مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 28/11/2008

الثنائية مشكلة العصر...تشخيصها وعلاجها

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


مشكلة يعاني منها اليوم جل المسلمين في مختلف بلادنا العربية والإسلامية، إنها مشكلة الثنائية في السلوك وفي الفكر، الواحد من المسلمين اليوم في إيمانه العقلاني مسلم كامل مؤمن بالله ورسوله، مؤمن بالله وكتابه واليوم الآخر وتوابع ذلك كله، ولربما نافح وجادل عن هذه الحقائق أكثر مما كان ينافح ويجادل عنها السلف الصالح الذين خَلَوا من قبل، حتى إذا نظرت إلى واقعه السلوكي وجدته شارداً إلا فيما ندر عن صراط الله سبحانه وتعالى، وجدته في معاملاته المختلفة مع الآخرين يجنح إلى مصالحه الشخصية وإن اقتضى ذلك أن يكيد لإخوانه وأن يغش وأن يخدع وأن يكذب وأن يماري، وهو الإنسان الذي إذا ناقشته في دلائل وجود الله ووحدانيته وتوابع ذلك ظهر لك منه إنسان فَذٌّ في علومه الاعتقادية، فَذٌّ في دفاعه عن الحق ودفاعه عن الإسلام، هذه الثنائية يا عباد الله هي مشكلة هذا العصر، ولعلها لم تكن موجودة في سالف الأزمان الإسلامية لاسيما في عصر السلف ولربما في العصور التي تلت ذلك أيضاً، فما سبب هذه الثنائية؟


هذا الازدواج والتخالف بين الفكر الذي يحتضن الإسلام وبين السلوك الذي ينأى عن ضوابط الإسلام وعن أخلاقيات الإسلام وأوامره؟ سبب ذلك يا عباد الله الاختلاف الذي يتم بين العقل والقلب، العقل من اليسير جداً أن يحتضن حقائق الإيمان لأنه لا يمكن أن يفارق الحقائق العلمية، العقل لا يمكن أن يختلف معك في أن الواحد زائد واحد يساوي اثنين، والعقل هو المصباح الذي ينير الطريق أمام صاحبه ويبين له المنهج السديد والفرق بينه وبين المنهج الملتوي البعيد الذي يورث صاحبه الشقاء والتيه والضلال، أما القلب فهو مخزن الوقود في حياة الإنسان، والوقود الذي يحرك الإنسان ليست قناعاته العقلية وإنما الوقود الذي يحرك الإنسان الحب المهيمن على القلب، العواطف المهيمنة على جوانب الفؤاد، هذه العواطف، هذا الحب، هذا التعلق هو الذي يقود الإنسان.


وعندما يختلف العقل، وهو المصباح الذي يضيء الطريق أمام صاحبه، مع القلب الذي هو مركز لوقود العواطف فإن الغَلَبَةَ إنما تكون للقلب ولا تكون الغَلَبَةُ للعقل، أنا مؤمن بالله إيماناً عقلياً نعم ولكن قلبي المحشو بالرغائب والشهوات والأهواء وحب الذات والتعلق بالدنيا، القلب هو الذي لابد أن يقودني، ولقد ذكرت لكم فيما أحسب مثالاً يجسد هذا المعنى، إنه مصباح السيارة، إنه يضيء لك الطريق ويبين لك الطريق المعبد والطريق الذي فيه أخاديد وحفر ولكن هذه المركبة لا تستطيع بمصباحها أن تتحرك إنما الذي يحركها الوقود الذي في داخلها، والإنسان مثل هذه المركبة يا عباد الله، أما العقل فمصباح فقط وأما القلب فهو مخزن الوقود فانظر إلام يتجه هذا الوقود الذي في قلبك، إلام يتجه الحب المهيمن على فؤادك، في أكثر الأحيان تكون عواطفنا القلبية متجهة إلى أهوائنا، إلى دنيانا، إلى شهواتنا، إلى رغائبنا الذاتية، ومن هنا تنبثق الثنائية في حياة أكثر المسلمين اليوم.


يستأذن العقلُ القلبَ ليغرس فيه شتلاً أو نواةً من محبة الله، من مراقبة الله، ويبحث العقل ويبحث ويبحث فلا يجد في قلب صاحبه أي متسع، يرتد العقل خائباً، يبحث العقل في جوانب قلب صاحبه عن متسع لإبلاغه الرسالة الربانية التي يقول فيها المولى عز وجل بأسلوب رقيق من العتب والتحبب: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد:16] ولكن العقل إذ يحاول أن يبلغ القلبَ هذه الرسالة لا يجد في القلب متسعاً لأن القلب مشغول بدنياه، لأن القلب مشغول بمحابه المتمثلة في الشهوات، في الأهواء، المصالح الذاتية، ومن هنا تنظر إلى هذا الإنسان إذ يتحدث عن الإسلام بلسانه تجده ذا لسان زَلِق، تجده ذا فكر إسلامي مستنير، فإذا نظرت إلى سلوكه في المجتمع رأيته لا يبالي أن يكذب، لا يبالي أن يخدع، لا يبالي أن يغش، وكلكم يعلم نماذج كثيرة من هذا الذي أقول، هذا المعنى كم وكم يحذرنا منه بيان الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:2-3].


وانظروا يا عباد الله إلى قصة هذا الذي ضرب لنا بيان الله مثلاً به ليجسد لنا هذه الثنائية، هذا الذي ذهب جُلُّ المفسرين إلى أنه بلعام بن باعوراء، يخبرنا الله عز وجل أنه قد متعه بعلوم كثيرة شتى، علومٍ تتعلق بالمزيد والمزيد من دلائل وجود الله، من دلائل عبودية الإنسان لله، من دلائل المصير الذي سيؤول إليه الإنسان والذي سيقف فيه بين يدي الله، كل ذلك آتاه الله لكن ذلك كله حشو العقل، والعقل كما قلت لكم مصباح، لم يستفد من ذلك كله لأنه أخلد إلى الأرض، وانظروا إلى هذا التعبير القرآني، كيف أخلد وبماذا أخلد؟ أخلد إلى الأرض مالَ إلى الدنيا، مالَ إلى شهواتها، أهوائها، ملاذها، إلى مصالحه الآنية الشخصية، مال إليها بعقله؟! لا مالَ إليها بعواطفه، بقلبه، بهذا الوقود الذي أحدثكم عنه فما نفعته تلك الآيات قط ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [لأعراف:175-176].


عندما يصبح الإنسان أسيراً لقلبه ويكون القلب مركزاً للوقود المتجه إلى الشهوات، إلى الأهواء، إلى الملاذ، إلى الدنيا ماذا عسى أن تنفعه الآيات البينات، ماذا عسى أن تنفعه الحقائق والدقائق العلمية التي ورثها وتعلمها من دين الله عز وجل؟ لا لن ينتفع من ذلك شيئاً ويؤول أمره إلى مثل الكلب إن شبع وارتوى يظل لسانه يلهث وإن ظمِأ وجاع يظل لسانه على هذه الحال، الطمع مستمر والتوجه إلى الدنيا التي لا يشبع منها مستمر، هذا مثل يخاطبنا به الله عز وجل لعلنا نعتق أنفسنا من هذه الثنائية لعلنا نتحرر أنفسنا من أسر القلب عندما يكون مخزناً لوقود الأهواء والشهوات المختلفة.


والآن لعلكم تسألون يا عباد الله فكيف السبيل إلى أن نتحرر من هذا الأسر الذي يقصينا عن العقل ويحجبنا عن دلائله وبراهينه؟ سبيل ذلك شيء يسير، وربما كان عسيراً ولكنه يسير على من يسَّرَهُ الله عز وجل له، سبيل ذلك أن تقتحم قلبك الذي حُشِيَ بالأهواء المخلتفة، أن تقتحمه بذكر الله عز وجل، وأنا لست أعني في هذا المقام الذكر اللساني أو الذكر المتمثل في فرقعة السبحة في اليد وإنما أعني بالذكر التذكر كما حدثنا الله عز وجل: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [لأعراف:205]، ذكرك اللهَ عز وجل يحرق كل ما تجمع في الفؤاد من مظاهر الدنيا وأهوائها التي جعلتك تخلد إلى الأرض كما قال الله عز وجل، ذكرك الله عز وجل يفجر حباً في قلبك للمولى عز وجل ومن ثم لابد أن يطرد حب الله في قلبك محبة سائر الأغيار، لم أجد أيها الإخوة إنساناً يداوم لسانه وقلبه على ذكر الله عز وجل ولم يتمتع بنعيم الحب لله أبداً.


كيف، كيف يكون ذكرك لله عز وجل؟ أيكون ذلك بذكر ذاته؟ لا، لا يمكن للإنسان أن يتخل ربه، كل ما خطر في بالك فالله بخلاف ذلك ولكن ذكرك لله يعني أن تذكر صفاته، أن تذكر نعمه، أن تذكر رحمته بك، أن تذكر تدبيره لك، أن تذكر حمايته لك، اربط النعم بالمنعم، إذا جلست إلى المائدة تأكل فاذكر الله عز وجل وأنت تنظر إلى أصناف الطعام التي هيأها الله لك على مائدتك، إذا وضعت اللقمة في فمك تمضغها فاذكر نعمة الله عز وجل إذ أقدرك على استساغة هذا الطعام ولم يجعلك تختنق فيه، إذا قمت إلى فراشك لترقد اذكر نعمة الله عز وجل عليك إذ رزقك هذه الإجازة التي لو لم يمتعك الله عز وجل بها لهلكت خلال ثمانٍ وأربعين ساعة، إذا استيقظت من رقادك اذكر نعمة الله عز وجل إذ أيقظك بعد رقاد بل أحياك بعد موت وقل ما كان رسولك محمد صلى الله عليه وسلم يقوله: الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور، إذا دخلت الحمام اذكر النعمة الإلهية المتمثلة في إقصاء هذه السموم عن كيانك وتخيل لو أن الله لم يمتعك بهذه النعمة إلام كان يؤول أمرك، خرجت إلى الميضئة، تذكر نعمة الله المتمثلة في هذا الماء النمير العجيب السيال الذي ليس له لون ولا رائحة ولو أن الله لم يمتعك بهذه النعمة لمللت من ذاتك ولاشمأزت نفسك من ذاتك.


عندما تذكر الله بصفاته وآلائه وتربط النعم بالمنعم وتدوم على ذلك لا يمكن إلا أن يتفجر حب الله عز وجل بين جوانحك ومن ثم يطرد حبُّ الأعلى حبَّ الدون، يطرد حبُّ المولى حبَّ الأغيار، فإذا صفا قلبك من الأغيار يصطلح العقل عندئذٍ مع القلب ويتجهان معاً إلى السير على الصراط الذي اختطه لنا ربنا سبحانه وتعالى وتنطوي الثنائية آنذاك، هذا هو العلاج يا عباد الله، تعالوا نعالج قلوبنا التي أصبحت مركزاً بل مخزناً لوقود الشهوات والأهواء، تعالوا نطهر قلوبنا من ذلك بالإكثار من ذكر الله، وانظروا كيف يدعونا ربنا إلى هذا الدواء بتحبب عجيب: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152]. اذكروني بتذكر النعم، بمعرفة العبودية لله، بمعرفة صفات الربوبية أذكركم باللطف، أذكركم بالمغفرة، أذكركم بالرحمة، أذكركم بالإسعاد، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل قلوبنا عامرة بذكره وأن يطهرها من كل وصف يباعدنا عن مشاهدته ومحبته.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي