مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 03/10/2008

الثبات على الاستقامة - حق العباد

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


بالأمس حدثتكم عن منهج الرحلة إلى الله سبحانه وتعالى والطريق الموصل إلى مرضاته وقلت إنه يتلخص في أداء حقين اثنين أولهما حق الله سبحانه وتعالى والثاني حق العباد وقلت إن حق الله عز وجل على العبد يتمثل في الخضوع التام لعبوديته لله سبحانه وتعالى وشرحت وبينت، أما الحديث عن الحق الثاني وهو حقوق العباد فقد أرجأت الكلام فيه إلى فرصة قادمة، ولعل هذه الفرصة مناسبة للحديث عما أرجأت الكلام فيه، للإنسان حق على أخيه الإنسان، وهذا الحق أيها الإخوة يتم تحقيقه من خلال ثلاث دوائر، الدائرة الأولى وهي الدائرة المحورية الصغيرة تتمثل في حقوق الأسرة والأرحام، أما الدائرة الثانية وهي التي تحيط بها فهي حق الأخوة في الله سبحانه وتعالى، الأخوة الإسلامية، وأما الدائرة الثالثة الواسعة التي تحيط بالدائرتين فهي حق الأخوة الإنسانية، ولأبدأ بالحديث عن النقطة المحورية ضمن هذه الدوائر ألا وهو حق الأسرة وما يحيط بها المتمثل في حق الأرحام.


الأسرة يا عباد الله وضعها كتاب الله عز وجل ضمن هالة من القداسة وضمن هالة من الأهمية وأفرد للحديث عن قدسيتها سورة واحدة تقريباً وجعل فاتحة هذه السورة تذكيراً بحق الأسرة وقدسيته ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء:1]، والأسرة تتكون من أصول وفروع، أما الأصول فهما الزوجان وأما الفروع فهم الأولاد، والحديث عن حقوق الأسرة حديث طويل الذيل بل حديث ذو شجون لا مجال لتفصيل القول فيه في هذا المقام لكني ألفت نظركم إلى شيء، اضبطوا حقوق الأسرة بالرجوع إلى ما يذكركم به كتاب الله في سورة النساء وفي غيرها أيضاً وحصنوا حق هذه الأسرة بالسور الذي يذكر الله سبحانه وتعالى به في محكم تبيانه، إنه السور الذي يحمي الأسرة ألا وهو صلة الرحم، صلة الرحم عبارة عن سور يحيط الأسرة المحورية الصغيرة، إذا حُفِظَتْ حقوق الأرحام روعيت الأسرة وإذا ضُيِّعَتْ صلة الأرحام تعرضت الأسرة هي الأخرى للضياع، وحسبكم في بيان أهمية صلة الأرحام وخطورة قطعها قول الله عز وجل: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد: 22-23].


ولعلكم تعلمون يا عباد الله أن قوى الشر في العالم تتربص بأسرتكم الإسلامية أيما تربص وتضع الخطط الماكرة الخفية والمعلنة، والخفية منها هي الأخطر، في سبيل القضاء على الأسرة وتمييعها ثم تذويبها لتؤول الأسرة الإسلامية في المجتمعات الإسلامية إلى مثل ما آلت إليه الأسرة الغربية إذ قُضِيَ عليها وتحولت إلى ما يشبه أطلالاً من بناء، هذا هو الحق المحوري الأول الذي هو قلب هاتين الدائرتين، أما الحق الثاني من هذه الحقوق أو الدائرة الثانية من هذه الدوائر الثلاثة فتتمثل في حماية وأداء حقوق الأخوة الإسلامية، وأنا أذكر نفسي وأذكركم بالآية الجامعة المانعة التي لا تنسى في كتاب الله عز وجل والتي تحملنا جميعاً مسؤولية هذه الأخوة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: 10].


تأملوا يا عباد الله في هذين الشطرين من الآية، الشطر الأول قرارٌ معلن، قرارٌ إخباري معل ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾. أما الشطر الثاني فأمر رباني يأتي على أعقاب ذلك القرار ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾، أما قرار الله عز وجل فلا داعي إلى أن نبحث الدليل عليه، والحديث في هذا أيضاً حديث طويل الذيل، ولاشك أن هذا القرار الراسخ يستدعي منا القيام بتطبيق مقتضاه، ومقتضاه أن نصلح ما بيننا وبين إخواننا في الله عز وجل ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾، أصلحوا كلمة جامعة تحتضن معاني تفصيلية شتى، مدوا بينكم وبين إخوانكم حبال المودة، حبال القربى، حبال، ولا أقول خيوط، التضامن، ذَوِّبُوا مما بينكم وبين إخوانكم عوامل الفرقة أياً كانت هذه العوامل، مزقوا مما بينكم وبين إخوانكم الحواجز التي تقطع بعضكم عن بعض أياً كانت هذه الحواجز ولتكن الحواجز المذهبية، الحواجز الفكرية، الحواجز الاجتهادية، إياكم أن تضحوا بالأخوة التي قررها الله عز وجل في محكم تبيانه وأمركم بالنهوض بواجباتها، إياكم أن تضحوا بهذا القرار الكبير في سبيل قضايا جزئية أكاد أقول إنها تافهة، وسلم الأولويات منهج معروف في شرع الله عز وجل، نضحي بالجزئي اليسير البسيط في سبيل حماية الكلي الخطير الهام، الأخوة الإسلامية بناء ينبغي ألا يُمَس، المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، القضايا الاجتهادية، الخلافات المذهبية تمثل الجزئيات التي لا قيمة لها أمام هذا الصرح الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى بحمايته، أقامه في القرار وأمرنا بحمايته في الحكم الذي أتبعه بذلك، وإنكم لتعلمون أن هنالك مؤامرات من قوى الشر وخططاً كائدة تهدف تمزيق هذه الأخوة، القضاء على هذا القرار الذي أقامه الله بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10].


وإنني أحتفظ بوثائق يعبر من خلالها أعداء هذا الدين عن الحلم الذي يراودهم، عن الحلم الذي يُسْعِدُهم من حيث إنه يشقينا عندما يرون أن المسلمين قد تألَّبَ بعضهم على بعض، توصي هذه الوثيقة بأن يتم بذل ما يمكن في سبيل تأليب المسلمين بعضهم على بعض وفي سبيل جعل الاجتهادات الإسلامية سبباً للعداوات والخصومات التي ينبغي أن تكون سارية بينهم، مزقوا كل حواجز الفرقة وكل عوامل التدابر واستحيوا واستنبتوا المزيد من هذه الأخوة التي شرفنا الله سبحانه وتعالى بها ولا تنسوا هذا القرار الرباني الذي يضع في أعناقنا مسؤولية وأي مسؤولية ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾[الحجرات: 10]. هذه هي الدائرة الثانية.


أما الدائرة الثالثة فهي الأخوة الإنسانية، هل الأخوة في الإسلام تجعلنا نتيه أو نعرض عن الأخوة الإنسانية؟ لا يا عباد الله، ولا تصغوا إلى من يتيهون عن الحقيقة في هذا الأمر، يقول المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما يرويه الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما أيضاً، أبو يعلى في مسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ﴿الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، الخلق كلهم عيال الله﴾، وكلمة عيال هنا تعني أنهم المكلوؤون برعاية الله أنهم المرتبطون بنسب العبودية إلى الله سبحانه وتعالى، فإن أردتم القرب إلى الله فإياكم أن تسيئوا إلى عيال الله أي إلى هؤلاء العبيد، ولا حظوا أيها الإخوة أن الله عز وجل قد أعلن عن تكريمه لهذه الخليقة، للإنسان أياً كان: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الاسراء: 70].


قرار عام يشمل عباد الله جميعاً إذاً ينبغي علينا أن نكرم من كرمهم الله، ينبغي علينا ألا نستهين بهذه الخليقة التي كرمها الله أما المآل الذين رفضوا هذا التكريم فتاهوا في جنبات الأرض فهذا شأن لا يخصنا نحن وإنما مرد ذلك بين الله وبين هؤلاء الناس، إذاً ينبغي أن نلحظ هذه الدائرة الثالثة أيضاً، كيف؟ ننصح هؤلاء الذين كرمهم الله والذين ينتسبون إلى الله عز وجل بنسب العبودية التي عبر رسول الله عنها بكلمة العيال مجازاً، تكريمنا لهذه الخليقة يقتضي أولاً النصح لهم، ندعوهم إلى الله بسائق من الحب، بسائق من الغيرة، بسائق من الشفقة والرحمة لا بسائق من العصبية ضد من ندعوهم إلى الله لكي نتغلب عليهم، ينبغي أن نتبين هذا، نحقق هذه الأخوة الإنسانية ونؤدي واجباتها لله عز وجل تجاه هؤلاء الإخوة بأن تكون علاقة ما بيننا وبينهم علاقة رحمة، علاقة ود لا علاقة بغضاء لأشخاصهم، نُبغض فيهم معاصيهم إن عصوا الله ولكننا نرحم العاصي.


انظروا في هذا إلى بيان الله إذ يروي من كلام سيدنا لوط وقد علمه الله ما يقوله لقومه ﴿إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ﴾ [الشعراء: 168]. إني لعملكم من المبغضين، لماذا لم يقل إني لكم من المبغضين، لأن المطلوب منا أن نبغض معصية العاصي لا أن نبغض العاصي ذاته، وهكذا كان أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم، ولو شئت لوضعتكم أمام صور ومشاهد تجسد هذه الحقيقة ولكن الوقت أضيق من ذلك يا عباد الله، ندعوهم إلى الله والدافع إلى ذلك الشفقة، تمتد ما بيننا وبينهم صلة هذا الرحم الإنساني الذي أشار إليه المصطفى بقوله عليه الصلاة والسلام: الخلق كلهم عيال الله.


فإذا وجدنا أناساً عصاة شردوا عن صراط الله إما شروداً سلوكياً أو شروداً فكرياً نسأل الله لهم العافية والهداية، نسأل الله سبحانه وتعالى لهم حسن الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، لئن وجدنا الآخرين يقطعون ما بينهم وبيننا صلة القربى كرحم إنساني ويضعون الخطط تلو الخطط للإيقاع بنا وللقضاء علينا فما ينبغي أن نواجههم بمثل ما يواجهوننا به، ينبغي أن يكون لسان حالنا هو: أما نحن فربنا سبحانه وتعالى ينهانا عن أن نُسَوِّدَ قلوبنا بالأحقاد والضغائن، نحن ندافع عن أرضنا وندافع عن حقنا إذا امتُهِنَ أو طافت به الأخطار ولكنا في الوقت ذاته لا نضمر حقداً لمن كرمهم الله عز وجل كأشخاص.


ولاحظوا هذا المعنى كيف يتجلى يا عباد الله في تصرفات الربانيين من عباد الله سبحانه وتعالى، معروف الكرخي رجل معروف في علمه وورعه وربانيته، كان يمشي على شاطئ دجلة مع ثلة من مريديه وتلامذته، رأوا في عُرْضِ النهر الغمر الكبير شباباً يقصفون ويلهون ويرتكبون بعض المحظورات فقال أحدهم للشيخ يا سيدي انظر إلى هؤلاء الفسقة الماجنين ادع الله عليهم، فرفع يديه وقال: اللهم كما أدخلت السرور على أفئدتهم في الدنيا فأدخل السرور على أفئدتهم يوم القيامة، هذا يجسد يا عباد الله منهج الدعوة في حياتنا وعلاقة ما بيننا وبين الإخوة في الإنسانية وفي العبودية لله سبحانه وتعالى، هل خالف هذا الإنسان مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ لا، إذا استجاب الله دعاء الشيخ فمعنى ذلك أنه سيغفر لهم ويتوب عليهم ويلهمهم الرشد إذ لا يمكن أن يتوب الله عز وجل على كافر أو فاسق أو فاجر وهو عاكف على فجوره وكفره وفسقه.


هكذا ينبغي أن نُعَلِّمَ الغرب الذي يتاجر بمشاعر الحقد ضد عباد الله سبحانه وتعالى الذين أرادوا أن يقفوا في محاريب العبودية لله سبحانه وتعالى، ولربما كان التعليم الصامت أدعى إلى التأثير من الخطاب اللساني الموجه لاسيما إذا كان خطاباً لا حظ للقلب والمشاعر الإيمانية منه، إذا رحل الإنسان إلى الله وقد أدى حق العبوية لله وأدى حق الأسرة والرحم التي جعلها الله سوراً للأسرة وأدى حق العباد الذين كرمهم الله عز وجل بقطع النظر عن الأديان والمذاهب فإنه مهما رحل الله بالقصير والقليل من العمل فلسوف يجد رباً كريماً غفوراً رحيماً، عبوديتي لله ستشفع لي، صلتي ما بيني وبين عباد الله الذين غذيت علاقتي معهم بإصلاح هذا الشأن كما قال الله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: 10]  تشفع لي عند الله عز وجل.


العبودية لله هي السبيل إلى أن أمارس حقيقة الأخوة مع عباد الله المسلمين وأن أمارس حقيقة الأخوة الإنسانية مع الدائرة الكبرى، منطلق ذلك كله أن أمارس عبوديتي لله عز وجل، إذا رحلت إلى الله حتى ولو كان عملي قليلاً فلسوف تشفع لي عبوديتي ورحم الله عز وجل ذلك الرجل الرباني الذي توفي فرآه صديق له شأنه كشأنه في العلم والصلاح والتقوى، رآه في الرؤيا، قال له ماذا صنع الله بك؟ قال أوقفني بين يديه وقال بم جئتني، أين هي الطاعات التي وفدت إلي بها؟ قلت يا ربي أنا عبد أنا لا أملك شيئاً، أنا لا أملك شيئاً قط، أنا جئت أنتظر عطاءك، أفتنتظر مني وأنا عبد أن أعطيك فكان هذا شفيعاً لي بين يدي الله، أسأل الله أن يلهمنا هذه الحجة إذا وقفنا غداً بين يديه، وكيف السبيل إلى أن نُلْهَمَ هذه الحجة؟ سبيل ذلك أن نغذي عبوديتنا لله اليوم، سبيل ذلك أن نتحقق بذل العبودية لله وأن تقودنا هذه العبودية إلى حماية الأسرة وإلى حماية الرحم وإلى حماية العلاقة الإنسانية ما بيننا وبين إخواننا المسلمين وإخواننا في الإنسانية.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم. 

تحميل



تشغيل

صوتي