
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


الضمانة لاستمرار عطاء الله وفضله
الجمعة، 18 صفر، 1430 الموافق 13/02/2009
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
تعيش أمتنا في هذين اليومين أجواءَ الآية القرآنية العظيمة التي يقول فيها مولانا وخالقنا جل جلاله: (وهو الذي ينـزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد)، فتعالوا نتأمل في بعضٍ من أسرار هذه الآية وإنها لأسرار كثيرة ولكن ما لا يدرك جله لا يترك كله. أولاً قد يقفز إلى ذهن أحدنا السؤال القائل: فلماذا يا رب حبستَ قطر السماء عن عبادك إلى أن تسرب إلى قلوبهم اليأس وداخلتهم مشاعر القنوط وأنت الرب الكريم الذي لا ينقطع رفده عن عباده؟ والجواب يا عباد الله أن الإنسان في حالة الرخاء قلما يعلم مصدر الرزق الذي يأتيه وقلما يعلم أن الأمر كله بيد الله عز وجل وأن الأسباب شكلية لا فاعلية لها، ذلك لأن الإنسان في حالة الرخاء لاسيما إذا فُتِحَتْ أمامه أبواب المعرفة والعلم كثيراً ما يؤلِّه معارفه ويؤلِّه علومه واكتشافاته فمهما قيل له: (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض) قال إنه العلم وإنها الطبيعة، ومهما قيل له: (أمَّنْ هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجُّوا في عتوٍّ ونفور) قال بل إنها الطبيعة والمعرفة والاكتشافات التي وضعنا أيدينا عليها، فإذا جاءت المرحلة التي يتحدث عنها بيان الله في هذه الآية، يحبس عنهم قطر السماء ويستمر هذا الحبس إلى أمد ويجرب هؤلاء الذين أسكرتهم نشوة المعارف والاكتشافات، يجربون حظوظهم وإذا بها لا تستجيب ولا تنجد في وقت الحاجة والضرورة، في هذه الحالة ترتفع الحجب عن بصائر أولئك الذين كانوا يؤلهون علومهم ومعارفهم وعندئذٍ يعلمون الأجوبة الصحيحة الكامنة وراء قول الله سبحانه وتعالى: (أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه) إنه الله سبحانه وتعالى ويغيب اللجج والعتو اللذان يشير إليهما بيان الله بقوله: (بل لجوا في عتو ونفور)، فمن أجل هذا يشاء الله عز وجل أن يحبس قطر السماء إلى أمد كي ترتفع الحجب وكي يذل المتعالم وكي يعود التائه فيعلم الجميع أن الله هو الرزاق، هذا هو الجواب عن هذا السؤال (وهو الذي ينـزل الغيث من بعد ما قنطوا) تلك هي الحكمة، ثم تعالوا فلنقف أمام قوله: (وينشر رحمته)، لماذا عبر عن قطر السماء بالرحمة وإنه لغيث يهمي من السماء ومطر ولكن البيان الإلهي كنَّى عن ذلك بالرحمة؟ لكي نعلم أن الإنسان كان ولا يزال كفوراً، الإنسان كان ولا يزال يركن إلى لهوه، يركن إلى رعوناته، ينهاه الله عز وجل عن الظلم والتظالم ولكنه لا يزال ينحط فيهما، يأمره الله سبحانه وتعالى بأن يسهر على ميزان العدل وأن يعطي لكل ذي حقٍّ حقه ولكنه يظل تائهاً عن هذا الذي يأمر به الله عز وجل ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يأمر سماءه فتمطر ويأمر أرضه فتنبت، ومن أجل هذا سمى البيان الإلهي قطرَ السماء رحمة، والرحمة إنما تكون لمن لا يستحقها إنما تأتي بسبب صفات الخالق عز وجل ومن أولى صفاته الكرم والصفح والمغفرة. ثم تعالوا نقف أمام قوله: (وهو الولي الحميد) وهو وحده ولِيُّكُم الذي يعطيكم عندما يشاء ويمنع عندما يشاء، إذا أعطى فلا ممسك لعطائه وإذا منع فلا معطي لما قد أمسك، هو وحده الرزاق وهو وحده الذي يعطي وهو الذي يمنع، هذا معنى قوله: (وهو الولي الحميد)، ولكن متى يظهر للعبد معنى قوله عز وجل: (وهو الولي الحميد)؟ عندما يحبس الإله الحكيم العادل الرحيم قطر سمائه عن عباده أمداً من الزمن ويتبين للقاصي والداني ألا معطي إن أمسك الله وألا ممسك إن أعطى الله سبحانه وتعالى.
لما تبينت هذه الحقيقة عندما ابتلى الله عز وجل عباده بهذا المنع الذي مررنا به تبين لنا معنى قوله سبحانه وتعالى: (وهو الولي الحميد). أرأيتم إلى هذا الذي يستبين في خطاب الله عز وجل، إنه مزيج من الحكمة ومزيج من الرحمة ومزيج من تثبيت العقيدة الحقيقية بين جوانح الإنسان أن يعلم أن الله لا غيره هو المعطي وهو المانع وهو الولي وهو الرازق.
والآن يا عباد الله ما هي الضمانة لأن يستمر عطاء الله وفضله، ما هي الضمانة لأن تستمر رحمة الله عز وجل تهمي إلينا من سمائه؟ ضمانة ذلك تتمثل في أمرين اثنين يا عباد الله لا ثالث لهما، أما الأول فشكر الله سبحانه وتعالى على نعمه، ولست أعني بالشكر الكلمات التقليدية التي تعوَّدَتْ عليها الألسن وليس هذا ما يعنيه بيان الله عز وجل عندما يقول: (وقليل من عبادي الشكور) إنما المراد بشكر الخالق سبحانه وتعالى أن نقف عند أوامره وأن نُسَخِّرَ نعمه للوظيفة التي قد خُلِقْنَا من أجلها، شكرنا لله عز وجل يتمثل في صدق التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، يتمثل في أن نقلع عن التظالم وقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن ذلك، شكر النعمة يتمثل في أن نكون أعيناً ساهرة على العدالة بكل معناها وعلى كل مستوياتها، شكر الله سبحانه وتعالى يتمثل في الترفع عما حذَّر ونهى فإذا سارت الأمة على هذا النحو فقد تمثلت فيها حقيقة الشكر وإن كان لسانها صامت عن الكلمات التقليدية التي تعرفون، هذا هو الجزء الأول من الضمانة فتعالوا قبل أن ننتقل إلى الجزء الثاني نجدد البيعة مع الله أن لا نتظالم وأن نكون كما أمر رقباء على أنفسنا وعلى مجتمعاتنا أن نحقق ميزان العدالة كما قال: (والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن) أي وزن العدالة (بالقسط ولا تخسروا الميزان).
تعالوا نبايع الله عز وجل أن ننفذ ما قد أمر، وأحب أن أقول لكم ما قد ذكَّرْتُكُم به من قبل يا عباد الله حقوق الله مبنية على المسامحة، ما أكثر ما يغفر الله للعبد إن سها عن صلاته أو سها عن صيامه أو عن ذكره أو عن حجه ولكن حقوق العباد مبنية على المشاحة ومن أجل هذا يقول المصطفى r: من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَم، وهذا ينطبق على الفرد كما ينطبق على الجماعة، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، هذه حقيقة تمثلوها يا عباد الله، وإن تمثلتموها عرفتم الجواب عن أسئلة كثيراً ما تتردد على بعض الألسن، لماذا يكرم الله بعض الأمم التائهة عن حدود الله وأوامره برزق السماء يهمي إليهم دائماً؟ الجواب هذا الذي ذكرته لكم، حقوق الله مبنية على المسامحة ولكن حقوق العباد مبنية على المشاحة.
الجزء الثاني من الضمانة استمرار الالتجاء إلى الله، استمرار التضرع على أعتاب الله، هي وظيفة الإنسان إن في حالة الرخاء أو في حالة الشدة، في حالة الرخاء يقود الإنسان إلى الالتجاء إلى الله خوفه من أن تزول النعمة، الله الذي أكرمنا بنعمه التي لا تحصى يوشك أن يستلبها منا في كل لحظة، إذاً ينبغي أن نلتجئ إليه ونقول يا رب أبق هذه النعم التي أكرمتنا بها لا تقطع رفدك عنا، وأما في حالة الشدة فالذي يقود الإنسان إلى الالتجاء إلى الله عز وجل ضعفه عن تحمل هذه الشدائد، حاجته إلى أن يكرمه الله عز وجل بالراحة لأن الإنسان ضعيف كما أعلن بيان الله سبحانه وتعالى، هذه هي وظيفة الإنسان في كلتا حالتي الشدة والرخاء، ولعلنا جميعاً نقرأ ونكرر قول الله سبحانه وتعالى: (ولقد أرسلنا إلى رسل من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون).
نسأل الله عز وجل ألا يبتلينا بقسوة القلب وألا يزين لنا الشيطان سوء فعالنا يا عباد الله، وعندما أقول هذا هو الجزء الثاني من الضمانة ينبغي بل يجب أن أقول لكم إن واجب الالتجاء إلى الله ليس وقفاً على فئة دون أخرى وإنما هو واجب أناطه الله بأعناق عباده جميعاً فانظروا هل هنالك من هو مستثنىً من شرف العبودية لله! (إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدهم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)، إذاً كل من قد اصطبغ بصبغة العبودية لله عز وجل لابد أن يأوي إلى ركن ركين من الالتجاء إلى الله، من الانكسار والتضرع أمام باب الله مهما كانت مرتبته، مهما كانت مزيته هاتان هما الضمانتان لبقاء هذه النعمة واستمرارها، والله عز وجل إذا وعد فوعده صادق لا يلحقه خلفٌ أبداً، والله عز وجل لا يجرب ولكنها الحقيقة التي نقرؤها في بيان الله عز وجل ونُذَكِّرُ اليوم أنفسنا بها.
عباد الله نقطة الضعف في حياة الإنسان حتى ولو كان مؤمناً أنه إذا تمتع بالنعم الكثيرة الوفيرة من هنا وهناك نسجت له هذه النعم حجباً تحجبه عن الله وجعلته يسير في مدارج الطغيان ولا تدري إلى أي مدىً تسير به هذه النعم إلى الطغيان والبغي ونسيان المنعم المتفضل فلا تبطرنكم النعمة ولا تحجبنكم النعمة عن المنعم، ويا عجباً لحكمة الله عز وجل يضعنا من هذه الحقيقة أمام عبرة في عالم النمل، انظر إلى عالم النمال وكيف يطالعك من هذا العالم مرحلتان اثنتان، المرحلة الأولى المرحلة التي يتمثل فيها الضعف لهذا المخلوق الضعيف، الضعف والاستكانة والتواضع والسير دون توقف ودون كللٍ أو ملل للعمل الذي أُنِيط بهذا العالم، يعيش بين الأتربة وبين شقوق الحجارة والصخور راضياً متواضعاً بسيطاً ذليلاً ويأتيه رزقه الذي قد ضمنه الله لكل المخلوقات، حتى إذا نظر النمل فوجد أن جناحين قد ظهرا في جنبيه وتأمل فوجد هذه النعمة التي لم يكن يتوقعها طافت برأسه نشوة الطغيان، طافت برأسه نشوة البغي فلم يعد يقتنع بالأرض مهداً له وسبيلاً لرزقه، لم يعد يقتنع بالشقوق التي كان يأوي إليها وأصبح يصر على أن يتخذ مطية له من أجواء الفضاء فما الذي يحصل عندئذٍ؟ يحصل أن يتحول هذا المخلوق الضعيف الذي خُدِعَ بالقوة الشكلية التي يتمثل بها يتحول إلى رزق للطيور.
يا عباد الله عبر الله كثيرة والمعاني التي ينبغي أن نقف عندها لنعرف هوياتنا وفيرة، تعالوا نقف في محراب العبودية لله فقد شردنا طويلاً عن بابه، تعالوا قبل فوات الأوان نلتصق بأعتابه، تعالوا قبل فوات الأوان نستذل بجلباب العبودية الذي هو حقيقتنا ولن يمكن أن ينفصل عنا هذا الجلباب أبداً، تلك هي الضمانة لأن يرزقنا الله من سمائه وأن يرزقنا من أرضه ولأن يعود فيفجر لنا ينابيع الأرض. اللهم ارزقنا الهداية، اللهم وجه قلوبنا إلى ما يرضيك واصرفنا عما لا يرضيك أقول قولي هذا وأستغفر الله.