مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 08/12/2008

خطبة عيد الأضحى : سيدنا ابراهيم .. دروس في الصبر

خطبة عيد الأضحى: سيدنا ابراهيم .. دروس في الصبر


الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة 8/12/2008


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


في صبيحة هذا اليوم الأغر تهب ذكرى أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم خليل الرحمن، وما من معلمة من معالم الحج إلى بيت الله العتيق وما من شعيرة من شعائره إلا وهي ناطقة بذكرى أبي الأنبياء إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولله في ذلك حكمة باهرة، ولقد كانت الذكريات ولا تزال جسراً ممتداً بين الماضي والحاضر، بين القديم والجديد، يتلقى المتأخرون منها دروساً وعبراً مما جرى بالسابقين وجديرٌ بنا نحن المسلمين يا عباد الله أن نوظف هذه الذكرى التي أحياها ربنا سبحانه وتعالى من خلال شعائر الحج إلى بيت الله الحرام جدير بنا أن نحتفي بها وأن نتلقى منها دروساً وعبراً وسبلاً نعالج بها مشكلاتنا وأدواءنا وما أكثرها. كلنا نقرأ بيان الله عز وجل القائل: )وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً[ [البقرة: 124]، هل تأملتم في هذه الكلمات التي ابتلى اللهُ عز وجل بها نبيَّه إبراهيم )وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ[، نجح في الابتلاء وكان على مستوى ما طلبه منه مولاه جل جلاله.


بماذا ابتلاه الله عز وجل؟ ابتلاه الله سبحانه وتعالى أولاً بأن يهجر قومه إلى بلاد الشام، ترك زوجه وترك طفله الصغير في أرض غير ذي زرع تاركاً أهله لله سبحانه وتعالى مستجيباً لما طلب، ابتلاه الله سبحانه وتعالى بالنمرود، أرسله الله سبحانه وتعالى إليه، حطم الآلهة المزيفة التي كانت تُعْبَدُ من دون الله سبحانه وتعالى، واجتمعت محكمة النمرود فحكموا عليه بالإحراق بالنار وأوقدت النيران كما تعلمون يا عباد الله ووضِعَ خليل الرحمن في القاذف وجيء به ليُقْذَفَ في نار ملتهبة متصاعدة إلى عنان السماء وجاءه جبريل يسأله قائلاً أليست لك حاجة قال: أما إليك فلا. أما إليك فلا؛ كان إبراهيم آنذاك يتقلب في ساعة من وحدة الشهود لا يرى في الكون كله إلا المدبر الأوحد وهو الله عز وجل فلما قُذِفَ به وقد أتم هذا الابتلاء على خير وجه جاءت محكمة الله قائلة: )قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ[ [الانبياء: 69]، )قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ[.


عَلَّمَنَا الله يا عباد الله أن محكمة الله هي الغالبة وأن حكم الله دائماً هو النافذ. ابتلاه الله عز وجل بعد ذلك بابنه، بفلذة كبده إسماعيل، أمَرَهُ بالذبح، وما هو إلا ابتلاء لِيُرِيَنَا الله، لا لِيُرِيَه، لِيُرِيَنَا الله عز وجل كيف تكون حقيقة العبودية لله وكيف تكون الاستجابة الحقيقية لسلطان الله عز وجل وأمره وكيف ينبغي أن يبرهن من يقول أنا عبد الله، كيف ينبغي أن يبرهن على ذلك بأن يضحي بكل شيء في سبيل هذا الذي يدعيه ويعلنه. نجح إبراهيم خليل الرحمن في تلك الابتلاءات كلها، كان عبداً يعلن عن أنه لا يملك شيئاً إلا عبوديته لله سبحانه وتعالى. تلك هي الكلمات التي أشار إليها بيان الله )وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً[ [البقرة: 124].


فما الدرس الذي ينبغي أن نتلقاه من ذلك إن في ذرى عرفة أو حول بيت الله العتيق أو في أي معلمة من تلك الديار المباركة أو في أي صقع من أصقاع عالمنا الإسلامي هذا، ما هو الدرس الذي ينبغي أن نتلقاه في صبيحة هذا اليوم الأغر من هذا الذي ينبئنا به بيان الله؟ إنه التضحية يا عباد الله، يعلمنا الله عز وجل كيف ينبغي أن يمارس العبد عبوديته لله، لا بالدعاوى الكلامية، لا بالطقوس السلوكية وحدها بل ينبغي أن يعلن عن عبوديته لله عز وجل بأن يضحي بكل ما يملك وبكل ما يحب وبكل ما يعتز به في سبيل محبوبه الأول، في سبيل عزيزه الأقدس، هذا ما ينبئنا عنه بيان الله ويدعونا إليه.


وليس المطلوب منا يا عباد الله إذ نتلقى هذا الدرس في صبيحة هذا اليوم من ذكرى أبي الأنبياء إبراهيم أن نضحي بمثل ما ضحى به سيدنا إبراهيم، ليس المطلوب منا أن نستسلم لمن يقذفنا في النار، ليس المطلوب منا أن نذبح وليداً ولا طفلاً وإنما يكفي أن نضحي بحظوظنا الشخصية، المطلوب منا أن نضحي بمصالحنا الآنية الدنيوية وأن نؤثر عليها أمر الله، لا بل أن نؤثر عليها المصلحة الباقية. المطلوب منا يا عباد الله أن نضحي بالفاني في سبيل الباقي، أن نضحي بحظوظنا الذاهبة الآيلة وأن نستبقي ما يكون ضمانة لسعادتنا وسعادة أمتنا.


ما هي الابتلاءات التي يبتلينا الله عز وجل بها اليوم في مقابل تلك الابتلاءات الثقيلة التي ابتلى الله عز وجل بها خليله إبراهيم؟ إنه يبتلينا بالصبر على المكاره التي نراها، يبتلينا الله عز وجل بالأخلاق الإنسانية الراشدة عندما يتعامل الواحد منا مع أخيه إن في الإسلام أو في الإنسانية، ألا نغش، ألا نخدع، ألا نملأ جيوبنا أو صناديقنا بالأموال على حساب صحة إخواننا، على حساب عافيتهم. يريد الله عز وجل منا أن نضحي بحظوظ النفس وبراحة البال في سبيل أن نبقي على إخواننا أعزة، في سبيل أن ننتصر لهم ضد العدو المشترك الذي استلب ديارهم واغتصب حقوقهم، هذا ما يطالبنا به الله عز وجل. ولو أننا نجحنا في هذا الذي يبتلينا الله عز وجل به لرفع لنا الله عز وجل عنده مكاناً عليا، ولكن أين هم الذين يتلقون هذا الدرس في مثل هذا الصباح الأغر ليعودوا فيقولوا لمولاهم عز وجل لبيك وسعديك ها نحن نسير على خطى أبي الأنبياء إبراهيم.


إخواننا في فلسطين أو في غزة لماذا يعانون من هذا الذي يعانوا! أهو عجزٌ، والعياذ بالله، من المولى سبحانه وتعالى أن ينتصر لهم! معاذ الله، ولكنه من نوع الابتلاء الذي ابتلى الله عز وجل به أبا الأنبياء إبراهيم، ترى هل نبرهن على صدق إسلامنا، هل نبرهن على صدق عبوديتنا لله عز وجل، هل نبرهن على أننا فعلاً مستمسكون بكتاب الله الذي يُتْلَى على مسامعنا وفي الأقنية المختلفة الكثيرة آناء الليل وأطراف النهار! ولكن ما الذي نراه؟ نرى الثنائية التي حدثتكم عنها في الأسبوع الماضي والذي قبله.


مسلمون بألسنتنا، مسلمون بحركات الركوع والسجود إن ركعنا أو سجدنا، مسلمون بطبع المزيد والمزيد من المصاحف وبالإكثار من الأقنية التي يُتْلَى فيها كتاب الله صباح مساء ولكن عندما ننظر إلى هذا الابتلاء الذي ابتلانا الله عز وجل به، إخوة لنا محاصرون عن شمال وجنوب، محاصرون عن طريق أعدائنا وعن طريق إخواننا، يموتون موتاً بطيئاً بالوسائل والأمراض المختلفة التي لا داعي إلى ذكرها ونداء الله عز وجل يصك أسماعنا وأسماعهم أن انتصروا لدين الله، أن انتصروا لإخوانكم الذين يُضْطَّهَدون ويُحَاصَرَون ويُقَتَّلُون تقتيلاً بطيئاً، سيروا خطوات وئيدة بسيطة في الطريق التي سار فيها أبو الأنبياء إبراهيم، وخطب هذا اليوم الرنانة تُسْمَعُ في صقع وتهتز من تحتها المنابر في كل مسجد هنا وهناك ولكن إخوانكم في غزة يُخْنَقْون ويُقَتَّلُون ويُحَاصَرُون ولا من مستجيب قط، يُحَاصَرُون من قبل أعدائنا وأعداء الله ويُحَاصَرُون من قبل إخواننا وإخوانهم في الله.


كيف يمكن أيها الإخوة أن نخاطب الله عز وجل في صبيحة مثل هذا اليوم الأغر الذي تفوح فيها ذكرى أبي الأنبياء إبراهيم، هذه الذكرى التي يضعنا الله منها أمام مبدأ التضحية، والله لا يريد منا أن نضحي بمثل ما ضحى به إبراهيم لكنه يريد منا الصدق في سيرنا على صراطه، يريد منا ألا نخدع ولا نغش ولا تُكَذِّبَ ألسنتُنا قلوبَنا، يريد الله عز وجل منا إذا وجدنا أن الله قد ابتلانا بهؤلاء الأعداء، لكي يتبين صدقُ الصادقين وكذبُ الكاذبين، يريد الله عز وجل منا أن نعلن أننا عبيده، أن نقول له يا رب ها قد عدنا إليك وها قد جرَّدْنا كل قوانا في سبيل أن ننتصر لدينك من خلال الانتصار لإخواننا.


إخواننا هناك يستصرخون وينادون إخوانهم في الله، أولئك الذين قال الله عنهم )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ[  [الحجرات: 10]، ولا من مجيب، ولا من مجيب قط، إنما هنالك شيء آخر، هنالك وعدٌ يُنَفَّذُ بين المسلمين وأعداء الدين، قدسية من الوعد ينبغي أن تُنَفَّذ، والشيطان هو الشاهد وهو الموقع، أما الصدق مع الله فغائب ومطوي!


ماذا أقول أيها الإخوة في صبيحة هذا اليوم الذي سيعود فيه كل واحد منكم إلى داره وهو يرى ألق الفرحة في هذا الصباح يرتسم على وجوه الصغار والكبار، كيف؟ كيف يمكن ألا تصبح هذه الفرحة غصة في الحلق عندما نتذكر إخواننا هؤلاء! بل كيف نواجه مولانا وربنا غداً إذا سألنا أين هو مصداق دعواكم، إذا سألنا اللهُ عز وجل حكاماً ومحكومين، قادة وشعوباً، ابتليتكم بأعدائي وطلبت منكم الانتصار لديني ووعدتكم النصر إن أنتم صدقتم في التوجه إلى ما أردت، فهلا استجبتم لدعائي، هلا كنتم صادقين، هلا وضعتم في حجكم إلى بيت الله الحرام معناه الذي أردت أن تضعوه، هلا تحولتم من التعامل مع الطقوس إلى التعامل مع الرب سبحانه وتعالى.


أنا لا أقول إن هنالك تناقضاً بين الفرحة الغامرة في دار كل مسلم وبين الأسى الذي يعتصر القلوب لحال إخواننا هؤلاء ذلك لأن قلب المسلم يتسع لهذا وذاك. فرحتنا ليست عبارة عن رعونة إنما هي وظيفة نتقرب بها إلى الله، والأسى الذي يعتصر قلوبنا ليس كمداً نفسياً ولكنه هو الآخر قربى نتقرب بها إلى الله، والعبد المؤمن يسير إلى الله بفرحته التي يحتسبها أجراً عند الله ويسير إلى الله عز وجل بمأساته التي يحتسبها عند الله ولكننا نريد أن نضع المعاني في ألفاظها، نريد أيها الإخوة أن نغمض أعيننا ثم نفتحها وإذا بقادةٍ من حولنا قد آبوا إلى الله وعادوا فاصطلحوا مع الله وعادوا يبايعون مولاهم وربهم وينفضون اليد عن مصافحة أعداء الله عز وجل. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي