مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 29/08/2008

بين يدي شهر رمضان المبارك

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


في مثل هذه الأيام وقبل حلول شهر رمضان المبارك بأيام قليلة وربما بساعات خَطَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم  خطبة جامعة فيما يرويه ابن خزيمة في صحيحه من حديث سلمان الفارسي كان في مقدمة خطابه قوله: )أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله سبحانه وتعالى صيامه فريضة وجعل قيامه نافلة، جعل الله سبحانه وتعالى توجه العبد إلى الله بخصلة من خصال الخير بمثابة أداء فريضة في سواه والتقرب إلى الله عز وجل فيه بفريضة كالتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بسبعين فريضة فيما سواه[.


عباد الله إن هذا الذي خاطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم  الناس إنما خاطب به الأجيال كلها من خلال أصحابه البررة الذين كانوا يصغون إلى حديثه، وخطابه الذي قاله في مثل هذه الأيام يتضمن بيان أن هذا الشهر المبارك ينطوي على حقين اثنين مثبتين في عنق كل من آمن بالله وآمن برسله وكتابه، أما الحق الأول منهما فالقيام بالعبادات المتميزة عن غيرها في هذا الشهر المبارك وفي مقدمتها صيام أيامه وقيام لياليه، وقد نبه البيان الإلهي إلى هذا الحق بقوله في محكم تبيانه: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[ [البقرة: 183] إلى آخر الآيات.


أما الحق الثاني فهو رعاية حرمة هذا الشهر ورعاية شعائره وعدم التعرض لشعائر هذا الشهر وقدسيته وحرمته بأي سوء وبأي ما يجرح أو يسيء أو يؤذي وقد نبه البيان الإلهي إلى هذا الحق الثاني ألا وهو رعاية شعائر هذا الشهر إذ قال: )شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[ [البقرة: 185]، الآية الأولى نبه فيها الله عز وجل إلى حق العبادة الكامن في أعناق الناس في هذا الشهر أما الآية الثانية فنبه الله عز وجل فيها إلى شعائر هذا الشهر وضرورة حراسته وعدم التعرض لحرمته وشعائره بأي سوء وصدق الله القائل: )ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[  [الحج: 32].


تعالوا يا عباد الله نقف وقفة قصيرة أمام كل من هذين الحقين الذي ينطوي عليهما هذا الشهر المبارك، العبادة المتميزة فيه عن العبادات الأخرى ما هي؟ هي الصوم أولاً يا عباد الله، وفيم تميز الصوم عن العبادات الأخرى حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال لنا في الحديث القدسي المتفق عليه: )كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به[، من أين انبثق هذا الفرق الكبير بين الصوم وبين العبادات الأخرى؟ سائر العبادات الأخرى عبادات ظاهرة تتلبس بالأعضاء حركة ذهاباً، إياباً، قياماً، قعوداً، أعمال مجلوة أمام الأبصار ومن ثم فإن قيادة هذه الطاعات وهذه العبادات بيد صاحبها، بإمكانه أن يجعلها صافية عن الشوائب وأن يتوجه بها إلى هدف واحد هو استنزال مرضاة الله فقط وبإمكانه أن يجعلها مطية لمغانمه ومصالحه وأهدافه الدنيوية أي بإمكانه أن يجعل أعماله كلها مراآة للناس، أما الصوم فهو عبادة سلبية لا يتراءى فيها شيء أمام الأنظار ومن ثم فإن الرياء لا يمكن أن يتسرب إلى صوم حقيقي صامه الإنسان من الصباح إلى المساء، لا يتأتى ذلك، المرائي الذي يري الناس أنه صائم سرعان ما يدخل إلى داره ويغلق الباب وراءه ويأكل ويشرب كما يشاء ومن ثم فهو ليس بصائم، أما ذاك الذي يصوم حقاً ويمسك عن الطعام والشراب من لمعة الفجر إلى المساء فلا يمكن إلا أن يكون عمله لله سبحانه وتعالى، هذا معنى حبيبنا المصطفى في الحديث القدسي يروي عن الله: )كل عمل ابن آدم له  -أي هو الذي يقوده، بإمكانه أن يجعله صافياً من الشوائب وبإمكانه أن يجعله مطية لرغائبه الدنيوية- إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به[


وإنني لأسأل الله لي ولكم أن يوفقنا لأداء هذه العبادة المتميزة عن سائر العبادات الأخرى على النحو الذي يرضيه وأسأله عز وجل أن يقلبها هدية منا ترتفع إلى علياء ربوبيته، تعالوا بنا إلى الحق الثاني، الحق المتمثل في حماية شعائر هذا الشهر، في حماية قدسية هذا الشهر، يتجلى واجب هذه الحماية الذي أناطه الله بأعناقنا يا عباد الله في أن ننبه أنفسنا وإخواننا جميعاً إلى أنه ما ينبغي أن تكون هنالك مجاهرة بالإفطار في الأسواق، في الميادين، في المرافق العامة المختلفة، المعصية التي يرتكبها الإنسان بينه وبين ربه سرعان ما يتوب الله عز وجل على فاعلها أما المعصية التي يجاهر بها الإنسان الناس بل يجاهر بها ربه فهي معصية خطيرة جداً تستنزل غضب الله عز وجل ربما لا على هذا المجاهر فقط بل الأمة كلها التي يوجد فيها هؤلاء المجاهِرون المُسْتَهْتَرُون، ينبغي أن يقال لهؤلاء المجاهرين، ينبغي أن يقال لكل واحد منهم يا هذا بوسعك أن تدخل دارك فتمارس معصيتك كما تشاء بينك وبين ربك ولربما غفرها الله لك أما أن تصر على أن تجاهر بهذه المعصية أمام الناس فإنه لون من أشنع ألوان الاستكبار على الله سبحانه وتعالى، ينبغي أن نتعاون جميعاً على أن نطهر أسواقنا، مرافقنا، مياديننا من هذه المجاهرة التي تستنزل غضب الرب.


المظهر الثاني الذي تتجلى فيه حماية قدسية هذا الشهر وحماية شعائره هي ضرورة ألا يستعلن أصحاب المقاهي وأصحاب المطاعم بأنشطتهم المخالفة لهذا الشهر، المخالفة للعبادة الأولى المتميزة في هذا الشهر، مقاهٍ تُنْثَر مناضدها وكراسيها أمام الناس، أمام الغادين والرائحين والكل ينظر إلى مظاهر اختراق الناس لعشيرة هذا الشهر، ينبغي ألا يستعلن هؤلاء الناس بأنشطتهم هذه في هذا الشهر، وأنا لا أقول ينبغي إغلاق المطاعم، هنالك مرضى وهنالك سائحون ومسافرون ولكن ينبغي أن تُحْجَزَ النوافذ والأبواب لهذه المطاعم عن رؤية الرائين، ينبغي أن تحجب هذه المطاعم وأن يحجب دخائلها عن رؤية الناظرين الذاهبين والآيبين، هذا مظهر من مظاهر حرمة الشعائر )ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[  [الحج:32].


شيء ثالث لا تتكامل رعاية شعائر هذا الشهر إلا به، لا تتكامل حماية قدسية هذا الشهر مظهراً إلا به هو ضرورة تنبيه أصحاب الأندية الليلية إلى أن يضعوا شيئاً من الكوابح  بينهم وبين غضب الله عز وجل في هذا الشهر المبارك، الأندية الليلية نحن لا نتحدث عنها في الأوقات العامة ولكن لابد أن نُذَكِّرَ أنفسنا ونذكر إخواننا جميعاً تذكرة تنبثق من حب، تذكرة تنبثق من غيرة نقول لهم أيها الإخوة في هذا الشهر المبارك أعرضوا عن نواديكم، توجهوا إلى الله، أصلحوا ما بينكم وبين الله، اجعلوا بينكم وبين الله إن لم أقل جسراً، اجعلوا بينكم وبين الله خيطاً لعل هذا الخيط يفيدكم عند الموت، لعل هذا الخيط يشدكم إلى رحمة الله عند الفوت، عند الرحيل من هذه الحياة الدنيا، ما لهذه النوادي تتكاثر ثم تتكاثر في ضواحي شامنا القدسية العزيزة.


أيها الإخوة ينبغي ألا نُحَمِّلَ مسؤولياتنا مشاجب غيرنا )وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[ [الأنعام: 164]، إنها مسؤولية كل فرد فرد فرد، أقولها لنفسي وأقولها لكم وأقولها لسائر الإخوة ينبغي أن نتقي غضب الله، هذا الذي أقوله لكم إن لم ننتبه إليه وإن لم نراعي شعائر هذا الشهر والقدسية المتلألئة لهذا الشهر فإننا نستنزل بذلك غضب الله وإذا تعرضت الأمة لغضب الله فحدث عن المصائب التي قد يبتليها الله سبحانه وتعالى من جراء هذا الغضب ولا حرج، نحن أمة نعاني من مشكلات، نحن في شامنا هذه متعَرَّضُون لكل أنواع الأذى بسبب مواقفنا الصامدة، بسبب استقامتنا على الواجب القدسي الذي أمر الله عز وجل به والذي تستلزمه حماية الأمة، حماية الأرض، حماية العرض، حماية حرية الذات ومن ثم فإن الخطط الرامية إلى الإيقاع بنا كثيرة يا عباد الله، ما الخلاص منها؟ لابد من القيام بالواجبات المادية والإعداد كما قال الله  )وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ[ [لأنفال: 60] 


لكن ذلك كله بمثابة الجسد، أرأيتم إلى جسد انفكت عنه روحه ماذا عسى أن يصنع هذا الجسد، روح هذه الجهود كلها إنما تتمثل في الالتجاء إلى الله، تعالوا بنا يا عباد الله نهتبل فرصة هذا الشهر المبارك نطرق باب الله بذل العبودية له وقد أُبْنَا جميعاً إليه واصطلحنا جميعاً معه وجددنا البيعة لمولانا الأجل الأوحد على كل المستويات، على كل الأصعدة نتضرع إليه، كلنا عبيد، كلنا مملوكون لله عز وجل نستنزل نصره، نستنزل رضاه، نستنزل إكرامه، نتعرض لاستجابته للدعاء، وشهر رمضان شهر الاستجابة للدعاء أيها الإخوة.


هما ثلاث آيات، الآية الأولى أمر الله سبحانه وتعالى فيها العباد بأداء حق العبادة في هذا الشهر، الآية الثانية أمر الله سبحانه وتعالى فيها عباده بحماية قدسية هذا الشهر، بحماية شعائر هذا الشهر، أما الآية الثالثة فهي بشارة من الله للعباد، هي هدية من الله للعباد عندما يصومون وعندما يرعون حق هذا الشهر )وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[ [البقرة: 186]، انظروا إلى تساوق هاتين الآمرتين ثم انظروا إلى الهدية التي يكرمنا الله عز وجل بها عندما نؤدي الواجب الأول ونؤدي الواجب الثاني، الدعاء مستجاب، الالتجاء إلى الله عز وجل مجاب، التجئوا إلى الله بصدق، أقولها لنفسي وأقولها لكم وأقولها لأمتنا جمعاء بدءاً من قادتنا إلى القاعدة الشعبية فيها تعالوا إلى باب الله )فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ[  [الذريات: 50]        


ولسوف تجدون مظاهر التوفيق، مظاهر الحماية، مظاهر التأييد بكل أنواعه يكرم الله عز وجل بها هذه الأمة أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي