مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 20/03/2009

الانضباط بوصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الاحتفال الحقيقي

‏الجمعة‏، 24‏ ربيع الأنور‏، 1430 الموافق ‏20‏/03‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


مررت صباح هذا اليوم بسوق الحميدية هذا فأعجبني مار أريت من انغماسه بمظاهر الزينة ابتهاجاً لذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكن سرعان ما قفز إلى ذهني تساؤل، تساءلت ترى هل تترجم هذه الزينة الجميلة انقياد أصحاب هذا السوق والأسواق الأخرى لوصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعاملة؟ هل تترجم هذه الزينة حقاً انقياد أصحاب هذا السوق والأسواق الأخرى للنهج الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته من بعده في التعامل، في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة؟


ولعلكم تعلمون يا عباد الله حقيقةً ما ينبغي أن يجهلها أحد وهي أن الإسلام بعقائده وبعباداته وبشرائعه إنما جعله الله سبحانه وتعالى خادماً لحماية هذه الأسرة الإنسانية من العلاقات السيئة ولحماية الفطرة الإنسانية الداعية إلى الوئام والداعية إلى الحب والوفاق والداعية إلى التعاون في سبيل إسعاد الفرد والمجتمع، ولو علم الله عز وجل أن هنالك علاجاً خيراً من علاج هذا الدين لحماية الأسرة الإنسانية من كل سوء ولِمَدِّ جسور الود والوفاق فيما بينها لوجَّهَ عباده إلى ذلك الدواء، وعدت أتساءل هل هذه الزينة وأمثالُها ترجمة دقيقة للانقياد لما تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: تركتكم على بيضاء نقية ظاهرها كباطنها لا يزيغ عنها إلا فاجر، عندما نعود إلى هذه الوصايا التي أوصانا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد أن الدين إنما يتمثل في المعاملة ونجد أن شرائع الإسلام تصب جميعها في الأخلاق الفاضلة، وصدق رسول الله القائل: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.


وإن الوصايا التي تركَنَا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعها أمانة في أعناقنا كثيرة يضيق عن استعراضها هذا الوقت المبارك الذي نتلاقى فيه للتوصية والتذاكر بشأن هذا الدين، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أحمد والحاكم في مستدركه من حديث علي: من احتكر الطعام أربعين يوماً فقد بَرِئَ من الله وبَرِئَ الله عز وجل منه، ويقول فيما يرويه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل السوق يوماً فوجد رجلاً يبيع طعاماً فأعجبه فأدخل يده فيه فرأى بللاً فقال عليه الصلاة والسلام للرجل ما هذا يا بائع الطعام؟ فقال أصابته السماء أي أصابه مطر فقال له: هلا جعلته من فوق لكي يراه الناس، من غشنا فليس منا، والحديث يرويه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ويروي جرير بن عبد الله فيما اتفق عليه الشيخان، قال عندما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وذهبت لأنصرف جذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثوبي فعدت فاشترط عليَّ النصيحة لكل مسلم أي في المعاملة، ويروي واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه الحاكم والبيهقي بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لامرئ أن يبيع متاعاً إلا أن يبين ما فيه من عيب، وفي رواية إلا أن يبين ما فيه من آفة، والأحاديث في هذا كثيرة يا عباد الله.


إن الدين في عقائده وعباداته وشرائعه إنما يصب في هذه المعاملة، تعالوا نتساءل مرة أخرى ترى هل الزينة التي غُمِسَتْ أسواقنا في هذا الشهر الأغر فيها هل هي ترجمة صحيحة دقيقة للانضباط بوصايا رسول الله هذه؟ هل هي ترجمة دقيقة لبيعة صادقة مع الله سبحانه وتعالى ثم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يقول ربنا جل جلاله: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾  [الاسراء: 35]، ويقول: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾  [الرحمن:7-8]، ويقول: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ﴾  [المطففين: 4].


عباد الله تعالوا نخترق الظواهر إلى شيء من الباطن لا إلى الباطن كله، ماذا نجد؟ نجد إعراضاً خطيراً عن هذا الذي أوصى به رسول الله، عن هذا الذي أمر به رسول الله بعد أن أمر به الله سبحانه وتعالى، مصانعنا منطوية على كثير من الغش ولا مجال لتفصيل القول في ذلك، مزارعنا منطوية على كثير من الزغل والغش والآفات التي تسري بأخطر الأمراض إلى الجسوم، ادخل إلى أي مزرعة من هذه المزارع أو إلى أكثرها تجد هذه المبالغة الزائدة في استعمال المبيدات، في استعمال الأسمدة الكيميائية التي من شأنها أن تملأ جيوب أصحابها بالمال وأن تملأ جسوم الآكلين بالأمراض الوبيلة الخطيرة، هل أنا مبالغ في هذا الذي أقوله لكم؟ يقول ربنا عز وجل: ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا﴾ [لأعراف: 56]


أي أصلحت لكم الأرض وجعلتها أداة لرزق وفير وطعامٍ نقيٍّ طاهرٍ مطهر، تتنـزل الأمطار من السماء فتسري من ظاهر الأرض إلى باطنها منقاة مصفاة من الشوائب ثم تستقر في خزائن داخل هذه الأرض ثم إنكم تشربون منها الماء النقي فمالكم أفسدتم هذه التربة حتى أصبح الماء يمتزج بهذه الآفات الخطيرة الوبيلة التي تبعث أمراضاً متنوعة مختلفة في الجسوم؟ ادخل إلى أي مدجنة من هذه المداجن ماذا ترى؟ ترى الأغذية الهرمونية التي تضمن لأصحاب هذه المداجن المال الوفير تفيض به جيوبهم وتضمن المرض الخطير يسرى في جسوم الآكلين، أليس هذا الذي أقوله أمراً مرئياً ظاهراً يا عباد الله؟


قوانينا ترعى حقوق الناس جميعاً، ترعى حقوق المتعاملين على اختلافهم ولكن ما أكثر الذين يحاولون أن يشلوا فاعلية هذه القوانين بالرشوة، وما أكثر أصنافها وأنواعها، فإن جاء من يحذِّر من القوانين والذين وضعوها والمتربصين بالمتلاعبين بها قال الكلام الذي يدل على الاستهانة التامة بهذه القوانين كلها، وإن جاء من يحذره من وقفة قريبة لا ريب فيها بين يدي الله عز وجل تدلل قائلاً إن الله غفور ورحيم، وليس هذا من قبيل الرجاء بعفو الله وإنما هو من قبيل الدلال على الله سبحانه وتعالى، نعم إن الله سبحانه وتعالى يتوب على عباده عندما يقصرون في أداء حقوقه ولكن من قال إن الله سبحانه وتعالى يغفر لعباده إهدارهم لحقوق عباده.


مرة أخرى أقول لكم حقوق الله مبنية على المسامحة أما حقوق العباد فمبنية على المشاحة، في هذا الشهر الأغر في مناسبة هذه الذكرى التي نحتفي بها وما قلت يوماً ولا يمكن أن أقول إن إعلان الفرحة بذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر غير شرعي بل هو أمر شرعي بل هو ترجمة الحب لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكن إما أن يكون هذا الذي يرفع مظاهر الفرحة بذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم صادقاً وإما أن يكون كاذباً، فإن كان صادقاً أجزل الله سبحانه وتعالى له المثوبة والأجر على هذه الزينة التي يعبر بها عن مكنون قلبه وعن فرحته بذكرى مولد رسول الله وأثابه الله عز وجل بصدق تعبيره أيضاً، بانطباق ظاهر قوله على واقع سلوكه وتعامله مع عباد الله عز وجل، أما إن كان كاذباً فعقابه بين يدي الله عز وجل شديد يا عباد الله.


وبالأمس قلت لكم إن المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يستقبل أمته على حوضه يوم القيامة يجد أناساً من الناس يُطردون كما يُطرد البعير الضال فيقول ألا هلم ألا هلم فيقال له إنك لا تدري كم بدلوا من بعدك، أوصيتهم بصدق التعامل فوضعوا وصيتك وراءهم ظهرياً، قلتَ لهم من غش فليس منا، غشوا وألقوا وصيتك وراءهم ظهرياً، أمرتهم بصدق التعامل فغشوا وكذبوا في التعامل وفعلوا كل ما يضمن لهم الربح ولم يسألوا عن كل ما قد يسبب لعباد الله عز وجل الأمراض الخطيرة التي تودي بهم إلى الهلاك ومن ثم فإن عاقبة هؤلاء أن يطردوا من حوض رسول الله، وطردهم من حوض رسول الله إنما هو ترجمة لطرد الله لهم عن جنته، عقابهم وبيل، وأغلب الظن أن الذين يموتون ويرحلون عن هذه الدنيا وهم عاكفون على هذا الذي أقوله لكم أغلب الظن أن إيمانهم سيفارقهم وأنهم لن يموتوا على كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله.


فيا عباد الله عودوا، جددوا البيعة مع رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم، اجعلوا هذه البيعة تتويجاً للزينة التي تعبرون بها عن فرحتكم، اجعلوا هذه البيعة تتويجاً للاحتفالات التي تعبرون بها عن فرحتكم، بايعوا المصطفى صلى الله عليه وسلم مجدداً ونفذوا بيعتكم كي لا تكون كلاماً يدور على اللسان ثم يكون القلب بعيداً عن هذا الذي نطق به اللسان، اللهم أصلح لنا شؤوننا كلها، اللهم ألهمنا أن نجدد البيعة لك وأن نجدد البيعة لرسولك محمد صلى الله عليه وسلم في الشهر المبارك الأغر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي