مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 07/11/2008

سلم الأولويات وشروط صحة الحج

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


دأب كثير من الخطباء والوعاظ في مثل هذه الأيام من كل سنة على تشجيع الناس إلى التوجه حجاجاً إلى بيت الله الحرام، يستثيرون من بين جوانحهم مشاعر الشوق والحنين إلى بيت الله الحرام وإلى زيارة سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم خير الأنام، والحقيقة أننا في هذه العصور المتأخرة لسنا بحاجة إلى استثارة هذه العواطف والأشجان في قلوب الناس من أجل أن يزدادوا شوقاً إلى الحج والتوجه إلى بيت الله الحرام، ذلك لأن وسائل أداء هذا النسك أصبحت يسيرة سهلة ولأن الحوافز الدنيوية المتنوعة المختلفة أصبحت تستقل بدفع أكثر الناس إلى الحج إلى بيت الله الحرام ثانية وثالثة ورابعة وربما في كل عام.


نحن نلاحظ يا عباد الله أننا نعيش الفترة التي يتجلى فيها مصداق كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: )يأتي على الناس زمان يحج فيه الأغنياء للنـزهة والمتوسطون للتجارة والقرُّاء للرياء والفقراء للمسألة[، خيرٌ من أن نستثير العواطف الجياشة المتجهة بالشوق إلى بيت الله الحرام ومثوى حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، أقول: خير من ذلك أن نبين للناس في هذه المناسبة شرائط وجوب الحج، بل شرائط صحة الحج إلى بيت الله الحرام، خيرٌ من هذا أن نُذَكِّرَ عباد الله عز وجل بأن يلجأوا إلى مبدأ سلم الأولويات عندما تتزاحم الواجبات أو تتزاحم السنن أو الأمور المشروعة، نحن في هذا المنعطف الذي أحدثكم عنه بحاجة ماسة إلى أن نحدث الناس عن هذه الأمور الهامة يا عباد الله.


أنا أنظر إلى كثير من المساجد في موسم الحج إلى بيت الله الحرام فأجد أن خطيب المسجد غائب وأن أحداً لم يحل محله بالشكل الذي يرضي الله عز وجل، وأنظر فأرى أن إمام هذا المسجد غائب ولا أجد من قد حل محله أو سَدَّ مَسَدَّهُ على النحو الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، وأتأمل في دوائر الموظفين وإذا بكثير من هؤلاء الموظفين غائبون عن مهامهم المنوطة بأعناقهم، غائبون عن الوظائف التي كُلِّفُوا بها فأصبحت واجباً ملقىً على كواهلهم، أين هؤلاء الناس الذين كُلِّفُوا بهذه المهام؟ إنهم توجهوا حُجاجاً إلى بيت الله الحرام ولربما كان الواحد منهم قد حج مثنى وثلاث ورباع وأكثر لكنه، كما يقولون، الشوق اللاهب يحدو بهم إلى بيت الله الحرام وزيارة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأنا لا أستطيع أن أدخل إلى القلوب وأنبش أسرارها ولا أستطيع أن أتهم هؤلاء الإخوة بالمبالغة أو الكذب ولعلهم صادقون في الشوق الذي يتحرك بين جوانحهم ولكنا علينا جميعاً في هذه الحالة أن نعكف على معرفة أحكام الشريعة الإسلامية وأن نتبين واجبنا في مثل هذه الحالة لاسيما عندما تزدحم أمامنا الواجبات، مكلفون نحن في هذه الحالة بأن نلجأ إلى سُلَّمِ الأولويات.


أنا حججت إلى بيت الله الحرام مرة وثنتين وثلاث مرات مثلاً وأنا مكلف بمثل هذا الموقف الذي أقف فيه وقد دُعِيت اليوم إلى الحج ثانية أو ثالثة أو رابعة، ما الذي تقوله لي شريعة الله عز وجل؟ يضعني الباري عز وجل أمام سُلَّمِ الأولويات، الذي يدعوني إليه الباري سبحانه وتعالى في هذه الحالة هو أن أعكف على المهمة التي أُنيطَتْ بي، هو أن أمضي في هذه الوظيفة التي أقامني الله عز وجل عليها، سُلَّمُ الأولويات في دين الله عز وجل، هكذا يقول لي، والشوق الذي يحدو بي إلى بيت الله الحرام، هذا الشوق لن يذهب سدىً يا عباد الله، سيكتب الله لي الأجر على هذه الحرقة التي تهتاج بين جوانحي وسيكتب الله عز وجل لي الأجر على الشوق الذي يقيمني ولا يقعدني إلى مثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن لسان حالي يقول يا رب أنت إلهي المطلع على ما في نفسي وعلى ما يجول في خاطري وعلى اللهب الذي يتصاعد بين جوانحي شوقاً إلى بيتك وإلى زيارة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ولكنك أقمتني في هذه الوظيفة لخدمة الناس، لتوجيههم فأنا أستجيب لأمرك وأضع شوقي إلى بيتك الحرام أمانة بين يديك، لن يُضَيِّعَ الله عز وجل شوقك أبداً.


هذا المعنى أيها الإخوة ينبغي أن نُذَكِّرَ به في مثل هذا الموسم من كل عام إخواننا الذين يتحركون بدافع من الشوق إلى بيت الله الحرام، هذا شيء، شيءٌ آخر ينبغي أن نعود به إلى الشريعة الإسلامية، إلى الشروط التي ينبغي أن تتوفر لصحة الحج، ولا أقول لوجوب الحج، رُبَّ رجل يُخيل إليه أنه يتجه حاجاً إلى بيت الله الحرام وأنه قد جنى من وراء سعيه وجهده مثوبة يدخرها لنفسه عند الله ولكنه يعود بإثم يتحمله بدلاً من أن يعود بثواب يكرمه الله عز وجل به، الذين يشترون تأشيرات الدخول بالسوق السوداء، الذي لم يُتَحْ لهم أن ييسروا أو أن يفتحوا سبل ذهابهم إلى بيت الله الحرام إلا بالرشاوي، وما أكثر أنواعها، هؤلاء يتحملون من ذلك وزراً كبيراً، لا يجوز لهم أن يخلطوا عملاً محرماً في الطريق إلى شعيرة من شعائر الله سبحانه وتعالى التي أمرنا الله بها، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً يا عباد الله.


يأتي أحدهم فيصطنع لنفسه حرفة ما هو بأهل لها، يصطنع لنفسه حرفة من الحرف التي يوفد بها كثير من الناس إلى بيت الله الحرام من أجل أن يخدموا الحجيج؛ ممرضين، أطباء، خدمات تتعلق بالجزارة ونحوها، ما أكثر الذين يصطنعون حرفة من هذه الحرف وما هم منها بشيء وإنما يفعلون ذلك في سبيل أن يتخذوا من ذلك غطاءً يبرر توجههم إلى بيت الله الحرام، أفأنت حقاً قد ألزمت نفسك أن تخدم الحجيج من خلال هذه الحرفة التي لست أهلاً لها؟ هو يعلم أنه إذا ذهب نسي هذا الغطاء الذي غطى نفسه به إذ كان هنا، هذا العمل محرم يا عباد الله.


والعمل الذي يمارسه أحدنا قربى إلى الله عز وجل ينبغي أن يعود الواحد منا في ذلك إلى قلبه أهو مندفع إلى ذلك بدافعٍ واحد لا ثاني له هو استنـزال مرضاة الله إذاً ينبغي أن يكون عمله منضبطاً بشريعة الله، الإنسان الذي ركبته الديون وقد حج قبل اليوم إلى بيت الله الحرام لا يجوز له شرعاً أن يخرج من دويرة أهله إلى حجٍ أو إلى غير ذلك إلا بعد أن يستأذن من الدائن الذي قد استدان منه المال قلَّ الدين أو كثر فإذا أذن له ذهب وإن لم يأذن له فليس له الحق في دين الله عز وجل أن يتجه لا إلى حجٍّ ولا إلى غيره وما أكثر الذين يجهلون أو يتجاهلون هذه الحقيقة التي نقولها يا عباد الله.


نحن نقرأ كتاب الله ولكن ترى هل نتدبره عندما نقرأه؟ كلنا يقرأ أو يسمع قول الله عز وجل: )قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً[ [الكهف: 110]، يجعل عمله لوجهه فقط ولا يجوز أن أخلط دافعين اثنين إلى عملي الذي أنهض به، الدافع الرئيسي هو مرضاة الله وأخلط به دافعاً ثانياً آخر، مصلحة من مصالحي الدنيوية، إذا امتزج هذا بذاك فسد العمل كله )فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً[.


الإخلاص لدين الله عز وجل هو روح الطاعة، تصور جسداً استلت منه روحه ماذا يعني هذا الجسد، مآله أن يدفن ويتحلل بعد ذلك ويستحيل إلى تراب، الطاعة كهذا الجسد لا يمكن أن تحيا الطاعة وتقرب صاحبها إلى الله عز وجل إذا خلا قصد الإنسان إليها من الإخلاص الصافي عن الشوائب لله سبحانه وتعالى، وإذا تحققت نعمة الإخلاص فإن كل أعمال العبد يصبح قربى لله سبحانه وتعالى، إذا أكرمك الله بهذا الكنـز يا أخي، إذا متعك بنعمة الإخلاص لوجهه فإن ذهابك إلى السوق كادحاً مرتزقاً عبادة يكرمك الله سبحانه وتعالى عليها بالمثوبة والأجر، إذا عدت إلى دارك مساءً تؤنس أهلك وتكرمهم بالعطاء فتلك عبادة يكرمك الله سبحانه وتعالى بها، إذا غدوت في صباح اليوم الثاني إلى وظيفتك وعملك الذي أنيط بك فإن هذا العمل عبادة ثالثة أخرى يكرمك الله سبحانه وتعالى بالأجر الوفير عليها، إذا ذهبت إلى جامعتك متعلماً أو معلماً فإن الله عز وجل يجعل منك متعبداً له كل ذلك بموجب شيء واحد، هذا القلب الذي احتضن هدفاً واحداً لا ثاني له استنـزال رضى الله سبحانه وتعالى، أجل.


هذا الإخلاص أيها الإخوة ينبغي أن نبحث عن مكانه بين جوانحنا، ولقد ورد في الأثر أن الإخلاص نعمة يكرم الله سبحانه وتعالى بها من أحب من عباده، قيل لي ولكن محبة الله للعبد لا سبيل لنا إلى ذلك إذاً فالإخلاص هو الآخر لا سبيل لنا إليه، إذا أحبنا أخلصنا وإذا لم يحبنا هيهات أن ندرك هذه النعمة أو أن نحصلها بطريقة ما، فمال الجواب يا عباد الله؟ بوسع كلٍّ منا أن ينال محبة الله سبحانه وتعالى، اربط النعم التي تفد إليك بالمنعم، اربط هذه النعم التي لا تنقطع سلسلتها بالمنعم المتفضل عليك تجد أن معنى من معاني الشوق إلى الله عز وجل تفجر بين جوانحك وليس ذلك إلا أثراً من آثار محبة الله سبحانه وتعالى لك، ألم تقرأ قول الله عز وجل: )كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ[ [البقرة: 152]، اذكروني بالشكر على النعم التي تفد إليكم أذكركم باللطف، أذكركم بالحب، السبيل إلى محبة الله لنا مفتوح وميسر وهو لا يحتاج إلا إلى هذا الذي أقوله لكم يا عباد الله.


وأعود إلى كنت ما بصدده، الحج إلى بيت الله فريضة ولها شروطها، لها شروط وجوبها ثم لها شروط الصحة، أما الذي حج مرتين وثلاث أو أربع مرات وكان دأبه أن يذهب في كل عام حاجاً إلى بيت الله الحرام فليعد ولينظر إلى مبدأ سلم الأولويات في دين الله عز وجل، العمر قصير والواجبات كثيرة، التقط من الواجبات ما هو أهم، ما هو أقرب إلى مرضاة الله عز وجل، حقوق العباد مقدمة على حقوق الرب، حقوق العباد مبنية على المشاحة أما حقوق الرب فمبنية على المسامحة، وأنا أعلم قصصاً في تاريخنا الغابر وقد استعيدت في عصرنا الحاضر.


أناساً لم يتح لهم أن يحجوا إلى بيت الله الحرام، جمع أحدهم المال شيئاً فشيئاً فشيئاً وهو في شوقٍ شديد إلى اليوم الذي يتاح له أن يذهب حاجاً إلى بيت الله الحرام وقبيل أن يخطو الخطوة الأولى فرحاً نظر فوجد أسرة فقيرة إلى جانبه بحاجة ماسة إلى معونة مالية، عاتب نفسه ورأى أنه يستحق عقاب الله عز وجل لأن هذه الأسرة بجواره ولم يكن قد علم شأنها، قدم هذا المال كله لهذه الأسرة وقعد يجتر شوقه، قعد يجتر حنينه إلى بيت الله الحرام، قَبِلَ الله تعالى حج أولئك الحجاج كلهم بشفاعة هذا الذي لم يحج، ألا فلنعلم أيها الإخوة أن الشوق له أجره المستقل، والشوق لا يعني أن ننفذه ونحن نغمض أعيننا عن الواجب الذي كلفنا الله عز وجل به، أسأل الله عز وجل أن يكرمني وإياكم بنعمة الإخلاص لوجهه وألا يميتنا إلا ونحن نستمسك بنعمة هذا الإخلاص الذي نرجو أن يكون شفيعنا بين يدي مولانا وخالقنا إذا قام الناس غداً لرب العالمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي