مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 19/09/2008

يا باغي الخير أقبل

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


مع دخول هذا العشر الأخير من شهر رمضان المبارك يتسابق إلى الصائم نداءان اثنان أحدهما يقول يا باغي الخير أقبل، ثانيهما يقول يا باغي المتعة والتسالي الرمضانية أقبل،  النداء الأول يقول يا باغي الخير أقبل إلى محراب العبودية لمولاك وخالقك، اركع مع الراكعين، اسجد مع الساجدين، استغفر الله عز وجل وتب إليه وادعه بما شئت فهو مقبل إليك، يغفر الذنب الذي تستغفر منه، يقبل التوبة التي تقبل بها إليه، يجيب دعاءك ويحقق رجاءك، وأما النداء الثاني فيقول يا باغي المتعة والتسالي الرمضانية صالات المطاعم بكل ما فيها من منسيات وملهيات تنتظرك، أبهاء الفنادق كل ذلك قد ازين بمناسبة هذا الشهر، شهر رمضان، أقبل إلى الملهيات الرمضانية المتنوعة المختلفة، سلِّ رمضانك من المساء إلى السحور فإلى لمعة الفجر. 


ترى يا عباد الله أي الندائين يلقى استجابة من عباد الله الصائمين في هذا الشهر المبارك،  قبل أن أجيب ما ينبغي أن نحجز أعيننا عن الإجابة الحقيقية بصور المساجد التي تزدهي بالمصلين، المساجد التي يقبل إليها الراكعون الساجدون، تعالوا نخترق هذه الصور التي نعرفها ونألفها جميعاً، تعالوا نخترق هذه الصور إلى ما وراءها ماذا نجد؟ نجد سائر المطاعم، سائر المقاهي، أبهاء الفنادق على اختلافها نجدها جميعاً تغص بالوافدين إليها من أجل المتعة، من أجل التسالي الرمضانية، من أجل الملهيات الرمضانية، الموائد التي تُحْجَز تُحْجَز قبل أسبوع، كل هذه الأماكن تغص، تغص بمن؟ بهؤلاء الذين يستجيبون لهذا النداء الثاني لاسيما تلك الطبقات التي تسمى مخملية وليت أنها فعلاً كانت مخملية، تلك الطبقات التي أكرمها الله عز وجل بالنعم فأبطرتها النعمة بدلاً من أن تقودها إلى شكر الله سبحانه وتعالى. 


ولربما كان في هؤلاء الذين يتسابقون إلى هذه الصالات والمطاعم من أجل التمتع بالملهيات الرمضانية ربما كان فيهم من يفتتح أمسيته وسهره بركعات يركعها مع المصلين في المسجد ثم إنه يتجه إلى المائدة التي كان قد حجزها وقد أيقن أنه كفَّرَ سلفاً عن هذا الذي هو مقبل إليه، ألم يقل رسول الله  صلى الله عليه وسلم: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه، وفي رواية، غفر له ما تقدم وتأخر، إذاً فليذهب إلى سهراته مطمئن البال لأنه كفَّر عن هذا الوزر الذي هو مقبل إليه،  ربما كان في الصائمين من يطمئن نفسه بهذه الفلسفة.


ولكن يا عباد الله ينبغي أن تعلموا وأن يعلم هؤلاء الإخوة أن سر القبول لا يكمن في حركات الراكعين والساجدين، السر الذي به يغفر الله عز وجل الذنوب السابقة واللاحقة لا يكمن في حركات الجسد صاعداً راكعاً جالساً وإنما يكمن في العامل الخفي الذي يقوده إلى هذه الحركات،  السر، سر القبول، سر التوبة يكمن في العبودية التي تهيمن على القلب والتي هي مزيج حب للخالق وتعظيم له ومخافة منه ويقيناً بمملوكيته لهذا الإله، هذا السر عندما يكون هو الدافع إلى ركوع الراكعين وسجود الساجدين هذا السر هو السبب في أن الله عز وجل يغفر لهذا الإنسان ذنوبه السابقة ولربما اللاحقة أيضاً ولكن فلنعلم أن الذي يقوده إلى محراب العبودية لله، عبوديته الضارعة لله سبحانه وتعالى، يقينه بمملوكيته لله، يقينه بأنه سيقف عما قريب وقفة ضراعة وذل بين يدي الله، يقينه بقول الله عز وجل: )يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ[  [الانشقاق: 6]. 


عندما يكون هذا هو الدافع لهذا الإنسان لأن يركع مع الراكعين ويسجد مع الساجدين وأن يقوم ليالي رمضان فهيهات هيهات أن يُفْسِدَ بعد ما أصلح، هيهات أن يُفْسِدَ إقباله إلى الله سبحانه وتعالى بالتوجه بعد ذلك إلى ليل المنسيات والملهيات هيهات، إذا دعاه شيطان من شياطين الإنس، وشياطين الجن مصفدة في هذا الشهر، إذا دعاه شيطان من شياطين الإنس إلى تلك الملهيات الرمضانية قال له: مه أنا عبد مملوك لله لا أخالف أمره، حبي لله عز وجل يمنعني من أن أخونه، تعظيمي لله عز وجل يمنعني من أن أكون ذا وجهين، وجهٍ كنت به أصلي له ووجهٍ آخر كنت به أعرض عنه لا يمكن. 


وانظروا يا عباد الله إلى هذا المعنى كيف يتجلى في كلام الله عز وجل: )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا[ [ابراهيم: 25]، هذه الشجرة ليس السر في الأغصان التي تتراءى لك في أعلاها وإنما السر في الجذور الخفية الكامنة وسط التربة، هذه العبادة كهذه الشجرة، سر العبادة كامن في جذورها، كامن في أساسها الخفي، أساس العبادة عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى، أساس العبادة أن العبد يعلم أنه سائر إلى الله ولا يعلم متى تأتي ساعة خروجه من هذه الدنيا وإقباله إلى الله، هو واقف كما قلت مراراً في طابور أمام بوابة الموت، لا يعلم أهو واقف في مؤخرة الطابور أم في مقدمتها أم في منتصفها، ربما دعاه الداعي بعد ساعات، أأعصي الله وأنا راحل إليه! أأفسد صيامي الذي جعله الله مرقاةً لحبه لي، سبيلاً لمغفرته لي، سبيلاً لاستجابته لدعائي، أأفسده بالاستجابة لشياطين الإنس، أأفسده لهذه المغريات التي يُعْلَن عنها صباح ومساء وكأن شهر رمضان شهر عقده الله عز وجل للهو وللإقبال فيه على المنسيات والملهيات، ملهيات تُخْتَرَعُ اختراعاً لتنسب إلى شهر رمضان المبارك وفي أي الليالي، في الليالي التي فيها ليلة هي خير من ألف شهر كما قال ربنا سبحانه وتعالى، هذه الليالي العشر استقبلوا فيها هذه الليلة المباركة، ولحكمة باهرة عالية أخفاها الله عز وجل عنا كي نقبل إلى الله في كل ليلة من لياليها نتلمسها كي نتأمل أننا قد نصيبها ونتصيدها في أي ساعة من الساعات وربك يقبل، وربك يعطيك الأجر الوافر في كل ليلة على هذا الذي قد أصبت، وقد صح عن أحمد ما يرويه في مسنده عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم أنه قال: التمسوها في ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين أو الخامس والعشرين أو السابع والعشرين أو التاسع والعشرين أو آخر رمضان وهذا يعني أن ليلة القدر ليست حكراً ولا محصورة في ليلة السابع والعشرين كما يظن البعض ولكنا نتصيدها في كل ساعة من الساعات،  أيجدر بالإنسان الذي عرف ربه وفاض قلبه عبودية لله أن يجعل من هذه الليالي ساعة إقبال إلى لهوه، ساعة إقبال إلى شهواته يا عباد الله. 


بقي أن أقول لكم شيئاً هو جواب عن أناس فيهم من يستشكلون الأمر بحسن نية وفيهم من يتصيدون هذا الإشكال ليعكروا صفو العقائد الإيمانية في أفئدة أصحابها، يقول أحدهم: كيف يمكن أن تكون هنالك ليلة خاصة هي ليلة القدر عند الله وقد علمنا أن الليالي والأيام تتناوب في الكرة الأرضية، فالساعة التي هي منتصف الليل هنا ربما كانت في الجهة المقابلة من الأرض هي منتصف النهار هناك فكيف تكون ليلة القدر هنا في منتصف الليل وتكون في رابعة النهار هناك،  هذا كلام من يظن أن سر ليلة القدر كامن في طبيعة الزمان، في طبيعة الفلك، الشمس والقمر الدائرين، لا يا عباد الله، الأزمنة كلها بحد ذاتها سواء والأمكنة كلها في حد ذاتها سواء، تربة عرفة كتربة أي مكان في عالم الله سبحانه وتعالى، كذلكم الأزمنة، وإنما ينبعث فضل ليلة القدر من تجليات الله عز وجل على عباده في تلك الليلة، يتجلى الله عز وجل على عباده في هذا الصقع من العالم في الليلة التي يشاء، يقبل فيها على عباده ليقبلوا إليه، ويتجلى الله عز وجل على عباده في صقع آخر في ليلة أخرى وهكذا فالله سبحانه وتعالى الذي ناوب بين أزمنة الليل والنهار يعلم كيف يوزع قيمة هذه الليلة بين عباده سواء كانوا في مشارق الأرض أو في مغاربها، هذه اللوثة لا يجوز أن تلتصق بعقل إنسان أسلم عقله ويقينه لله عز وجل. 


وأعود فأقول لكم إن الذي يشفع لنا غداً بين يدي الله يوم القيامة هو سر العبادات لا مظهر العبادات، الذي يشفع لنا غداً بين يدي الله عز وجل يوم القيامة هو عبوديتنا لله عز وجل إذ تقودنا إلى الركوع والسجود، هي يقيننا بمملوكيتنا لله سبحانه وتعالى، هي مشاعر الحب، مشاعر التعظيم، مشاعر المهابة والخوف إذ تهيمن على قلب الإنسان،  أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم. 

تحميل



تشغيل

صوتي