مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 12/09/2008

الفساد المستشري

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


يتفاقم في هذه الأيام من هذا الشهر المبارك الحديث عن الفساد المستشري في كثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية لاسيما ذلك الذي يتمثل في اتساع الهوة وعمقها بين فئات الأغنياء الموسرين وبين أصحاب الضرورات المعيشية من الفقراء المعوزين، وكثيراً ما عوتبتُ لتقصيري في الحديث عن هذه المشكلة وعدم معالجتها، والحقيقة أن الذي كان ولا يزال سبباً لتقصيري في معالجة هذه المشكلة أنني إذا أردت أن أتحدث عن الداء فلا بد أن أُتْبِعَ الحديث عنه بوصف الدواء والذي أعتقده أن الذين ينبغي أن يستعملوا الدواء معرضون عنه ولسوف يظلون معرضين عنه ومع ذلك فإنني أتصور أنني ربما كنت مبالغاً في إساءة الظن.


 وهاأنذا سأحاول في هذا الموقف يا عباد الله أن أتحدث عن هذه المشكلة وأرسم العلاج الذي لابد منه للتغلب عليها،  أما وصف المشكلة، وصف الفساد المستشري فأعتقد أنه لا داعيَ إلى الإطالة في ذكره فالحديث عنه مكرور ومعاد ومكرر وقد شبعت الآذان والأسماع من الحديث عنه أما الدواء الناجع الذي لابد منه فقد لخصه المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كلمات يسيرة وذلك في الحديث الذي يرويه أحمد والترمذي وأبو داود والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه  صلى الله عليه وسلم  قال: )من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ، الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمْكم من في السماء[.


هذا هو العلاج باختصار أيها الإخوة وموقفي الساعة أن أشرح هذا الملخص الذي ذكره لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إن الرحمة التي نبَّهَنَا إليها رسول الله وأمرنا بها تتمثل في درجات كثيرة متتابعة أدناها وأولها أن يؤديَ المسلمون الموسرون حقوق الله سبحانه وتعالى في أموالهم لأصحاب هذه الحقوق وذلك يتمثل في زكاة المال، هذه هي الدرجة الدنيا والأولى من التراحم الذي نبهنا إليه رسول الله  صلى الله عليه وسلم،  وقد أوضح لنا البيان الإلهي أن هذا الحق المتمثل في ما يتصور أنه مال للغني هو ليس ماله وإنما هو مال ذلك الفقير أُودِعَ في صندوقه، )وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ[ [النور: 33]، )وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[ [الحديد: 7]، فهل الموسرون أو أكثرهم يؤدون هذا الحق المتمثل في صناديقهم وأموالهم لله عز وجل عن طريق إعطائه للمعوزين والمحتاجين؟


أنا أقول لكم يا عباد الله بصريح القول: على الرغم من أن كثيراً من الموسرين يتسابقون إلى إقامة المآدب الكبيرة في المزارع الواسعة بالمناسبات المختلفة التي تمر فإن هذا الكرم يختفي ويظهر في مكانه الشح عندما يُدْعَى الواحد منهم إلى بذل حق الله سبحانه وتعالى في ماله، عندما يدعى الواحد منهم إلى بذل هذا الحق الذي أودعه الله سبحانه وتعالى في ماله أمانة للفقراء. 


ما أكثر ما رأيت الكرم الذي يتلألأ عندما تلوح المصالح والمغانم الدنيوية والآمال التي من ورائها ثم كم رأيت كيف يختفي هذا الكرم المتلألئ وينتشر في مكانه الشح العجيب مصداقاً لقوله تعالى: )وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ[ [النساء: 128]، ولربما اعتذر أحدهم بمثل ما اعتذر به المشركون من قبل، لربما قال قائلهم: لماذا أودع الله سبحانه وتعالى حق الفقراء في صناديق الأغنياء ثم طلب من الأغنياء أن يعيدوا هذا الحق إليهم؟ لماذا لم يضع هذا الحق رأساً في جيوب الفقراء؟ وصدق الله القائل وهو يروي حديث المشركين: )وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ[ [يّـس: 47]. 


ولربما قال قائل أيضاً يا عباد الله أين أنت من المؤسسات الخيرية الكثيرة التي تنثر وتنشر في كل يوم ربما مئات الوجبات الغذائية تطرق بها أبواب الفقراء والمعوزين؟ وأقول في الجواب: نعم وجزا الله هذه المؤسسات وأصحابها خيراً ولكن هذه الوجبات تشبع الجائع ولا تغني الفقير، ولله عز وجل حكمة عندما أمر بدفع زكاة المال المتمثل في السيولة المالية، ليس الهدف من المشرع أن يشبع الفقير الجائع على أن يبقى في مكانه يراوح في مكان فقره، ليس هذا هو المراد وإنما المراد من بذل هذا الحق للفقراء أن يتحول الفقراء شيئاً فشيئاً عن طريق ذلك إلى مستوى الغنى، والقاعدة الفقهية في هذا الأمر تقول: إذا أعطيتم فأغنوا، والوقت لا يتسع للحديث عن آداب إخراج الزكاة وكيف ينبغي أن تكون وكيف السبيل إلى أن يستغني بها الفقراء شيئاً فشيئاً ويتحولوا من الفقر إلى الغنى، أما الوجبات فهي تعود الفقير على أن يرضى ببؤسه وكأنه يسمع قول الشاعر: واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي. 


يا عباد الله هذا هو الدواء الذي وصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم زاده بياناً عندما قال بصريح القول: )إن الله فرض في أموال الأغنياء بالقدر الذي يسع فقرائهم ألا وإن الفقراء إذا جُهْدُوا فجاعوا وعروا لن يكون ذلك إلا بما يفعل أغنياؤهم، ألا وإن الله محاسبهم حساباً شديداً فمعذبهم عذاباً كبيراً[،  فرق كبير بين أن أبذل المال في سبيل أن أحقق لنفسي هالة بين الناس وفي سبيل أن أتصيد من وراء ذلك مصلحة دنيوية أخطط لها وبين أن أتعامل مع الله في خلوة لا يراني إلا الله سبحانه وتعالى، أنظر إلى المال الذي متعني الله عز وجل به وأصغي إلى قوله: )وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[ [الحديد: 7] وأقول بيني وبين ربي إذاً أنا خليفة على هذا المال عنك يا رب، هو ليس مالي ولكنه مالك ائتمنتني عليه لبيك لبيك يا مولاي، إن للفقراء، بل هو لك، حقاً في هذا المال فلسوف أُخْرِجُ هذا الحق بحساب دقيق بل أزيد عليه وألقى هؤلاء الذين ابتليتني بهم وأنت القائل: )وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً[ [الفرقان: 20].


أخرج فأطرق باب هؤلاء الإخوة وأنا أشعرهم بأنهم هم المتفضلون عندما يقبلون هذا الحق وأشعرهم بالأخوة السارية بيني وبينهم وأنا في هذا إنما أتعامل مع الله عز وجل ولكأني بهذا الغني وهو يعطي حق الله عز وجل لهؤلاء المعوزين يقول للواحد منهم أنا لم أعطك هذا المال لكنه أعطيت لله ولكأن الفقير يقول وأنا لم آخذه منك وإنما أخذته من الله،  عندما يرقى المجتمع إلى مستوى هذا التراحم فاعلموا أن المشكلة تذوب وتمحي،  علاج هذه المشكلة التراحم يا عباد الله، وإن صوم رمضان معين بل ينبوع لهذا التراحم، إذا شعر الصائم بالجوع أيقظه الجوع إلى عبوديته لله وعلم أنه محبوس عن الطعام والشراب بسبب عبوديته لله، ثم إن عبوديته لله إذا استيقظت ساقته إلى الرحمة، عبودية تنبثق من الصوم والرحمة تنبثق من هذه العبودية، ولكن ماذا أقول؟ كثير من هؤلاء الصائمين الموسرين يتعرضون لنفحات الرحمة الإلهية في النهار من خلال صومهم ولكنهم في المساء يتعرضون للملهيات والمنسيات ويقبلون إلى ما يسمى بالسهرات الرمضانية في الليل،  في النهار تنتعش أرواحهم بمشاعر العبودية الراحمة وفي المساء تعود فتقسو قلوبهم بسبب هذه السهرات الرمضانية التي لا داعيَ إلى أن أصفها لكم.


يا عباد الله اجعلوا سهراتكم الرمضانية قربة إلى الله، لا تجعلوها قربى إلى النفس وغوائلها، اجعلوا سهراتكم الرمضانية سهراتٍ تنفقونها ركعاً وسجداً لله سبحانه وتعالى، اجعلوا سهراتكم الرمضانية بيعةً جديدة مع الله عز وجل تجددون فيها التوبة، تجددون فيها الاستغفار وأنا أعلم أن الله عز وجل يقول لبيك، أسأل الله عز وجل أن يُقْدِرَنَا على استعمال العلاج، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي