مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 24/04/2009

سعادة العاجلة والعقبى

‏الجمعة‏، 29‏ ربيع الثاني‏، 1430 الموافق ‏24‏/04‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


تجربة مررتُ بها وقطفت ثمار العبرة منها أرجو أن نشترك في الاستفادة من هذه العبرة وأن نشترك في أخذ الدرس من هذه التجربة. ما زرتُ يوماً صقعاً من أصقاع العالم الغربي إلا وعدت منه بشعورين اثنين، أما أحدهما فشعور الأسى والإشفاق والرحمة لأناس يظلون يبحثون عن مفتاح سعادة الدنيا وأسباب الطمأنينة فيها حتى إذا عثر الواحد منهم على ما ظنه مفتاحاً للسعادة وركن إليه فوجئ منه بنقيض ما كان يتوقع ولم يجد فيه إلا ما يزيده شقاءً بالحياة واستيحاشاً منها، وأما الشعور الثاني فهو الاستغراق في يَمٍّ لا ساحل له من الثناء على الله ومن الشكر لخالقنا ومولانا عز وجل أن شرفنا بضوابط هذا الدين، أن شرفنا بقواعد هذه الشريعة التي تكفَّلَتْ لنا سعادة العاجلة وبشرتنا بسعادة العقبى.


هذا الغرب الذي أنا عائد منه قبل ساعات إذا أظلم فيه الليل وامتد سواده في الأرجاء نظرْتَ إلى ساحات ذلك الصقع وشوارعه وميادينه وأزقته وإذا هي قد أصبحت فارغة كل قد عاد إلى داره ومثواه أو مأواه من الليل، ذلك لأن الأمن غير مستتب ولأن الجرائم كثيرة وهذا هو ميقاتها. وعندما تأوي إلى دارك في تلك الساعة وتطل من خلال شرفة أو تأوي إلى نُزُلٍ تطل على الشارع من خلال النافذة لا تجد في الشوارع إلا العربات الذاهبة والآيبة، وفي الليل لا يمكن أن يهدأ ضجيج عربات النجدة وعربات الإسعاف إلى آخر الليل، ذلك لأن مهام هؤلاء الناس تبدأ تقريباً بعد الهزيع الأول من الليل فهذا مشهد من المشاهد التي تبعث الشعور الأول في نفسي. وتنظر إلى وجوه الذين تجاوزوا مرحلة الكهولة من حياتهم ودخلوا في مدارج الشيخوخة، تتأمل في هذه الوجوه فتجد أن معظمها قد اكتست قناع الكآبة، قناع الحزن والأسى ذلك لأن أصحاب هذه الوجوه قد ودعوا ليالي لهوهم وأيام عبثهم إلى غير رجعة وظهر من وراء ذلك المصير المحتوم الذي لا مفر منه بل المجهول أيضاً بالنسبة إليهم، ذلك المصير الذي يدنوا إليهم رويداً رويدا، فهذا هو المشهد الآخر الذي يبعث الأسى والشفقة في نفس كل متأمل ومتدبر.


والمهن، يا عباد الله، المهن القاسية والحرف القاسية المحرجة في الغرب كثيرة ولكن الغريب أن نصيب المرأة من هذه المهن أوفر وأكثر من مهن الرجال، عربات القمامة ما أكثر ما تقودها النساء، عربات النقل وما يتبعها من حمل للأثقال ما أكثر ما تقودها النساء، صيانة شبكات الصرف الصحي ما أكثر ما تُنَاط بالنساء دون الرجال، ما أريد أن أذكر لكم أنواعاً من هذه المهن المؤلمة القاسية ولكن الغريب أن نصيب المرأة من هذه المهن أوفر حظاً من الرجال، فهذا مشهد آخر من المشاهد التي تبعث الأسى والشفقة على أولئك المجتمعات في تلك الربوع، فأعود وأنظر إلى مجتمعاتنا الإسلامية التي ما تزال تتمتع ببقية إن لم أقل بكل ما قد شرع الله سبحانه وتعالى وأمر فأجد أهل هذه المجتمعات متحررين من هذه المآسي التي تعتصر القلوب، يمر الهزيع الأول من الليل ويتبعه الهزيع الثاني وتنظر إلى الأسواق والشوارع والساحات والميادين في بلادنا وإذا هي لا تزال تعج بالذاهبين والآيبين ولا يزال كثير من المَحَالِّ قد بقيت أبوابها متفتحة، لا خوف ولا هلع ولا رعب ذلك لأن الأمن مستتب ولأن عين الشريعة الإسلامية الحارسة تكلؤ أمتنا الإسلامية ولأن الأخلاق الإسلامية لا تزال موجودة في مغارسها ولا يزال ديننا الذي شرفنا الله عز وجل به لا يزال هو الذي يبعث الأمن والطمأنينة في النفوس، وصدق الله القائل: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)، وصدق الله القائل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، نعم. وتنظر إلى وجوه أولئك الذين دخلوا في مدارج الشيخوخة من رجالنا الذين عاشوا في ظل الإسلام والذين تَرَبَّوا على مائدة هذا الدين فتجد الألق يزدهر به وجوههم وتجد مظاهر الأمن والطمأنينة قد هيمنت على كياناتهم، لماذا؟ لأنهم قد علموا قصة هذه الرحلة الإنسانية، أطلعهم الله عز وجل عليها، علموا المبدأ وعلموا المنتهى وعلموا معنى الموت وحسبكم من معناه المؤنس ومن معناه المبشر قوله سبحانه وتعالى: (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون)، ألا ما أجل هذه النعمة، ما أجل هذه المكرمة التي أكرمنا الله سبحانه وتعالى بها.


أما ينبغي أن تهيمن الشفقة في قلوبنا على أولئك الذين حرموا من فهم معنى الموت، أولئك الذين حرموا من فهم معنى هذه الحياة ومنهاجها وبرامجها. وتنظر إلى المرأة التي نمت وترعرعت في ظل أسرة لا تزال تعتز بهذا الدين ولا تزال تعتز بشرائعه وأخلاقه فتجدها تتربع من حياتها على عرش الكرامة، على عرش العزة، هل وجدتم في مجتمعاتنا الإسلامية امرأة زجها العوز أو زجتها الضرورة إلى تقود سيارة القمامة، هل وجدتم في مجتمعاتنا الإسلامية امرأة زجتها الضرورة إلى أن تقود سيارة النقل وأن تُضْطرَّ إلى أن تحمل أثقال الناس من مكان إلى مكان؟ لا أيها الإخوة، ما أظن أن أعينكم رأت شيئاً من هذا قط، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى كرَّم المرأة، أمر الأب أن يكون هو الحارس على كرامتها، أمر الأب أن يكون هو الذي يمنع أن تُزَجَّ في عوزٍ وضرورة حتى إذا تزوجت أمر الشارع الزوج أن يقوم بما كان يقوم به الوالد من قبل فهي مكرمة مكفية إن كانت تعيش في دار أبويها أو تعيش في دار زوجها، على أن الشارع لم يمنعها من العمل لكن لا بسائق ضرورة وإنما بسائق رغبة، إذا وجد العمل الذي يناسبها والذي يتلائم مع ضوابط الآداب الشرعية التي أوصاها الله سبحانه وتعالى بها فلا حرج. نعم، هذا هو مجتمعنا.


وعندما أقارن مجتمعاتنا الإسلامية، وشامنا مجتمع يقف في مقدمة تلك المجتمعات وأنظر وأقارن، أما ينبغي أن نشعر بهذا الذي أقول لكم؟! أما ينبغي أن نشعر بِيَمٍّ لا ساحل ولا حدود له من الشكر لله، من الثناء على الله عز وجل الذي أكرمنا بهذه الشرعة وشرفنا بهذا المنهاج، الذي جعلنا ممن قال عنهم: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن)، تأملوا (أولئك لهم الأمن)، الأمن في الدنيا والأمن في الآخرة، لن يقعوا في خوفٍ من الجرائم، لن يجدوا أنفسهم بعيدين عن الطمأنينة وأسبابها، سيجدون أنهم يتفيؤون ظلاً وارفاً من ظلال الأمن والطمأنينة ورغد العيش وسلامة العيش في هذه الدنيا العاجلة، هذا إلى جانب ما بشرنا الله عز وجل به من سعادة العقبى. ولكن الذي يؤلمنا يا عباد الله أن في مجتمعاتنا من لا يزال يسيل لعابهم على الصور والمظاهر الغلافية لتلك المجتمعات الغربية وهم في غفلة عما هو موجود في داخل الغلاف، ليت أن هؤلاء الإخوة والأخوات يتجاوزون صور الغلاف التي هي صور لقلة من ممثلات هوليود، لقلة من  النساء المترفات، ألا ليت أن إخوة لنا وأخوات لنا يخترقون صور الغلاف هذه ويدخلون في داخل تلك المجتمعات ليروا المآسي، ليروا ما يعتصر القلوب ألماً، لعل فيكم كثيرين ذهبوا ورأوا ما رأيت، وأنا والله لا أبالغ أيها الإخوة، أصف لكم جزءاً مما رأيت ولو أنني تتبعت لرأيت أكثر وأكثر.


المصيبة التي أسأل الله أن يعافينا ويعافي أبناء جلدتنا، إخواننا وأخواتنا، منها أن فينا من قد عافاهم الله عز وجل من الجرب ومع ذلك فإن أحدهم إذا رأى هؤلاء الذين يعانون من مرض الجرب وإن الواحد منهم يكاد يمزق جلده حكاً يحاول أن يقلده في الحك أيضاً، ويحك أنت معافى، أنت لست مريضاً، عافاك الله مما ابتلى به أولئك الناس، لماذا تمد أصابعك بل أظافرك إلى جلدك فتحك كما يحك أولئك الناس، أيصل التقليد بالإنسان العاقل الحر إلى هذه الدرجة يا عباد الله، رأيت المرأة التي تجاوزت مرحلة الكهولة إلى الشيخوخة وقد اجتواها الصديق بل الأصدقاء واجتواها الزوج، هجر ولم يطلق تعيش وحيدة في منـزل قصي لها تنتظر النهاية التي تخرجها من هذه الحياة وتتأمل في مظهرها وإذا بالشقاء يعتصرها اعتصاراً، لا ولد يتعرف عليها ولا أخ أو أخت يعرفها وإنما البلاء والشقاء هما صديقاها فقط، أما المرأة في مجتمعاتنا الإسلامية عندما تدخل في مدارج الشيخوخة فإن هالة الكرامة تزداد حراسة لها، وإن عرش العزة تزداد رسوخاً فوقه، لا يُقْضَى دونها بأمر، الكل يرجع إليها، الكل يُقَبِّلُ يديها صباح مساء.


يا هؤلاء الناس احمدوا الله على هذا الذي أكرمنا به من حيث يفتقر إليه أولئك الناس، نعم هذه هي الحضارة، قلتها بالأمس وأؤكد لكم ذلك اليوم، الحضارة الإنسانية هي هذه، نحن لا الغرب الذين نتمتع بالحضارة الإنسانية المتمثلة فيما ذكرت لكم، نحن متخلفون في شيء واحد هي الناحية العلمية التقنية فقط والغرب متخلف في كل مظاهر الحضارة الإنسانية إلا هذا الجانب التقني فقط. تعالوا نعد مرة أخرى إلى هذه المنة الربانية التي طوق الله بها أعناقنا إذ قال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، رضينا اللهم إسلامك ديناً لنا فوفقنا اللهم للتشرف به ولتطبيقه كما أمرت أقول قولي هذا وأستغفر الله. 

تحميل



تشغيل

صوتي