مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 10/04/2009

كيف تتحقق العبودية أساساً وجذوراً للعبادة ؟

‏الجمعة‏، 15‏ ربيع الثاني‏، 1430 الموافق ‏10‏/04‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


صح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ﴿ستداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا أمن قلة نحن يا رسول الله يومئذ؟ قال: بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل وسَيَنْزِعَنَّ الله الرهبة منكم من قلوب أعدائكم وسيقذفن في قلوبكم الوهن قال قائل ما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت﴾، في الناس يا عباد الله من استشكل هذا الحديث، قال قائلهم لماذا يكونون غثاء كغثاء السيل وهم مسلمون بكلام المصطفى صلى الله عليه وسلم وشهادته؟ لماذا يكون المسلمون غثاء كغثاء السيل وإن المساجد لتغص بهم ركعاً سجداً مصلين وإن البيت الحرام على اتساعه يغص بالطائفين والحاجين والمعتمرين وإنهم ليقبلون على صيام رمضان في كل عام وإنهم ليقبلون إلى كثير من الطاعات وفي مقدمتها تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى؟ فما الجواب عن هذا الاستشكال أيها الإخوة؟


الجواب أن هؤلاء الذين وصفهم رسول الله بأنهم غثاء كغثاء السيل يتصفون من الدين بعباداته ولكن عباداتهم هذه ليس لها جذور من العبودية مهيمنة على كياناتهم الداخلية، هذا هو الجواب باختصار، ولربما قال قائل وهل من فرق بين العبادة والعبودية؟ نعم هناك فرق كبير بينهما وما أحرى المسلمين اليوم أن يتبينوا هذا الفرق، أما العبادة فكسوة يتحلى بها الجسم وتظهر على أعضاء الإنسان من صلاة، من ركوع وسجود، من تسابق إلى الحج، من تطوافٍ حول بيت الله وسعي بين الصفا والمروة، من تلاوة لكتاب الله عز وجل، تلك هي العبادة وهي كسوة يتحلى بها الجسم وتظهر على الأعضاء، أما العبودية فغذاء يناله الكيان الإنساني الداخلي، غذاء للقلب، غذاء للنفس، غذاء للمشاعر، هذا الغذاء يتمثل في عظيم المهابة لله عز وجل، يتمثل في الانكسار الدائم والدائب على باب الله سبحانه وتعالى، يتمثل في التذلل والالتصاق الدائم على أعتاب الله سبحانه وتعالى، تلك هي العبادة وهذه هي العبودية.


وإنكم لتلاحظون من هذا الذي قلت أن علاقة العبودية في الكيان الداخلي للإنسان من العبادة التي تتجلى على أعضائه وظاهره أشبه ما تكون هذه العلاقة بعلاقة الروح من الجسد، المسلمون اليوم ربما كانوا فعلاً يتسابقون إلى الطاعات والعبادات الكثيرة ولربما وجدنا أن المساجد تفيض بهم مصلين راكعين ساجدين، وإننا لنجد أن عدد الحجيج يزداد كل عام عن العام الذي سبق، والمقبلون إلى كتاب الله المتفننون في إخراجه مصاحف متنوعة والمتفننون في تلاوته والمتفننون في الإصغاء إليه والطرب لسماعه هؤلاء كثر ولكنها العبادة التي لا حَظَّ  إلا للجسد منها فأين هي العبودية يا عباد الله؟ أين هو التذلل على أعتاب الله عز وجل؟ أين هي المهابة تفيض بها قلوب هؤلاء العابدين؟ إذا وجدت العبادة منبتة ومنفصلة عن جذور العبودية المهيمنة على النفس والقلب فما أكثر ما يتصيدُ العبادةَ الاستكبارُ يستكبر بها على الناس، ما أكثر ما يتصيد العبادةَ العجبُ يُعْجَبُ بعباداته وطاعاته على الأقران، على الآخرين، ما أكثر ما يتصيد العبادةَ المصالحُ الشخصية التي يبتغي بها الإنسان لنفسه، ما أكثر ما يوظف الإنسان في هذه الحالة عباداته لمصالحه، لأهوائه، لمبتغياته، للرئاسة، للشهرة، لما تعلمون من المنافع الدنيوية الأخرى، ولكن عندما تتحقق العبودية مهيمنة على النفس يتكون من ذلك سياج يحمي العبادة من هذا الاصطياد، يحمي العبادة من أن تُوَجَّهَ إلى غير الله سبحانه وتعالى.


وانظروا يا عباد الله كيف نَبَّهَنَا كتابُ الله عز وجل إلى الفرق بين العبادة والعبودية، حدَّثَنَا عن طائفة من الرسل والأنبياء وأوليائه الصالحين ثم أثنى عليهم قائلاً: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ﴾ [الانبياء: 73]، فتلك هي العبادة ثم لفت النظر إلى العبودية فقال: ﴿وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ [الانبياء: 73]، لا تتوهموا أن الكلمة فيها تكرار فمعاذ الله أن يكون في كتاب الله تكرار لا معنى له، ﴿وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ أي وكانت عباداتهم تلك من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ونحوها كانت مؤسسة على العبودية لله عز وجل فذلك هو معنى قوله: ﴿وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾، والمزية كل المزية إنما تتمثل في هذه الجملة الأخيرة من آخر هذه الآية ﴿وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾، فمن أجل هذا يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في هذه العصور المتأخرة بهذا الذي ترون وإنه لرسم دقيق للواقع، المسلمون كثر كما تعلمون وهم ينتشرون في أصقاع الأرض كلها ولكنهم كما قال عليه الصلاة والسلام غثاء كغثاء السيل.


فما العلاج بعد أن عرفنا الفرق بين العبادة والعبودية؟ العلاج أيها الإخوة أن نؤسس عباداتنا المرئية الظاهرة التي نجمل بها أعضاءنا وجسومنا، العلاج أن نؤسس ذلك كله على حقيقة العبودية التي لا مركز لها إلا القلب ولا وجود لها إلا في الكيان الداخلي من الإنسان، عبوديتك لله إنما هي علاقة بينك وبين ربك لا يراها أحدٌ إلى الله سبحانه وتعالى أما العبادة فظاهرة تتعامل بها مع الناس وما أكثر ما تتصيدها المصالح المختلفة المتنوعة كما قد قلت لكم، وإذا أردنا أن نتمثل حقيقةً مجسدةً تمثل وتجسد لنا هذه العبودية التي تنقص المسلمين في هذا العصر فلننظر إلى حياة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولننظر إلى مظاهر الثناء من الله سبحانه وتعالى عليه، ألم تسائلوا أنفسكم يوماً لماذا قال الله عز وجل: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ [الإسراء: 1] هلا قال سبحان الذي أسرى بنبيه، برسوله؟ ركَّز على العبودية وطوى الحديث عن النبوة والرسالة، لأن عبودية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان يمارسها ذلاً، انكساراً التجاءً إلى الله عز وجل أسمى في الحقيقة من نبوته ورسالته،


ألا تسائلون أنفسكم أين هو مكان النشوة والزهو في كيان المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم أكرمه الله عز وجل بالنصر الفريد المؤزر إذ أكرمه فتح مكة، دخل مكة، كما تعلمون، من أعلى قمم النصر، لماذا لم يُزْهَ كما يُزْهَى عادة القادة والحكام والملوك في مثل هذه الحال؟ لماذا لم تأخذه النشوة؟ لماذا لم يأمر بأن تُبْنَى أقواس النصر لكي تكون ترجماناً لنشوته ولكي تكون ترجماناً للسرور المهيمن على كيانه؟ نظرنا فوجدنا أن المصطفى صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة كان يتصف بنقيض ذلك كله، ما رؤِيَ عليه الصلاة والسلام في ساعة من الساعات، ولا أقول في يوم من الأيام، هو أكثر تذللاً وانكساراً وتضاؤلاً منه في ذلك اليوم الذي كان يدخل مكة فاتحاً من أعلى قمم النصر، كان كما رُوِيَ في الصحيحين قد قوَّس رأسه على ظهر راحلته وأدنى رأسه من عنق راحلته حتى إن عثنونه، هذه الشعرات تحت الشفة السفلى، ليكاد يمس واسطة رحله من شدة ما قوس ظهره ومن شدة ما تذلل لله جل جلاله، كان يتلو في تلك الساعة سورة الفتح ويترنم بها، ولما دخل مكة وطاف بالبيت ونظر إلى أولئك الذي كم وكم ناصبوه العداء، كم وكم أوذي منهم في سبيل الله، نظر إلى أولئك الذين هاجر وطنه ومسقط رأسه بسببهم، نظر إليهم وهم واجمون خائفون، لم تطف نشوة الظفر والنصر برأسه لأن العبودية لله حالت بينه وبين ذلك، كانت النشوة التي تطوف برأسه نشوة الذل لمولاه وخالقه، كانت النشوة التي تأخذ بكيانه نشوة الانكسار والضراعة على أعتاب مولاه وخالقه، ظهر ذلك وتجسد في الكلمات التي افتتح بها خطابه أمام المشركين: لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده، عبده؛ لم يقل نصر نبيه، لم يقل نصر رسوله، ونصر عبده وأعز جنده،


هذه هي العبودية يا عباد الله التي تنقصنا والتي ينبغي أن نتلمس مكانها من أفئدتنا وأسرارنا ونفوسنا، فإذا أردتم أن تتبينوا كيف السبيل إلى ذلك فاجعلوا من نبيكم المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائداً وإماماً لكم في هذا كله.


كيف تتحقق العبودية أساساً وجذوراً للعبادة؟ يتحقق ذلك بشيئين اثنين؛ الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى، وأعود فأقول لكم مثنى وثلاث ليس المراد بالذكر ترديد اللسان لكلمات ربما كانت مقطوعة ومفصولة عن الجنان وإنما المراد بالذكر تَذَكُّرُ القلب، أن يتذكر القلب علاقته بالخالق جل جلاله، أن تتذكر أنك مملوك لمن فطرك، أن تتذكر أنك تتحرك في قبضة من قد خلقك، أن تتذكر أن بداءتك منه ونهايتك إليه، أن تتذكر أن كل ما تتمتع به من مِيَزٍ وأعطياتٍ تميَّزْتَ وتمتعْتَ بها أنت أيها الإنسان، لا تملك شيئاً منها، لا تفعل شيئاً منها إنما أنت منفعل بها، ذكاؤك، فكرك، لسانك الذي تنطق به، قوتك، عافيتك، رُوَاؤُك كل ذلك أعطيات لا تدري كيف دَلَفَتْ إليك ولن تدري كيف تتسلل عنك وتغيب عنك، عندما تمعن تفكيراً في هذه الحقيقة تعيش معنى وحدانية الله، تعيش معنى صمدية الله سبحانه وتعالى، تعيش معنى أنك عبدٌ مملوك لا يتأتى من شيء وإنما أنت كائن تتحرك في قبضة الله كما قُلْتُ، عندما تدرك هذه الحقيقة تصطبغ بذل العبودية لله ويفيض قلبك شعورٌ بتعظيم الله، شعورٌ بالمخافة من الله، شعورٌ بالحاجة الدائمة في رخائك وشدتك، في أمنك وطمأنينتك وخوفك، في كل الأحوال أنت محتاج إلى الانكسار والتضرع على أعتاب الله عز وجل، هنا تتفجر مشاعر العبودية لله عز وجل بين جوانحك.


وإذا رحل الإنسان أيها الإخوة إلى الله عز وجل بقلب يفيض عبودية لله عز وجل وانكساراً وضراعةً له فلسوف تكون عبوديته شافعاً للكثير من تقصيراته ولسوف تكون عبوديته بديلاً عن الكثير من أخطائه، إذا رحل الإنسان بهذه العبودية فإن قليلاً من العبادات والطاعات تكفي، ولكن إذا رحلت إلى الله وأنت تتمتع وتُزْهَى بالكثير من صلاتك، بالكثير من حجك، بالكثير الكثير من صيامك وبالمرات الكثيرة التي تحصيها على الله عز وجل في قراءة كتابه دون أن يكون ذلك كله مؤسساً على معنى العبودية لله عز وجل فإنك ستكون من رحلتك إلى الله على خطر، العبادة لا تكفي، وعندما يكون المسلمون كثرة كبيرة من الناس وليس لهم من صفات إسلامهم إلا العبادة يرفعون أعلامها وشعاراتها فوق رؤوسهم فإن مآلهم إلى ما قد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يكونوا غثاءً كغثاء السيل، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بذلك العبودية له وأن يجعل عبوديتنا له شفيعنا بين يديه عندما يحاسبنا على التقصير، عندما يحاسبنا على الأخطاء والنسيان.


أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي