مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 10/10/2008

شر أنواع القذف

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


يقول ربنا عز وجل في محكم تبيانه: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ[ [الحجرات: 11]، هذه الآية كما تلاحظون يحذر الله عز وجل فيها عباده من أن يواجهوا بعضهم بعضاً بالتنابز بالشتائم والسباب والقذف بأنواعه المختلفة وقد أجمع العلماء على أن شر أنواع القذف إنما هو أن يتوجه الإنسان إلى أخيه الإنسان باتهام الكفر دون تثبت أو تأكد، أجمع العلماء على أن هذا الاتهام هو شرُّ أنواع التنابز بالألقاب، ولقد حذر المصطفى صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة من هذا النوع من القذف فقال فيما رواه الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: )إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه[، وروى الشيخان أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: )إذا رمى الرجل أخاه بالكفر فهو كقتله[، وفي رواية )فهو كمن قد قتل[، والأحاديث في هذا كثيرة ولا داعي إلى استقصائها.


ومن هنا فقد ألزم السلف الصالح متمثلاً في أصحاب رسول الله وفي التابعين وفي من بعدهم بالإمساك عن الاتهام بالكفر، بل إن المصطفى صلى الله عليه وسلم هو القدوة لنا في ذلك، كان بين الصحابة رضوان الله عليهم منافقون مردوا على النفاق ولكن المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يتهمهم بالكفر ولم يعاملهم إلا معاملة المسلمين ولقد كان رأس المنافقين كما تعلمون عبدَ الله بن أبي بن سلول لم يعامله المصطفى على الرغم من سوء فعاله إلا على أنه مسلم، ولما مات أرسل إليه رسول الله ثوبَه الذي يرتديه على جسده تنفيذاً لرغبة ابنه ليكفن به ولما جيء به ليُصَلَّى عليه كان رسول الله في مقدمة من صلى عليه، وكان في المدينة من قد ارتكب جريمةً تسمى اليوم بالخيانة العظمى ومع ذلك فإن سمة الإسلام لم تنقطع عنه وعن أمثاله قط، حاطب بن أبي بلتعة واحد من هؤلاء أرسل سراً إلى مشركي قريش في مكة يخبرهم بما قد عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوجه إلى مكة فاتحاً وقال لهم خذوا حذركم، واطلع المصطفى صلى الله عليه وسلم على رسالته الخفية التي أرسلها فلم يتهمه بالكفر بل إن الله عز وجل شهد له بالإيمان في عتاب رقيق وجهه إليه: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ[ [الممتحنة: 1] )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا[ 


لن يقطع البيان الإلهي سمة الإيمان عنه، كل هذا لما عرفوه من أن الاتهام بالكفر شرُّ أنواع القذف الذي حرمه الله سبحانه وتعالى، بل إنكم لتعلمون يا عباد الله أن فرقاً ذرَّ قرنها في أواخر عهد الصحابة كالمعتزلة والجهمية والمرجئة والخوارج ولقد شردوا شروداً كبيراً عن صراط الله سبحانه وتعالى وبحثنا ونقبنا فلم نجد في الصحابة والتابعين من اتهمهم بكفر، لم نجد من اتهم الخوارج أو المعتزلة أو المرجئة أو غيرهم بكفر، ولما سُئِلَ عليٌّ كرم الله وجهه عن هؤلاء الذين خرجوا عليه وأرادوا قتله أمسلمون هم أم لا؟ قال إخواننا بغوا علينا.


أقول بعد هذا يا عباد الله إن في هذا العصر الذي نعيش فيه أناساً استمرؤوا الاتهام بالكفر ووجهوا هذا الاتهام إلى عباد الله جملة لا تفصيلاً، رشاً لا دراكاً، ترى ما هي الحجة التي دفعتهم إلى ذلك إن في كتاب الله أو سنة رسول الله، وما رأينا في كتاب الله وسنة رسول الله إلا ما يحذر، إلا ما يهدد من هذا الأمر، بعد البحث تبين أنهم يحتجون بفهم خاطئ عجيب للحديث الذي رواه أصحاب السنن عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة، زاد الترمذي وأبو داود هذه الجملة التالية: كلها في النار إلا ملة واحدة، قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما هي قال ما أنا عليه وأصحابي، هؤلاء التكفيريون يعتمدون على هذا الحديث بل على هذه الزيادة؛ كلها في النار إلا أمة واحدة، احتكروا الفئة الناجية وسماتها في أنفسهم، احتكروها لذواتهم، فإذا سُئِلَ الواحد منهم من أين أنت يقول أنا من الفرقة الناجية، أي إن كل الفرق الأخرى التي تختلف عن مزاجه وقناعاته كفرة فجرة ومن ثم فيحل له أن يقتل وأن يسفك الدماء إلى آخر ما هنالك، قلت لكم إن سبب هذا الولوغ في الباطل والضلال فهم خاطئ وعجيب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.


لاحظوا أيها الإخوة ودققوا النظر إنها مسألة أكاديمية ولكن لابد من بيانها، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم افترقت اليهود ويقول افترقت النصارى، كانت المقابلة تقتضي أن يقول وسيفترق المسلمون ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يقل وسيفترق المسلمون وإنما قال وستفترق أمتي إلا ثلاث وسبعين فرق، والمراد بالأمة هنا أمة الدعوة وليس المراد أمة الاستجابة، كل الذين أرسل إليهم رسول الله من يوم بعثته إلى قيام الساعة مشرقين ومغربين من أمة المصطفى سواء استجابوا أم لم يستجيبوا، إنهم من أمة الدعوة، والواقع أن أمة الدعوة هذه تفرقت في سبل عقائدية شتى، هذا ما يعنيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ودليل آخر في هذه الزيادة التي زادها الترمذي قال: كلها في النار إلا ملة واحد، لم يقل إلا فرقة واحدة كما يهوى التكفيريون، لم يقل إلا فرقة وإنما قال: إلا ملة واحدة وكلمة الأمة تطلق على الدين أي إلا دين واحد هو دين الإسلام بكل فرقه وبكل فئاته، هل هنالك دليل آخر على هذا يا عباد الله؟


نعم، الأحاديث الكثيرة التي بلغت مبلغ التواتر المعنوي والتي تمتاز جميعاً بالصحة أن كل من مات وهو يشهد لا إله إلا الله دخل الجنة، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه: من لقي الله لا يشرك به شيئاً حُرِّمَتْ عليه النا، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان أيضاً: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني رسول الله ما يلقى عبد بهما الله سبحانه وتعالى إلا حُجِبَتْ عنه النا، والأحاديث في هذا كثيرة جداً، هذه البشارة التي يبشر بها المصطفى صلى الله عليه وسلم تنطبق على المسلمين جميعاً بشتى فرقهم القديمة وعلى اختلاف مذاهبهم الجديدة، فما من واحد من هؤلاء الناس رحل إلى الله إلا ويحمل بيمناه بل بقلبه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كيف يمكن أن نجمع بين ذلك الفهم الخاطئ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول كلها في النار إلا ملة واحدة وبين الأحاديث الكثيرة الكثيرة التي بلغت مبلغ التواتر والتي تؤكد أن كل من رحل إلى الله سبحانه وتعالى وهو يؤمن أن لا إلا الله وأن محمداً رسول الله لابد أن يكرمه الله برضوانه ومغفرته وجنانه! أقول هذا آملاً أن يكون هؤلاء التكفيريون الذين يتسربون إلى بلاد الله الإسلامية الواسعة، أن يكون هؤلاء التكفيريون ينطلقون من اجتهادات قلبية وألا يكونون مخالب لأعداء لهذه الأمة على اختلافها، لعلهم إن كانوا كذلك يرعوون، لعلهم إن كانوا كذلك يرجعون إلى ما كان عليه السلف إن كانت لهم نسبة حقيقية إلى السلف الصالح، أصغيت السمع جيداً يا عباد الله وأنا الذي درس سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وكتب فيها، هل هنالك صحابي كَفَّرَ إنساناً في عصره؟ لم أعثر على واحدٍ فعل ذلك، أصغيت السمع جيداً إلى عهد التابعين هل فيهم من كَفَّرَ معتزلياً، هل فيهم من كَفَّر جهمياً، هل فيهم من كَفَّرَ خارجياً، إلى آخر ما هنالك من الفرق؟ لم أعثر إطلاقاً على شيء من هذا، أين هو اتباع السلف من أناس استمرؤوا كلمة الكفر والتكفير، اتخذوا هذه الكلمة المتكررة كالتسبيح الذي يتقرب به الإنسان إلى مولاه وخالقه سبحانه وتعالى.


عباد الله، هذا العصر الذي نعيشه هو العصر الذي أشار إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما سُئِلَ عن أشراط الساعة فقال إذا كَثُرَ الهر  - القتل- لا يدري القاتل فيما قَتَلَ ولا المقتول فيما قُتِل، أجل لا يدري القاتل فيما قَتَلَ لأنه مدفوع إلى ذلك، لأنه مخلب لمن قد حمله على ذلك ومن ثم فهو لا يعلم فيما قَتَلَ ولا يدري المقتول فيما قُتِلَ، بريء لم يفعل شيئاً يستوجب القتل، إنني أقول هذا الكلام بهذا الشكل المختصر آملاً أن يبلغ هذا الكلام سمع هؤلاء الذين تاهوا في هذه الطرق الضلالية الموحشة لعلهم يعودون، لعلهم يؤوبون ويرجعون، العمر الذي يمتع الله به الإنسان في هذه الدنيا قصير يا عباد الله والأوبة إلى الله قريبة والموقف بين يدي الله خطير فلنتب إلى الله وليرجع هؤلاء الإخوة إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله وليمدوا جسور الألفة ثانية بينهم وبين عباد الله سبحانه وتعالى، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي