مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 14/11/2008

فَفِرُّوا إلى الله

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إننا جميعاً بحمد الله عز وجل نعلم ونعتقد أن الله واحد لا شريك له وأنه الفعال لما يريد، ليس معه شريك في ذاته ولا في صفاته. وإننا جميعاً بين الحين والآخر نتلو قول الله عز وجل: ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ وندرك من هذه الآية العظيمة التي نرددها في المناسبات أن الله عز وجل هو لا غيره القائم بأمر السموات والأرض المدبر لشؤون الكون كله، حتى إذا أقبلنا إلى الدنيا وشؤونها نتعامل معها نسينا هذه العقيدة التي هي ملئ عقولنا وملئ قلوبنا وحُجِبْنَا عن هذا اليقين المهيمن علينا بالأسباب الظاهرة، حُجِبْنَا عن ذلك بهذه الأدوات التي استخدمها الله عز وجل لكونه، ننسى المسبب ونتذكر الأسباب و لا نتعامل إلا مع الأسباب وهذه ثنائية خطيرة يا عباد الله في كيانات أكثرنا نحن المسلمين، عقيدة سليمة من حيث الإيمان والفكر النظريين وغياب عن هذه الحقيقة عند التعامل مع الدنيا وأسباب المعيشة والرزق وعند التعامل مع المصائب الاحتياجات.


تُنْتَقَصُ أوطاننا وتستلب حقوقنا وننظر فلا نتذكر إلا الأيدي التي تعبث ولا نرى إلا الأسباب التي جعلها الله عز وجل خدماً لقضائه وحكمه وأمره. تُحْتَبَسُ الأمطار ويمر الشتاء أو يكاد والأرض لا تزال جافة قاحلة فننسى المسبب الذي نؤمن به عندما نقرأ قول الله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ ونقول إنها دورة ثلاثينية اقتضت الطبيعة أن تفاجئنا بهذا الجفاف أو هو خرق لطبقة الأوزون تشكلت عنها هذه الظاهرة أو هو احتباس حراري أو نحو ذلك وننسى أن هذا كله خدم بيد مولانا القيوم الذي يدير مملكته الكونية هذه كما يشاء. هذه مصيبة ينبغي أن نتحرر منها إن صدقنا بإيماننا بقيومية الله سبحانه وتعالى.


 كيف السبيل يا عباد الله إلى أن نتحرر من هذه الثنائية وأن يكون تعاملنا مع الحياة ومع تقلبات الدنيا منطبقاً كل الانطباق مع إيماننا بألوهية الله وحده، مع إيماننا بأنه هو، لا غيره، قيوم السموات والأرض؟ سبيل ذلك، بعد الإيمان الراسخ في العقل والكيان، أن نتساءل عمن أرسل إلينا هذه الحاجات التي نشعر بها، وأن نتساءل عن المصدر التي جاءتنا منه هذه الابتلاءات، نتساءل عن المصدر الذي جاءتنا عن طريقه هذه المصائب ولسوف نعلم أن مصدر ذلك كله إنما هو الله عز وجل، هو الذي وضعنا أمام حاجاتنا المعيشية وهو الذي يبتلينا عندما يشاء أن يبتلينا بما يشاء من المصائب ونحوها من الرزايا، فإذا عرفنا مصدر ذلك كله وعرفنا أنه الله فإن المنطق يقول لنا لن يرفع المصائب التي جاءت إلا من أرسلها ولن يحقق الاحتياجات التي وضعنا أمامها إلا من قد ابتلانا بها ولسوف نجد أنفسنا أمام هذا البيان الإلهي المقتضب العظيم الذي يذكرنا بهذه الحقيقة ألا وهو قول الله عز وجل: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ ففروا من البلايا التي تطوف بكم إلى من أرسلها إليكم، فروا من المصائب التي تتهددكم أو تتسلل إلى دياركم فروا منها إلى من ابتلاكم بها، وعندما تتأملون لن تجدوا إلا يداً واحدة هي التي تتحكم بالكون كله، ومن هنا فإن الذي عرف عبوديته لله وعلم أن الله عز وجل هو المتحكم بناصية الكون، عندما يرى المصائب التي تحيط به إنما يفر منها إلى من أرسلها إليه، عندما يرى النكبات التي تتقرب منه لا يفر منها إلا إلى ذلك الإله الذي ابتلاه بها.


ويا عجباً يا عباد الله، إن الإنسان عندما يتعامل مع مصالحه الدنيوية لا يتورط في هذه الثنائية قط بل يتعامل دائماً مع المصدر ولا يقيم وزناً للأسباب الشكلية، هل سمعتم عن إنسان جاءته جائزة مالية طرق بابه بها ساعي البريد فلما خرج واستلم الجائزة من ساعي البريد أخذ يقبل يديه ويرى أنه هو الذي أنعم عليه بها وهو الذي تفضل عليه بهذه الجائزة، هل في الناس الحمقى أو السذج من يفعل ذلك؟ إنه يعلم أن ساعي البريد وسيلة وسبب أما فكره فيذهب إلى تلك المؤسسة التي أرسلت إليه هذه الجائزة أو إلى ذلك الثري الذي أكرمه بها وإن نظر إلى هذا الساعي نظرة شكرٍ ونظرة تقدير لأنه الواسطة والسبب.


هل في الناس من إذا رأى السيارة تنهب الطريق متجهة إلى مكان ما يعطي الفاعلية للأجهزة الداخلة فيها والمولد الذي يتحرك في مقدمتها أو مؤخرتها؟ هل هنالك من السذج من يعطي الفاعلية للمقود الذي يتجه ذات اليمين آناً وذات الشمال آناً؟ لا أيها الإخوة، ليس في الناس أياً كانت مستوياتهم العقلية من يتعامل مع هذه الأسباب التافهة وينسى المسبب، ينسى الإنسان الذي يجلس خلف المقود ويحرك السيارة كما يشتهي ويريد.


فلماذا تختفي هذه الثنائية في معاملتنا الدنيوية، في مصالحنا المختلفة وتتجلى الثنائية بشكل مخيف بل ربما مرعب عندما نتعامل مع الله عز وجل؟ في مثل هذا المكان نذكر ونردد قول الله عز وجل: ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ وأغلب الظن أننا نعلم معنى الحي القيوم، نتلوا قول الله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾، فإذا خرجنا إلى السوق وإذا خرجنا إلى شؤوننا وأعمالنا حُجِبْنَا عن الحي القيوم ووجدنا أمامنا الأسباب الشكلية ولربما ذهب تقديرنا إليها إلى درجة أن نؤلِّهَهَا في بعض الأحيان.


يا عباد الله، هذه الثنائية مصيبة مهلكة ينبغي أن نتحرر منها وينبغي أن يهيمن إيماننا بالله عز وجل الجاثم في عقولنا، ينبغي إن يهيمن على سلوكنا. نعم التعامل مع الأسباب أمر أخلاقي وأدب نتعامل به مع الله، أقامنا الله في عالم الأسباب إذن نتأدب مع الله عز وجل ونتعامل مع ما قد جعله سبباً لمعايشنا ولكنا في الوقت ذاته نعلم أن المسبب هو كل شيء، نعلم أن المصطفى ﴿قال: لم يشكر الله من لم يشكر الناس﴾.


الوسائل التي جعلها الله عز وجل خادماً لأمره، خادماً لقضائه وحكمه نتعامل معها من منطلق أخلاقي مع الله ومن منطلق أدبي نتأدب بتعاملنا معها مع الله سبحانه وتعالى ولكن ما ينبغي أن تحجبنا الأسباب ساعة واحدة عن المسبب. ما النتيجة التي أريد أن أصل بكم إليها يا عباد الله؟ النتيجة هي أنا إذا علمنا أن المصائب التي قد تطوف بنا، ونسأل الله العفو والعافية، إذا علمنا أنها آتيةٌ من قيوم السموات والأرض فلسوف نطرق بابه ونلتجئ إليه ونستنـزل رحمته بنا وصفحه عنا من سمائه وننظر وإذا بالجواب قد جاء وإذا برحمة الله عز وجل قد نَسَخَتْ ذلك الشؤم ومحت تلك المصيبة.


إذا وجدنا أن عدواً يحاول أن ينتقص من أرضنا أو أن يستلب من حقوقنا أو يثير فتنة ما فيما بيننا فينبغي أن نعلم أن الذي ابتلانا بها إنما هو الله، ينبغي أن نعلم أن الذي يتعامل معنا على أساس هذا إنما هو قيوم السموات والأرض إذاً ينبغي أن نفر إلى الله عز وجل من هذا الابتلاء، نفر إلى الله بالالتجاء إليه، نفر إلى الله بإصلاح حالنا معه، نفر إلى الله بالتوبة، نفر إلى الله بالرجوع إلى الذات ومحاسبتها، كم من معصية اقترفناها، كم من لَهْوٍ انغمسنا في بحاره ويَمِّهِ، نعود إلى الله تائبين وإذا بهذا الابتلاء قد طوي وزال، وهذا لا يعني ألا نتعامل مع الأسباب بل نقاوم المعتدي ونقاوم العدو الشرس ونغلق باب الفتنة بالوسائل المادية كلها ولكن علينا أن نعلم أن ذلك كله إنما هو تعامل مع الله، خُلُقٌ نتعامل على أساسه مع الله وأدب مع الله من خلال تعاملنا مع أسبابه أما الحقيقة فهي ماثلة ملء عقولنا وقلوبنا تجسد حقيقة قول الله عز وجل: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، بخالقيته أوجد وبأمره حرك ونشط ودبر، لا الخلق بيد المخلوقات ولا التدبير بيد أحد من الناس، ألا له له لا لغيره له الخلق والأمر، نتعامل مع الدنيا ومع أسبابها وملء عقولنا وقلوبنا قوله عز وجل: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾، هذا يدعونا إلى أن نتجلبب دائماً بذل العبودية لله وأن نعلم أن مصدر الخير والشر كله إنما هو الله سبحانه وتعالى ومن ثم نفر إليه ولسوف نسمع إن بآذاننا أو ببصائرنا قوله تعالى: لبيك.


بهذا المعنى ننتهي ونتحرر من هذه الثنائية التي ابتلينا بها في هذا العصر، ولما تحرر أسلافنا من هذه الثنائية وكان إيمانهم العقلاني متناغماً ومنسجماً مع سلوكهم في الدنيا مع الخير والشر، مع المنح والمحن أكرمهم الله ورد عنهم غوائل المعتدين وفتح أمام نوافذ الفتوحات يميناً وشمالاً، شرقاً وغرباً. عباد الله اذكروا التاريخ وادرسوه وعودا إلى العبرة التي ينبغي أن نجتثها من هذا التاريخ الأغر، تاريخنا العربي الإسلامي المبين.


أذكركم بمثال واحد، وما أكثر الأمثلة التي على هذه الشاكلة، محمد الفاتح واحد من أبرز خلفاء بني عثمان، الخلفاء العثمانيين وهو الذي فتح الله على يديه القسطنطينية مصداق كلام رسول الله لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش، كيف فتحها؟ لم يعان من هذه الثنائية التي نعاني منها، جنَّد كل الوسائل والأسباب المادية علماً منه بأن الله استخدمها إذاً ينبغي أن يكون أديباً مع الله فيستخدمها، استخدم كل الوسائل والأسباب التي يضيق الوقت عن بيانها وشرحها ولما استنفد ذلك كله وقام بكل ما قد أمره الله به من تجنيد الوسائل المادية اتجه إلى باب الله يطرقه بذلٍ ومسكنة وضراعة وافتقار، دخل عليه ياوَرَهُ، خادمه أو مستشاره، في جنح الليلة الحساسة ليلة الفتح وإذا هو في خبائه ساجد ليس بين جبهته وتراب الأرض أي فاصل يمرغ رأسه وجبينه في تراب الأرض وهو يجأر إلى الله بالشكوى، يجأر إلى الله عز وجل يستنـزل نصره، يناديه لقد نفذت أمرك يا مولاي جندتُ كل الوسائل التي استخدمتَها وأمرتني باستخدامها ولكن أعلم أن الفتح بيدك وأن النصر أنت ربه والأمر كله إليك، بيد الخلق وبيدك الأمر، وقف الياوَرُ وقفة العسكري أمام القائد ينتظر فراغه من صلاته وسجوده.


بهذا فتح الله عز وجل على ذلك الرعيل القسطنطينية، أمران اثنان التعامل مع الأسباب، وهو في الظاهر مع الأسباب وفي الباطن تعامل مع المسبب ولجوء إلى الله، التجأ إلى الله عز وجل وجنده كلهم كانوا معه في هذا وكل الذين كانوا معه في ذلك الفتح كلهم كانوا ألسن التجاء إلى الله عز وجل، ما أشبه الليلة بالبارحة، العدو يتربص بنا والابتلاءات تطوف بنا عن يمين وشمال وامتحان الله عز وجل يقول لنا ماذا ستصنعون، هل تنفذون أمر الله القائل: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ إذاً ستجدون معجزات النصر والتوفيق أم إنكم ستتعاملون مع الأسباب وتنسون المسبب، ستتعاملون مع المظاهر الدنيوية وتنسون من بيده الخلق والأمر؟


أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل عقولنا المؤمنة بالله متفقة مع سلوكنا الذي يتعامل مع الدنيا والحياة وأسأله سبحانه أن ينـزل علينا نصره وتأييده وتوفيقه بعد تجنيد الأسباب والوسائل المادية كلها بل قبلها أيضاً بصدق الالتجاء إلى الله، بصدق التعامل مع الله، بصدق الاستقامة على دين الله سبحانه وتعالى إذاً سنجد أن مصائبنا قد طويت عنا ولسوف نجد أن سماءنا ستمطر وأن أرضنا ستنبت وأن نعمنا ستزداد.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي