مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 03/04/2009

هكذا كان خلفاؤنا وعلماء المسلمين في تاريخنا الغابر الأغر

‏الجمعة‏، 08‏ ربيع الثاني‏، 1430 الموافق ‏03‏/04‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


أضعكم اليوم أمام ثلاثة مشاهد لا أعلق على شيء منها وأتركها تترجم لكم العبرة التي تُؤخَذُ منها والحصيلة التي ينبغي للعاقل أن يقطف ثمراته منها. عبد الرحمن الناصر ثالث خلفاء الأندلس حكم من العام الثلاثمئة إلى خمسين وثلاثمئة، بنى قصره الزاهر المعروف وغمسه في كل ما استطاع أن يغمسه فيه من الزخارف وأنفق عليه الأموال الطائلة الكثيرة وجَمَّلَهُ بلبنات من الذهب والفضة، بلغ ذلك قاضيه المنذر بن سعيد فداخَلَهُ من ذلك غَمٌّ شديد وكان رجلاً ورعاً زاهداً صالحاً عالماً، وانتظر المنذر مجيء يوم الجمعة ومجيء عبد الرحمن الناصر إلى صلاة الجمعة عنده، وكان يصلي الجمعة دائماً عند قاضيه المنذر بن سعيد، افتتح المنذر خطابه بقوله تعالى: (أتبنون بكل ريع آيةً تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون، أمدكم بأنعام وبنين وجناتٍ وعيون، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم)، ثم قال: ولا تقولوا (سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين)، ثم أخذ المنذر يحذر من الاستغراق في المبالغة في البنيان وإشادتها وغمسها وإغراقها بالزخارف الزائدة عن الحاجة وأخذ يحذر عن نسيان الرحلة إلى الله سبحانه وتعالى وذلك اليوم القريب الذي ستُطْوَى فيه الدنيا بكل ما فيها من متعٍ وزخارف حتى اجتاح المصلين التأثر البالغ وكان في مقدمة من تأثر عبد الرحمن الناصر، ولما انقضت الصلاة ورجع إلى داره قال الخليفة لابنه الحكم إن المنذر ذهب في تقريعي مذهباً شديداً وما أظنه إلا أنه كان يريدني أنا بما كان يقول ويحذر فقال له ابنه فما يمنعك من عزله وإبعاده عن الصلاة وعن الخطبة؟ فقال له الخليفة الكلام التالي، وها أنذا أنقله لكم بنصه خوفاً من أن أغير أو أبدل كلمة أو حرفاً مما قال، أجابه الخليفة فقال لا أم لك أمثل المنذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه يُعْزَل من أجل نفس عاصية ناكبة عن الرشد سالكة غير سبيل القصد! هذا ما لا يكون وإني لأستحيي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاتي شفيعاً مثل المنذر في ورعه وتقواه بل يصلي بالناس حياته كلها وحياتنا إن شاء الله تعالى، ثم اتجه إلى القصر الذي بناه فنقض لبنات الذهب والفضة من أبهائه ومحا تلك الزخارف التي أنكرها عليه قاضيه المنذر بن سعيد. فهذا هو المشهد الأول.


أما المشهد الثاني، وبطلاه أيضاً الخليفة عبد الرحمن الناصر وقاضيه المنذر بن سعيد. رأى عبد الرحمن الناصر داراً جميلةً واسعةً أعجبته، أراد أن يشتريها لإحدى نسائه، وكانت ملكاً لبعض اليتامى فأرسل من يُقَوِّمُ تلك الدار، ولما قُوِّمَتْ وأراد عبد الرحمن الناصر أن يشتريها أراد وصي اليتامى أن يستشير في ذلك القاضي المنذر، ولما استشاره وأطلعه على الثمن رأى أنه ثمن بخس وأن الدار تستأهل أكثر من ذلك فأرسل إليه ينهاه عن شرائها بهذا الثمن وطلب منه أن يعطي المزيد وعندئذٍ أظهر الخليفة إعراضه عن تلك الدار، ولكن القاضي خشي أن يكون الخليفة قد تعلق بها وأنه ربما سيغتصبها بالثمن الذي عُرِضَ عليه ويُغْبَنُ عندئذٍ اليتامى فعمد القاضي المنذر إلى نقض جانب من تلك الدار وباع تلك الأنقاض فكان ثمنها أعلى من الثمن الذي رُصِدَ لتلك الدار وبلغ الأمر الخليفة فأرسل إليه يقول ما الذي دعاك إلى هذا فقال عملت بما قال الله عز وجل: ”أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءه ملك يأخذ كل سفينة غصباً“ ولقد بعت أنقاض هذا الجانب من الدار فكان ثمنها أعلى من الثمن الذي ذُكِرَ لك فقال له الخليفة نحن أولى باتباع الحق وجزاك الله عني خيراً إذ أوضحت ما ينبغي أن أن أفعل وحذرتني من الدخول فيما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، هذا هو المشهد الثاني.


أما المشهد الثالث فقد صح أن عاماً من الجدب والقحط مرَّ بقرطبة جفَّتْ فيها الينابيع واحتُبِسَ قطر السماء وعانى الناس ما عانوا من الجفاف، دعا المنذر بن سعيد إلى صلاة الاستسقاء واجتمع الناس في اليوم الموعود في المصلى خارج المدينة وأخذ المنذر ينتظر مجيء الخليفة فاستبطؤوا مجيئه، أرسل المنذر رسول الخليفة إليه وقال له إن الناس ينتظرونه ولابد من مجيئه بنفسه ليشهد معهم صلاة الاستسقاء فقال له رسول الخليفة يا سيدي الخليفة موجود وقد انتبذ مكاناً منفرداً هنا، ذهب المنذر إلى حيث ذُكِرَ له وإذا بالخليفة قد امتد على الأرض العراء منتبذاً منفرداً بنفسه وقد ارتدى ثياباً خشنة وما رُئِيَ في يوم أكثر انكساراً وذُلاً منه في ذلك اليوم وقد اضطجع برأسه ولحيته على التراب الأغبر وهو يقول: أي رب هذه ناصيتي بيدك أتراك تهلك الرعية بسببي وأنت أرحم الراحمين وأنت أحكم الحاكمين ولن يفوتك مني شيء يا ربي، ولما نظر المنذر إلى حال الخليفة ورأى بكاءه وذله وضراعته تهلل وجهه سروراً وعاد إلى المصلين فقال لهم أيها الناس لقد أُذِنْتُمْ بالسقيا فانصرفوا إذا خضع جبار الأرض رحم جبار السماء، هذا هو المشهد الثالث.


يا عباد الله أترون أني بحاجة إلى أن أترجم لكم ما تدل عليه هذه المشاهد؟ أترون أني أملك من البيان وبلاغة القول ما يعلو على حديث هذه المشاهد وبلاغتها وبيانها وحديثها إلى كل ذي عقل وذي بصيرة؟ أعتقد أنني لست بحاجة إلى أن أعلق على هذه المشاهد شيئاً ولكني أقول هكذا كان خلفاؤنا في تاريخنا الغابر الأغر وهكذا كان علماء المسلمين في تاريخنا الغابر الأغر، أما اليوم فلا الخلفاء والقادة والرؤساء والملوك يشبهون ذلك الرعيل الذي مضى ولا نحن الذين يسمون علماء يشبهون أولئك العلماء ذلك الرعيل الذي مضى وانطوى عهده. أعتقد أن من الخير أن أترك الوحي الذي توحي به هذه المشاهد في صمت إلى آذانكم وإلى وعي كل منكم وإلى البصيرة الإيمانية التي نتمتع بحمد الله عز وجل بها، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. 


أما بعد فيا عباد الله، كثيراً ما سُئِلْتُ من قبل أناس لم يذوقوا بعد لذة عبوديتهم لله سبحانه وتعالى، قيل لي فيم يكلفنا الله سبحانه وتعالى بعبادته والدينونة بِذُلِّ العبودية له وما أغناه عن أن يكلفنا بذلك؟ وكم وكم أجبت ولكن جوابي لم يقع الموقع الشافي من نفوس هؤلاء الذين أسأل الله لهم الهداية وأسأله الله عز وجل أن يذوقوا لذة بل نشوة العبودية لله عز وجل. قلت لماذا يقبح بالقذم أن يرتدي ثياب المردة الطوال، قل لي لماذا يقبح بالفقير الجائع الذي يمتص الجوع أحشاءه أن يجعل من نفسه ذلك الغني البازخ، ذلك الإنسان الذي لا يحتاج إلى لقمة طعام. المطلوب من الإنسان أن يتحقق بهويته ومرد ذلك إلى نفسه، فائدة ذلك عائدة إلى ذاته. أنا عبد مملوك لست مالكاً، إذاً ينبغي أن أتحقق بهوية العبودية وينبغي ألا أتمطى إلى ما لا يتفق مع هويتي، ينبغي ألا أتكلف نقيض ذاتيتي تماماً كالقزم الذي يقبح به أن يتردي ثياب المردة الطوال تلك الثياب التي تجر على الأرض بقاياها من ورائه، نعم، إن كنت حراً، طالعتك دراستك العلمية على ذلك، إن كنت تعلم أنك أنت الذي غرست بين جوانحك الصفات المثلى التي تتباهى بها، أنت الذي غرستها في كيانك وتحافظ عليها ألا تتبدد عنك وألا تنطوي عنك في يوم من الأيام فلك الحق أن تتباهى بحريتك ولكنك تعلم أنك منفعل بالصفات التي تتمتع بها ولست فاعلاً، داخلتك القوة بعد الضعف وعما قليل ستدبر عنك وستنطوي أيامها عنك، أنت تعلم أنك منفعل بهذا الذكاء الذي تتمتع به وعما قريب سيزول هذا الذي تتمتع به، كذلك كل الصفات التي تتمتع بها، وإذا ثبت أنني وأنت ونحن جميعاً عبادٌ مملوكون لله سبحانه وتعالى فلماذا لا نتعامل مع هويتنا ولا نحقق ما تقتضيه عبوديتنا لله سبحانه وتعالى، لماذا لا نذل لمولانا الذي يملك رقابنا ويأخذ بنواصينا، لماذا لا نضرع إليه عند الشدائد، لماذا لا نستنـزل النصر من لدنه عندما تطبق المصائب علينا من كل جانب، (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأء والضراء لعهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون). أقول لنفسي أيها الإخوة وأقول لكم وأقول لهؤلاء الإخوة الذين لا يزالون التائهين في مناكب الأرض إن استطعتم أن تتباهوا بحريتكم الذي تهتفون بها عندما يفاجئكم ملك الموت ويأخذ منكم بالغلاصم فإني أهنئكم بهذه الحرية التي أنتم لها، أما إذا علمت أنك في تلك الساعة ستفقد كل ما تتباهى به ولسوف تتحول إلى كتلة من الصغار والضآلة والذل والمسكنة بيد من أنت عبد له ومملوك له فلماذا لا تحقق هذا المعنى في ذاتك اليوم قبل أن تدركك تلك الساعة التي ينكشف فيها عنك الغطاء ولكن دون فائدة. 

تحميل



تشغيل

صوتي