من ترويج هذه الكلمة، ولكم قُدِّمْتُ في مؤتمرات ومناسبات باسم المفكر الإسلامي.


وأعود فأقول لكم: الإسلام عبودية لله سبحانه وتعالى، ثم إن شجرة الإسلام تنبثق من هذه الجذور، عقائده تمثل جذعه، أغصانه تمثل شرائعه، ثماره تمثل الوعد الذي قطعه الله على ذاته العلية بإسعاد كل من يتمسك بهذه المبادئ، هي شرعة الله، هي الشرف الذي شرفنا به الله عز وجل عن طريق رسله وأنبيائه الذين أتوا مع الزمن.


 اللهم لا تحرمنا نعمة العبودية لك، اللهم إذا أُبْنَا إليك اجعل من عبوديتنا الضارعة لك شفيعاً بين يدي تقصيرنا يا ذا الجلال والإكرام.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي