مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 26/09/2008

الثبات على الاستقامة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


ما هي إلا أيام ثلاثة ولسوف يغيب عنا إشراق هذا الشهر المبارك ولسوف ينطوي عنا بساط أنسه ولسوف تتحول أيامه إلى ذكريات تطوف بالأذهان ولكن سنة الله سبحانه وتعالى ماضية في كونه وخلائقه،  لابد أن يتكرر هذا الشهر كل عام ما دام كل من الفرقدين، الليل والنهار، يتناوبان ومادام الفلك يقوم بالواجب الذي أناطه الله سبحانه وتعالى به ولكن إذا عاد هذا الشهر وانتشر إشراقه مرة ثانية في ربوع الأرض ترى أنكون نحن ممن يعيش ولا يزال على ظهرها أم سنكون ممن تحولوا إلى جثة هامدة داخل بطنها؟ هذا مما لا يعلمه أي منا قط ولا يملك الإنسان أي مقياس يدل على طول حياته أو قصرها، لا الشباب في حياة الإنسان برهان على طول حياته ولا الشيخوخة دليل على قصر حياته وأن الموت قد دنا منه، أمر مغيب اختص الله سبحانه وتعالى به ذاتَهُ العلية،  إذاً فنحن لا نعلم هل بوسعنا أن نستقبل هذا الشهر مرة أخرى ونحن أحياء نتقلب فوق هذه الأرض أم لن يتاحَ لنا ذلك.


إذاً تعالوا يا عباد الله نبذل الجهد ونعاهد المولى سبحانه وتعالى على أن لا نفسد الصلاح الذي حققناه وعلى أن لا نتحول إلى الاعوجاج بعد الاستقامة على أمر الله، المفروض يا عباد الله أننا اصطلحنا مع الله عز وجل في ظلال هذا الشهر، جددنا البيعة له، استغفرناه من ذنوبنا كلها، والشيء الذي لا نرتاب فيه أن الله سبحانه وتعالى قد قبل أوبة الآيبين وقبل توبة التائبين وغفر للمستغفرين.


فيا عباد الله ينبغي على كل منا أن يبذل قصارى ما يملك من جهد في سبيل ألا تعود هذه الصفحة البيضاء النقية بعفو الله ومغفرته إلى شائبة سواد بعد ذلك بسبب سوء السلوك، علينا أن نعاهد الله عز وجل على الثبات على ما قد اصطلحنا عليه معه من أجل أن نرحل إلى الله عز وجل وصحائفنا بيضاء نقية ولا ندري متى تكون ساعة الرحيل إلى الله، لا ندري أهي بعد أيام أو بعد ساعات أو بعد أشهر أو سنوات، رزقنا الله سبحانه وتعالى حسن الأوبة إليه ورزقنا المغفرة التامة من خلال هذا المغتسل النقي في ظلال هذا الشهر المبارك فما ينبغي أن نفسد ما أصلحنا وما ينبغي أن نسلك طريق الاعوجاج بعد الاستقامة التي عاهدنا الله سبحانه وتعالى عليها، ولكن لعل فينا من قد يسأل فكيف السبيل إلى أن نظل على هذه الاستقامة مترفعين فوق المغريات والأهواء والشهوات؟ كيف السبيل إلى أن نحافظ على ذخر هذا الشهر الذي أورثنا الله عز وجل إياه إلى أن تحين ساعة الارتحال إليه؟


السبيل يا عباد الله يمكن أن يلخص بواجبين اثنين أولهما أداء حق الربوبية الكامن لله في أعناقنا، الثاني أداء حقوق العباد لله سبحانه وتعالى علينا،  أما حق الله سبحانه وتعالى فإمكاننا أن نحققه وأن نصطبغ به بطريقة واحدة هي جماع الأمر كله ألا وهي أن نصطبغ بحقيقة العبودية لله سبحانه وتعالى، أن نستيقن أننا عبيد مملوكون لله عز وجل لا يتأتى منا سعي إلى نفع أو ابتعاد عن ضر إلا عن طريق كرم الله سبحانه وتعالى ومَنْحِهِ وعطائه بحيث ندرك أننا ممن قال الله سبحانه وتعالى عنهم في محكم تبيانه: )اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ[ [البقرة: 257]، بحيث نعلم وندرك أننا ممن قال الله عز وجل عنهم: )إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ[ [المائدة: 55].


إذا أدرك الإنسان عبوديته الضارعة الكاملة لله سبحانه وتعالى أدرك أن له ولياً واحداً لا ثاني له هو الله جل جلاله ذاك الذي أنا عبده، عبوديتي لله عز وجل تساوي ولايته لي، عبوديتي لله عز وجل تستلزم الدخول تحت سلطان ولايته لي، هو وحده وليِّ من دون الخلائق أجمع، هو المالك لأمري، هو الذي يقودني ويتصرف بي كما يشاء، إذا أدركنا هذه الحقيقة وهيمن هذا اليقين على مشاعرنا وعلى قلوبنا فإن الاستقامة على دين الله تصبح أمراً يسيراً، وحراسة الصحيفة النقية أن تبقى نقية تصبح أمراً بسيطاً وسهلاً، وإذا رحل هذا الإنسان المصطبغ بذل عبوديته لله إلى الله لقي رباً كريماً غفوراً رحيماً حتى وإن زلت به القدم في الطريق، حتى وإن تغلب عليه الوقوع في الخطأ وهو يسير إلى الله عز وجل، عبوديته تشفع له، ولكن لعل فينا من يقول فأنى لي أن أصبطغ بهذا الشعور؟


سبيل ذلك سهل سائغ يا عباد الله، سبيل ذلك أن يشعر الإنسان فاقَتَه وفقرَهُ الكلي، وهل من صعوبة في استشعار الإنسان بذلك، هل في الناس من يخيل إليه أنه القوي الذي لا يُغلَب، أنه الغني الذي لا يفتقر، أنه الباقي الذي لا انتهاء له،  كلنا نعلم بعد الإيمان بالله عز وجل أن حياتنا لحظةً فلحظةً فلحظةً إنما تأتي بمدد من الله عز وجل وأن عافيتنا لحظة فلحظة فلحظة إنما تأتينا بإمدادٍ من الله سبحانه وتعالى وأن المال الذي يأتيك والذي تتخيل أنك تملكه إنما يكرمك الله سبحانه وتعالى به كما يشاء، يرزقك إن شاء ويستل الرزق الذي أعطاك إياه في لحظة واحدة يستله منك إن شاء، إذا أدركت فاقتك هذه وإذا أدركت أنك لا شيء في مملكة الله ولكنك كل شيء بعطاء الله سبحانه وتعالى دخلت في باب العبودية لله سبحانه وتعالى وأدركت أنك عبد مملوك لله سبحانه وتعالى، وإذا دخل الإنسان في ساحة العبودية لله عن طريق شعوره بفاقته الحقيقية وافتقاره الدائم فإن عبوديته لله تسلمه إلى محبة الله عز وجل، بينهما تلازم لا انفكاك له يا عباد الله.


عرفتُ أني عبد مملوك لله وأن كل ما يأتيني إنما يأتيني برفد من الله سبحانه وتعالى وأن الله عز وجل إذا شاء أخذ ما وهب واسترد ما أعطى، عندما أدرك هذا وأنظر فأجد أن العافية التي أتمتع بها من فرقي إلى قدمي وأنظر فأجد الوعي الذي يكرمني الله عز وجل به في رأسي وأنظر إلى السمع الذي أتمتع به والبصر الذي يكرمني الله عز وجل به واللسان الذي يتدفق كلاماً في فمي كما تسمعون وعندما أنظر فأجد أن رقادي إنما يأتيني بفضله ويقظتي بعد ذلك إنما تأتيني بإكرام منه والمال الذي يأتيني إنما يأتيني بإكرامه وعطائه فإن هذا يفجر مشاعر الحب لله الذي أعطى والذي أنعم والذي بيده كل شيء، ومن هنا كان الإنسان الذي يرى الدنيا التي من حوله متمثلة في المغريات والشهوات والأهواء فيمنحُهَا قلبَهُ حباً بدلاً من أن يمنح قلبَهُ مولاه الذي أعطاه هذه النعم، هذا الإنسان لئيم، هذا الإنسان بعيد عن رحمة الله عز وجل، وصدق الله القائل: )قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[ [التوبة: 24].


هذا الكلام يُقَال لنا ومعناه أيها الناس ادخلوا في باب العبودية لله تنقلكم العبودية لله عز وجل إلى صعيد المحبة لله وعندئذٍ تضعون أرزاق الله وعطاءه وراءكم ظهرياً وتلتفتون بالحب والتعظيم والمهابة إلى المنعم هذا الله أعطاك، وصدق الله القائل: )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ[ [البقرة: 165]، هذا هو السبيل الأول لبقاء صحائفنا بيضاء نقية عند رحيلنا إلى الله عز وجل، أن نصطبغ بحقيقة العبودية لله، سبيل ذلك أن نعلم فاقتنا وفقرنا لله عز وجل، هذه الفاقة تدخلنا في باب العبودية وباب العبودية تسلمنا إلى الحب للواحد الذي لا ثاني له.


فإن قست القلوب يا عباد الله، وإن كان هذا الكلام غير كافٍ لكي نعلم هوياتنا فنصطبغ بها ونقف في محراب العبودية لله فإني أنصح هذا الإنسان أن يغدو في يوم ما إلى أي مشفى قريب منه لينظر إلى شحوب المرضى وأشكالهم المضنية، ليصغي السمع إلى أنَّاتِهِم المرتفعة إلى عنان السماء وليتصور كيف كان كل واحد من هؤلاء المرضى قبل أيام أو شهور ولْيَعُدْ إلى نفسه فليتساءل أهو ضامن إذا أمسى ذات ليلة ألا يصبح وقد توضع مرض من هذه الأمراض بين جوانحه، هل يملك قوة ذاتية لرد هذه الغائلة عنه، هل يملك وسيلة ليتسامى بها عن هذه الحال.


فإن كان القلب أقسى من أن يزجه هذا المنظر في هويته ويعود إلى نفسه مؤمناً بأنه عبدٌ لله فليسر مع جنازة من الجنائز التي ينتظر بها الحفرة التي فتحت فمها له، ما الذي يوجد داخل هذا الصندوق الذي يحمل إلى حفرته، لعله فتاة كانت أثناء حياتها مضرب المثل في الجمال، كانت تتمتع بقامة ميساء، كان يُضْرَبُ بها المثل ما بالها اليوم وقد أصبحت هيكلاً عظمياً يثير منظره الرعب، أو لعل ما في داخل هذا الصندوق قائد عظيم، إنسان مهيب كان بالأمس إذا حكم خضع الجميع لحكمه وإذا سار دخلت هيبته في قلوب الرائين له، يقضي بما يشاء ويحكم بما يريد، ذا صولة وصولجان، ما باله اليوم! أصبح متمدداً داخل هذا الصندوق قفصاً عظمياً لا حراك به،  ألست أنت الذي ستؤول إلى هذه الحال! إذاً أنت في قبضة كائل، من هو هذا الذي أنت في قبضته، إنه الله، إنه مولاك )ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا[ [محمد: 11].


 فإذا كان هذا الذي أقول هو أيضاً لا يرقق قلبك ولا يعيدك إلى هويتك فاعلم أنك إذاً ممن قال الله عز وجل عنهم: )ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ[  [البقرة: 74].


 هذا هو السبيل الأول؛ أداء حق الله، حق الله يتمثل في العبودية لله وعبوديتك لله تسلمك إلى الحب لله وحبك لله يزجك في سعادة ما مثلها سعادة،  أما الشرط الثاني فيتمثل في أداء حقوق العباد ولكن لعل الوقت يا عباد الله ضاق عن الدخول في الحديث مفصلاً في هذا الشرط الثاني فلنرجئ الحديث عن حقوق العباد وما أناطه الله في أعناقنا تجاههم إلى فرصة قادمة،  أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم. 

تحميل



تشغيل

صوتي