مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 12/12/2008

صرخة إنسانية في وجه حصار غزة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


هنالك صورٌ تشمئز منها الإنسانية ولا تقوى على تخيلها فضلاً عن أن تمارسها، مجموعة من الناس يتحلقون حول مائدة رُصِفَ عليها الطعام ألواناً وأنواعاً، عليها من الطعام كل ما لذَّ وطاب، يتناولون منها وينعمون بخيراتها، وعلى مقربة من هذه الجماعة أرحام وأقارب لهم تمدهم إليهم صلة القربى والأخوة الإنسانية والإيمانية يتضورون جوعاً، ينظرون بعين من التوسل والضراعة إلى هؤلاء الذين يلتهمون ألوان الطعام المتوافر على مائدتهم وهم عن هؤلاء الذين يتضورون جوعاً معرضون، وهم عن أعين هؤلاء الجائعين المتوسلة المتضرعة معرضون وتائهون ومحجوبون.


صورة أخرى؛ أناس يتقلبون في رغد من العيش وأنواع من النعيم وطمأنينة النفس والبال، لا يطوف بهم  خطر ولا يطوف بهم أي بلاء أو خوف وعلى مقربة منهم جيران بل إخوة لهم يُساطون بأسواط العذاب، يصرخون ويتوسلون ويرفعون أصواتهم يتوسلون إلى إخوانهم في الإنسانية أن ينجدوهم بما يستطيعون وأن يخففوا عنهم هذا البلاء الذي يعانون منه ولكن أصحاب النعيم تطوف بهم سكرة النعيم ومن ثم فهم عن إخوانهم وعن أقاربهم وجيرانهم معرضون، لا تصك أصوات الاستنجاد آذانهم ولا تسري أصوات البكاء إلى قلوبهم، هل يمكن للإنسانية أن تتخيل فضلاً عن أن تمارس هذا التصور الذي أضعكم أمامه يا عباد الله!


ولكن المستحيل في كثير من الأحيان يتحول إلى شيء ممكن، في المخلوقات التي تنتمي إلى صنف الإنسان من كان مظهراً لهذا الشذوذ الغريب الذي تنأى وتشمئز عنه الإنسانية تجلى هذا التصور جيداً في العيد الذي مرَّ بكم، أهالي غزة لا يزالون محاصرين ولا يزال العدو الإسرائيلي يحكم طوق الحصار عليهم من كل جانب ضد أبسط الحاجات الإنسانية التي هم بأمس الحاجة إليها، ضد أهم الضرورات المعيشية التي تذوب أمامها الخصومات وتنطوي بين يديها العداوات وجيران لهؤلاء، جيران لهم في المناخ، إخوة لهم في الإنسانية، إخوة لهم في الدين يعينون أولئك الذي يُحَاصِرُونَهم ليزيدوا الطوق عليهم إحكاماً وليزيدوا البلاء الذي يحيطوا بهم ليدنو منهم بالخناق.


هذا الذي تشمئز منه الإنسانية مرَّ بنا في هذا العيد الذي مرَّ ولا ندري كيف مرَّ، هؤلاء إخوة لنا في المناخ، إخوة لنا في الإنسانية، إخوة لنا في الدين، القيم الإنسانية والمبادئ الدينية على اختلافها كل ذلك يستصرخ ضمائر من يقولون إنهم يتمتعون بذرة من الإنسانية، يستصرخهم أن يهونوا عليهم هذا البلاء وأن يخففوا عليهم هذا الطوق وأن يبعدوا هذا الحصار عن خناقهم ولكن ها أنتم ترون كيف أن جيراناً لهم في المناخ، إخوةً لهم في الإنسانية وفي الدين أبوا ويأبون إلا أن يعينوا أعداء الله عز وجل وأعداءنا جميعاً في مزيد من إحكام هذا الحصار عليهم.


وهنا أعود يا عباد الله إلى الثنائية التي حدثتكم عنها في الأسبوع الذي مضى وربما في الذي قبله، هذه الثنائية التي تشمئز منها القيم والأخلاق، أناس ينتمون إلى الإسلام في الظاهر ويجملون ألسنتهم بألفاظ من الدين والقيم وما إلى ذلك ويرفعون فوق رؤوسهم شعار الانتماء إلى هذا الدين ولكن سلوكهم، تصرفاتهم، كل ذلك يكذب ما تنطق به ألسنتهم، كل ذلك يكذب تلك الشعارات التي يرفعونها فوق رؤوسهم.


ربنا عز وجل يقول: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[  [الحجرات: 10]، قرارٌ وأمرٌ، جملتان يجمع البيان الإلهي فيهما بين القرار وبين الأمر المترتب على هذا القرار، أما القرار فهو إعلان الأخوة وأما الأمر فهو الأمر بالإصلاح، الأمر بالحماية، الأمر بالدفاع، الأمر بالتضحية في سبيل هذه الأخوة الإيمانية والإنسانية، )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[  ذلكم هو القرار )فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ[ وهذا هو الأمر والحكم ولكن هؤلاء الناس جعلتهم ثنائيتهم يعرضون عن هذا الأمر الرباني بل ويتساهلون فيه ولربما يستهزئون به، يقول المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم: )مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى[، حديث حفظناه يوم كنا صغاراً في المدارس والأمة كلها تعرفه ولكن هؤلاء الجيران عن هذا الحديث تائهون وعن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معرضون، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم المسلم )أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه[.


ولكن هؤلاء الإخوة يصرون على أن يناقضوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئن دعا المصطفى صلى الله عليه وسلم المسلمَ إلى أن لا يظلم أخاه المسلم وإلى أن لا يخذله وإلى أن لا يسلمه فإن لسان حال هؤلاء الناس يقول لا بل مبدؤنا أن نظلمه وأن نخذله وأن نسلمه ذلك لأن بيننا وبين أعداء الله عز وجل وعوداً وعهوداً ولسنا قاطعي هذه الوعود، بيننا وبينهم اتفاقات وأخوة أحرى بنا أن نؤدي حقوق هذه الأخوة لهم من أن نؤدي حقوق هذه الأخوة التي يأمرنا الله عز وجل بها.


ومع ذلك يا عباد الله فإن الدنيا في كثير من الأحيان قد تغر عندما يجد أناس أن هنالك صفقة رابحة تضمن لهم إن هم باعوا دينهم أن ينالوا دنيا مؤثرة عندهم، أن ينالوا متاعاً من أمتعة الدنيا، أن ينالوا رغداً من العيش وبسطة في الحياة، ربما تاه هؤلاء الناس وسال اللعاب منهم على هذه الفائدة الدنيوية أو على هذا المغنم الذي قد ينالونه من خلال هذه الصفقة ولكن البلاء الأطم أن يبيع الإنسان دينه بدنيا غيره، البلاء الأطم أن يمارس الإنسان صفقة تجارية يبيع فيها متاعه ويخسر الثمن الذي باع به ذلك المتاع فيعود لا هو على متاعه أبقى ولا هو على الثمن الذي باع به متاعه حصل.


تلك هي صورة حال بعض إخوانٍ لنا وجيران لنا، أبرموا عهوداً وعقوداً مع عدو الله وأعدائهم ونزلوا على الشروط التي أملوها عليهم وانتهى العقد وأبرم العهد فماذا استفاد هؤلاء الذي باعوا دينهم؟ نظروا وإذا بهم قد زجوا شعوبهم في مزيد من الفقر، زجوا شعوبهم في مزيد من الضنك والكرب الذي يأخذ اليوم منهم بالخناق، زجوا شعوبهم في العولمة الاقتصادية التي جعلتهم أتباعاً للآخرين ينتظرون لقمة الطعام أن تأتيهم عن يمين أو عن شمال، تلك هي المصيبة الكبرى أن يُخدَعَ الإنسان ببريق من المال يدخل جيبه، ربما استغله الشيطان وتغلب عليه فزجه في مثل هذه الحال، هي حالة من الربح لكنه ربح عاجل يؤول إلى خسران آجل، ولكن البلاء الأطم أن يبيع الإنسان مكانته وشرفه لعدوه لقاء لا شيء، لا، لا لقاء لا شيء بل لقاء فقر يزج به شعبه، لقاء ضنىً وضنك وبؤس، يزج به أمته، هذا هو البلاء الماحق يا عباد الله.


مرَّ بنا هذا العيد بحلوه ومره، أما الحلو فقد ذقناه وأما المر فينبغي أن نذوقه لكي نشعر بمعنى كلام رسول الله: مثل المؤمنين في توادهم تراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، حلو ومُرّ ينبغي أن نتقرب إلى الله عز وجل بكل منهما، أما العبرة التي ينبغي أن نجنيها من هذا الذي أقوله لكم فهي أن نزداد تمسكاً بالنهج الذي شرفنا الله به، أن نزداد سيراً على الصراط الذي أمرنا الله عز وجل به، أن نزداد اصطباغاً بالوصايا التي يأمرنا الله عز وجل بها ليل نهار: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[ [آل عمران: 149]، )بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ[ [آل عمران: 150]، )سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً[ [آل عمران: 151].


انظروا إلى قوله عز وجل نتلوه ونصطبغ به ونعاهد الله عز وجل على أن نكون كما أمر لا كما نهى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ[ [آل عمران: 118] هذه البطانة ينبغي أن تكون من إخواننا الذين تجمعنا بهم آصرة الإنسانية التي تَوَّجَهَا دين الله سبحانه وتعالى؛ )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ[ [آل عمران: 118]، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ[ [الممتحنة: 1].


نحن في شامنا هذه التي باركنا الله عز وجل ينبغي قادة وشعباً وأمة أن نزداد تمسكاً بأمر الله، أن نزداد تمسكاً بوصايا الله سبحانه وتعالى وينبغي أن نكون دثاراً وشعاراً لإخواننا أولئك الذين يحاصرون جهد الاستطاعة، بالقدر الذي أمكننا الله سبحانه وتعالى به، ينبغي أن نوفر الكثير والكثير مما رزقنا الله عز وجل إياه ونوجهه بالطرق الممكنة إلى هؤلاء الإخوة الذي امتحننا الله سبحانه وتعالى بهذه المصيبة التي زجهم فيها، ترى ما الموقف الذي سنقفه؟ هل سيكون خيانتنا لدين الله عز وجل وإعراضنا عن جيراننا، إخواننا في الإنسانية، إخواننا في دين الله عز وجل هل سيكون سبباً في عزة نطمح إليها؟ هل سيكون سبباً في نعمة ننالها؟


لا والله يا عباد الله؛ )وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً[ [طـه: 124]، من أعرض عن أوامر الله وخان حرمات الله وخان شرعه لابد أن يزجه الله عز وجل في ضنك من العيش وها نحن ترون وينبغي أن نعتبر بإخوة لنا ونسأل الله سبحانه وتعالى لهم النجاة والخلاص، مَرَّ العيد كما قلت لكم بحلوه ومُرِّه، ربما تقلَّبْنَا في قَدْرٍ من الحلو منه ولكن ينبغي أن نجني المر أيضاً وينبغي أن نذوق مرارة هذا العيد لنكون شركاء مع جيران لنا ومع إخوة لنا، والعزة إنما هي العزة التي ينالها الإنسان من خلال استرضاء مولاه وخالقه سبحانه وتعالى.


انظروا إلى البؤس الذي يتقلب به أولئك الذين مدوا يد المصافحة إلى العدو ماذا استفادوا؟ باعوا دينهم بدنيا غيرهم بل باعوا دينهم بالخسران الذي ركبهم، باعوا دينهم بالذل الذي ركبهم والذي لبسوه، باعوا دينهم بالنكبات، بالفقر الذي زُجَّتْ به شعوبهم، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الاعتبار، أسأل الله سبحانه وتعال أن يُقْدِرَنَا على الاعتزاز بدينه، على الاعتزاز بأوامره، على التمسك بوصاياه.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي