مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 17/10/2008

الشجرة الطيبة وغذاؤها

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


في الأسبوع الماضي ذكرت لكم طائفة من الأحاديث الصحيحة الدالة على أن من لقي الله عز وجل لا يشرك به شيئاً حرم الله عز وجل عليه النار وأدخله الجنة، ففي الناس من دفعهم هذا الذي ذكرت إلى التواكل، إلى أن يعتقدوا أنه ليس على الإنسان لكي ينال رضوان الله عز وجل وجنته ولكي يتقي من سخطه وناره سوى أن يحمل معه عقيدة أن لا إله إلا الله وأن يختم بها حياته و لا عليه بعد ذلك إن أعرض عن الطاعات ولا عليه بعد ذلك إن ولغ فيما يمكن أن يلغ فيه من المعاصي وفيما يمكن أن يرتكبه من المحرمات، ذلك لأن ضمانة سعادته إنما هي هذه الشهادة، وهذه وسوسة شيطانية تبعد بعض الناس عن المعنى المراد بهذا الذي أكده لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.


وها أنا أضعكم يا عباد الله أمام المعنى الدقيق لهذا الذي أكده لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعلمون أن الله عز وجل شبه لنا كلمة لا إله إلا الله وما يتضمنه من معتقد إيماني بالشجرة الراسخة الضاربة جذورها في الأرض فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ [ابراهيم:24]، والكلمة الطيبة إنما هي شهادة أن لا إله إلا الله، هل هنالك شجرة غرست في الأرض وضربت بجذورها في باطنها دون أن تحتاج إلى غذاء؟ كلنا يعلم أن هذه الشجرة إذا تركت دون غذاء مدة من الزمن ذَبُلَتْ ثم إن الرياح تعصف بها وبأوراقها ذات اليمين وذات الشمال وإذا هي بعد قليل حطب للوقود فكذلكم شهادة أن لا إله إلا الله، أنا غرستها في عقلي يقيناً وغرست جذورها في قلبي عاطفة وحباً وتعظيماً لله عز وجل فأين هو غذاء هذه الشجرة الإيمانية حتى تبقى معي رفيقاً إلى الموت؟ غذاء هذه الشجرة أداء العبادات، غذاؤها الإكثار من ذكر الله عز وجل في القلب قبل اللسان، غذاؤها الابتعاد عن المحرمات والمعاصي، فمن غذَّى شجرة إيمانه ومعتقده بهذا الغذاء صاحبته هذه الشجرة رفيقاً أميناً وفياً إلى الموت ولقي الله عز وجل كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد حَرَّمَ اللهُ عليه النار.


أما من قال ها أنا ذا قد آمنت بالله إلهاً واحداً فرداً صمداً إذاً فأنا قد ملكت ضمانة السعادة في العقبى ثم إنه أعرض عن العبادات التي كلفه الله بها وتقلب في أنواع الملهيات والمنسيات من المحرمات التي نهى الله عز وجل عنها ما الذي يحصل؟ الذي يحصل أن شجرة إيمانه هذه المتمثلة في كلمة لا إله إلا الله تذبل ثم إنها تذبل ثم إن رياح الموت وآلام الموت تعصف بهذه الكلمة فَيُزَجُّ هذا الإنسان في يَمٍّ من النسيان عندئذ، ولكي يرتسم هذا الكلام في أذهانكم بطريقة علمية يا عباد الله أضعكم أمام هذه الحقيقة التي يدركها كل مثقف وعالم، الإنسان عندما يُزَجُّ به في آلام الموت وسكراته تتبدد كل الأفكار السطحية المتجمعة في ذهنه بل في قلبه أيضاً ولا يبقى جاثماً في نفسه من الأفكار والذكريات إلا ما كان مخزوناً في عقله الباطن،


وما الذي يختزن في عقل الإنسان الباطن؟ الذي يختزن في عقله الأمور التي كان في حياته يحبها حباً شديداً وكان لا يفتأ يحلم بها ويتحدث عنها وينشط في سبيلها، هذه الأفكار هي التي تبقى مخزونة في عقله الباطن أما الأفكار السطحية فإن سكرات الموت وبرحاء الموت يجلعها تتطاير كما تتطاير عصافير تجمعت في شجرة من الأشجار عندما تمتد يدٌ فتهز هذه الشجرة هزاً عنيفاً، فلينظر الإنسان إذا أقبل إليه الموت ما هي الأفكار السطحية التي تمر بذهنه بل بعاطفته وما هي الأفكار الجاثمة في كيانه والتي يوليها محبته والتي يعيش معها فكراً وذكراً ونشاطاً، إن كانت أفكاره السطحية التي يمر بها هي الدنيا التي ضمنها الله له. هي الرزق التي تكفل الله له به، هي المعايش التي ضمنها الله تعالى له وكانت حقيقة الإيمان وشجرة التوحيد هي التي تستولي على فكره الدائم وهي التي تستولي على عواطفه حباً لله وتعظيماً له ومخافةً منه فليطمئن هذا الإنسان حتى ولو قصَّر في جنب الله عز وجل في السلوك، ليطمئن إلى أن الموت إذا جاءه فإن الذي يتطاير من فكره إنما هو تلك الأفكار السطحية الدنيوية التي لم يكن يعبأ بها لأن الله قد تكفل له بها أما الأفكار المخزونة في عقله الباطن فإنما هي تلك الشجرة الإيمانية تلك الشجرة الإيمانية التي كان دائماً يغذيها بذكر الله، يغذيها بالطاعات والعبادات، يغذيها بالابتعاد عن المحرمات، انظر إليه وهو يعاني من برحاء الموت كيف تجد أنه يكرر هذه الكلمة: لا إله إلا الله، الله، الله، أما الدنيا فهو معرض عنها في تلك الساعة لا يبالي بها، فهذا هو الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ﴿من لقي الله لا يشرك به حَرَّمَ الله عز وجل عليه النار وأدخله الجنة﴾.


إنكم لتعلمون يا عباد الله هذا الذي أقوله لكم من خلال مثل صغير، إنسان تمدد على فراش المرض ثم استسلم لمبضع طبيبه الجراح يجري له عملية جراحية، قدم إليه المخدر قبل ذلك ليقصيه عن آلام العملية، انظر إليه ما الذي يتحرك به لسانه؟ يتحرك لسان هذا الإنسان الذي غَيَّبَه المخدر عن الدنيا التي من حوله، يتحرك بما هو مخزون في عقله الباطن، يعشق المال، يسأل عن تجارته، عن المال الذي اغتصبه فلان، عن المال الذي استدانه منه فلان، عن عن.،، الخ، وإن كان يتعلق قلبه بفتاة أو نحو ذلك تجد أنه يهتف باسم هذه التي يحبها، أما إذا كان هذا الإنسان من الذاكرين الله كثيراً فإن لسانه لا يفتأ يردد ذكر الله، كذلكم سكرات الموت، وانظروا إلى هذا المعنى كيف ينبهنا إليه بيان الله سبحانه وتعالى إذ يقول: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً﴾ [طـه: 124-125]. كنت أؤمن في حياتي بأن لا إله إلا أن ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طـه:126]. هذا شأن الإنسان الذي جعل دنياه مرتبطة به ارتباطاً سطحياً لأنه وثق بأن الله ضمن له سعادة الدنيا ولكن مهمته أن يوفر لنفسه سعادة العقبى.


أما الإنسان الذي وثق بأنه يردد كلمة لا إله إلا الله صباح مساء وسمع هذه الأحاديث الكثيرة فوثق أنه من الناجين وأنه من السعداء الذين سيغفر الله لهم فأقبل إلى الدنيا منسياتها وملهياتها، يعرض عن ذكر الله ويشغل نفسه بالمال، بالمحرمات، بالمتع، باللذائذ، لا أقول المباحة بل المحرمة وأمضى حياته وهو على هذه الشاكلة، نعم إن لسانه يردد أن لا إله إلا الله ولكن حظه من ذلك إنما هو محصور في اللسان أما القلب والعواطف فمرتبطان بالدنيا التي هو مشغول بها، وقع هذه الكلمة في حياته كالشجرة التي انبت عنها الغذاء الذي ينبغي أن تناله دائماً، ما المآل بالنسبة لهذا الإنسان الذي وثق أن جواز سفر إلى الله سيمتعه بالسعادة لأنه جواز يقول لا إله إلا الله، عندما تمتد قدماه، بل كيانه على فراش الموت ويدخل عليه ملك الموت ليقبض روحه ويقع في سياق الموت وآلامه وبرحائه تتطاير من فكره كل الصور والمعتقدات السطحية وكان حظه من لا إله إلا الله لساناً يردد ذلك، ينسى وإنما يبقى ما كان مخزوناً في عقله الباطن، وإنما اختزن عقله الباطن ما قد قلته لكم، شهواته، أهواءه، متعه، لذائذه ونحو ذلك، وكم رأينا أناساً كانوا يشهدون أن لا إله في تقلباتهم الحياتية فلما وقع الواحد منهم في سكرات الموت نظرنا وإذا هو يهتف بتجاراته، يهتف بأمواله، يهتف يستعدي أهله على خصومه، يهتف بمن يحب من الأصدقاء أو من الصديقات، أجل، وقد مضى إلى الله وقد نسي العقيدة التي عاشها، مضى إلى الله وهو بهذه الحالة، ينبغي أن نعلم هذه العقيدة، اضمن لنفسك أن تموت ورفيقك لا إله إلا الله يضمن لك الله السعادة لكن كيف تضمن إذا مت أن تبقى هذه الشهادة رفيقاً لك في رحلتك إلى الله، إذا غذيتها بحياتك بما قد أمرك الله به.


انظروا إلى قوله عز وجل: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون:1]  هذا هو الذي يفلح الإيمان لكن لابد للإيمان من غذاء، سَرَدَ أنواع الأغذية ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ﴾ [المؤمنون:1-10]، ما العلاقة بين الإيمان وهذه الأمور التي ذكرها الله؟ الإيمان هو الشجرة التي ذكرها الله عز وجل وهذه الأمور الأخرى هي الغذاء التي ينبغي أن تتعهد شجرة إيمانك بها لكي ترحل إلى الله عز وجل وأنت مؤمن.


أيها الإخوة الإنسان الذي عاش يذكر الله بقلبه قبل لسانه، الذي أورثه ذكر الله حباً لمولاه وتعظيماً له لا خوفَ عليه وإذا وقف بين يدي الله سيلهمه الله حجته ولسوف يكرمه الله بالمغفرة عن طريق هذه الحجة التي يكرمه ويلهمه بها ولسوف يكون مثل ذلك الرجل الصالح الذاكر لله المتعهد شجرة إيمانه بالغذاء، توفي، رآه في الرؤيا صديق صالح مثله قال له: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه وقال لي  بم جئتني، أين هي الطاعات التي جئتني بها؟ قلت يا رب أنا عبد، أنا لا أملك شيئاً، أنَّى لي أن أملك شيئاً آتيك به، أنا الذي جئت أطمع في عطائك لي، أنت ربي وأنا عبدك تريد أن أعطيك ما لا أملك؟ غفر الله له بهذا، لكنني فكرت أيها الإخوة كيف لنا أن نملك هذه الحجة نقولها بين يدي الله غداً؟ إذا تعهدنا شجرة إيماننا، شجرة لا إله إلا الله بغذائها، الإكثار من ذكر الله، الإكثار من الطاعات والعبادات عندئذٍ سيلهمنا الله عز وجل هذه الحجة ذاتها، ورحم الله ابن عطاء الله السكندري إذ يقول في حكمة من حكمه: من أشرقت بدايته أشرقت نهايته، فلتشرق أيام حياتك في البداية بالطاعات وبذكر الله يشرق الله نهايتك بمغفرة وعفوٍ كبير.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي