مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 08/08/2008

منطق الاحتياط

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


أرأيتم إلى رجل أصيب بمرض عضال أقامه من الألم والضجر بين الموت والحياة، إنه يبحث جاهداً عن أي وسيلة يُقَال إنها قد تحقق له الشفاء، ويبحث جاهداً عن أي طبيب مهما سمت مصداقيته أو تدانت يُقَال إنه ربما كان على يديه الشفاء، يحتاط لنفسه هذا المريض، يطرق سائر الأبواب، ويخترق جميع الاحتمالات أملاً في الشفاء من الداء الذي يعاني منه، كذلكم المسلم الصادق في إسلامه الذي وجد نفسه مثقلاً تحت أعباء المعاصي والأوزار، رأى نفسه شارداً عن صراط الله عز وجل، تغلبت نفسه الأمارة بالسوء عليه، إنه يعاني-عندما يكون مسلماً صادقاً في إسلامه- من حياء شديدٍ من الله عز وجل، وخوفٍ شديد من عقابه، وإنه يظل خائفاً من أن يرحل إلى الله عز وجل وهو مدنس بأوزاره ومعاصيه هذه. ماذا يفعل هذا المسلم؟ هو الآخر يلجأ إلى كل باب من الأبواب المحتملة أن يكون في الولوج إليها مغفرة الله ورضوانه. ما يسمع من دعاء مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم صح سنده أو حسن أو ضعف إلا ويتخذ لنفسه ورداً من هذا الدعاء في البكور والآصال، وما يسمع عن عبادة أُثِرت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقيل له إن هو أقبل إليها متضرعاً ملتجئاً إلى الله سبحانه وتعالى صفح عنه أوزاره، وطهره من دنس معاصيه إلا ويلجأ إلى تلك الوسيلة. شأن هذا المسلم الذي وقع تحت أعباء المعاصي والأوزار كشأن ذلك المريض تماماً.    


هذا شأن كل مسلم يا عباد الله، لم يُحْبَس الإسلام فكراً في عقله، بل هيمن أيضاً وجداناً وعاطفة على فؤاده وقلبه، فكان قلبه فياضاً بالخوف من الله، بالتعظيم لحرمات الله، بالمحبة لله سبحانه وتعالى، والمؤمن مهما كان قبله مليئاً بمشاعر التعظيم الله سبحانه وتعالى غير معصوم، يمكن أن تزل به القدم، ويمكن أن يرتكب المعاصي والأوزار، إنه يحتاط لنفسه، إنه يطرق الأبواب كلها مهما كان الأمل قوياً أو ضعيفاً، إنه يتمسك بالمأثورات كلها مهما كان سندها قوياً أو ضعيفاً، هذا هو منطق الاحتياط يا عباد الله، هل في هذا الأمر من شك أو ريب.


أقول هذا -يا عباد الله- ونحن أمام فرصة من هذه الفرص التي ينتهزها العاصون من عباد الله عز وجل، وكلنا ذاك الرجل، ليس فينا من يستطيع أن يقول: إنه لم يتدنس بدنس المعاصي قط، إنها شهر شعبان المبارك، هذا الشهر الذي وردت أحاديث كثيرة في فضله، منها الصحيح المتفق عليه، ومنها الحسن، ومنها الضعيف، ولربما كان هنالك أحاديث متناهية في الضعف.    


ورد فيما رواه الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن رسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم، أي يكثر من الصيام، حتى نقول: ﴿إنه لن يفطر، وكان يفطر، أي يكثر من الإفطار، حتى نقول إنه لن يصوم، وما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر أكثر صوماً منه في هذا الشهر، أي في شهر شعبان﴾.    


وقد روى النسائي في سننه أنه صلى الله عليه وسلم سُئِل عن سبب إكثاره للصوم في شهر شعبان فقل: ﴿ذلك شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله، وأنا أحب أن يرتفع عملي إلى الله وأنا صائم﴾ وروى البيهقي في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فصلى، فسجد فأطال السجود، حتى ظننت أنه قد قُبِضَ، فقمت فحركت إصبعه فتحرك، فاطمأنت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: فسمعته يقول في سجوده: ﴿اللهم إني أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ بعافيتك من سخطك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك، فلما انتهى من صلاته قال لي: يا عائشة أظننت أن النبي قد خاسَ بك؟ قلت: لا يا رسول الله، ولكني ظننت أنك قد قبضت لطول سجودك، قال: أتدرين أي ليلة هذه؟ قالت: الله أعلم، قال: إنها ليلة النصف من شعبان، يطلع الله عز وجل فيها على عباده فيقول: ألا هل من مستغفر فأغفر له؟ ألا هل من داعٍ فأستجيب له؟ ويترك أهل الحقد كما هم﴾. يقول البيهقي: هذا الحديث من مراسيل العلاء عن عائشة رضي الله عنها، وهو إرسال جيد، ومع ذلك فلعل في هذا الحديث ضعف. وورد أيضاً فيما يرويه ابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ﴿إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها﴾. هذا حديث ضعيف ولربما كان بالغ الضعف.   


ولكنني أعود -يا عباد الله- إلى القاعدة التي انطلقنا منها، بل ينطلق منها كل إنسان وقع من أمره في ضنك إن كان ضنكاً يتعلق بالجسد كالأمراض، أو كان ضنكاً يتعلق بالروح وبصلة ما بينه وبين الله ماذا يصنع هذا الإنسان؟ إنه يحتاط لنفسه، ما يسمع من باب إن ولج فيه، ربما كان ولوجه في هذا الباب سبباً من أسباب شفائه الجسدي، أو مغفرة الله له من الذنوب إلا وولج في هذا الباب، ما يُذَكَّرَ بحديث صح أو حسن أو ضعف يتعلق مضمونه بدواء يتعلق بمرضه الذي يعاني منه إلا ويحتاط لنفسه، فيستعمل هذا الدواء الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن كان الحديث صحيحاً فإن إقباله على هذا الدواء الذي يتضمنه هذا الحديث سيجديه وسينفعه وسيكون سبباً لمغفرة الله له، وإن كان في الواقع ونفس الأمر حديثاً غير ثابت لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عبادة ساقه إليها حسن ظنه، ساقته إليها نيته ﴿وإنما الأعمال بالنيات﴾ كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.


أقول هذا وأنا أنصح إخواناً لنا إذا جاءت مناسبة هذا الشهر المبارك أو مناسبة ليلة النصف من شعبان ضيعوا أوقاتهم بالقيل والقال؛ إنه حديث ضعيف، وإن فلاناً قد قال فيه كذا، وفلان صححه، ولكن رُدَّ عليه بكذا وكذا وكذا، هذا تضييع للوقت يضحك الشيطان به علينا، نحن نعلم أنه ضعيف لكنه ليس موضوعاً، ومعنى الحديث الضعيف أن احتمال نطق رسول الله به وارد، ولكنه ربما كان نسبة عشرين بالمئة أو ثلاثين بالمئة أو ربما عشرة بالمئة إذاً أنا مريض، أنا أتمسك بهذا العشرين بالمئة، وأستجدي الله سبحانه وتعالى مغفرته لي، إن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك فلعل الله سبحانه وتعالى يشفع لي بحسن ظني.   


هذا منطق لا يناقش فيه أحد -يا عباد الله- أنا الآن، وأضرب المثل بنفسي بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ﴿من صلى عليَّ في ليلة الجمعة بهذه الصيغة؛ اللهم صل على محمد النبي الأمي الحبيب العالي القدر العظيم الجاه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. كنت أُلْحِدُهُ بيدي﴾. هذا حديث ضعيف، وأنا أعلم أنه ضعيف، لكن معنى أنه ضعيف أن احتمال أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاله وارد ولو كان بنسبة عشرة أو عشرين بالمئة. إنني عندما أسمع هذا الكلام لا بد أن أصلي في هذه الليلة الغراء على حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغة، وأنا أقول لربي: يا ربي قد بلغني عن رسولك أنه قال كذا، فإن كان قد قال ذلك حقاً فلأنل هذه المزية التي وعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن قد قال ذلك فاشفع لي بحسن ظني بأن رسولك محمداً قد قال هذا، وأكرمني بهذه المثوبة.    


المؤمن يا عباد الله أحد رجلين، رجل قد حُبِسَتْ حقائق الإيمان فكراً في عقله وبقي قلبه وعاءً للشهوات، للأهواء، للمصالح الشخصية الذاتية أو للعصبيات المذهبية، ورجل آخر غُرِسَتْ حقائق الإيمان يقيناً وعقيدة في عقله، ثم تحولت هذه العقيدة وجداناً إلى قلبه، أصبح قلبه وعاءً طاهراً يفيض بحب الله، يفيض بتعظيم الله، يفيض بالمخافة من الله، ذلك الشخص الأول يقف عند ما يسميه الأحاديث الضعيفة، يناقش ويزجي وقتاً طويلاً، يضيع وقتاً طويلاً في المناقشة في هذا الموضوع انتصاراً للذات، أجل انتصاراً للذات، أما هذا الإنسان الثاني الذي فاض قلبه -كما قلت لكم- حباً وتعظيماً ومخافةً من الله سبحانه وتعالى، فهو دائماً يقف أمام مرآة ذاته، ويحاسِبُ نفسه قبل أن يحاسَبَ، يعلم أنه مثقلاً بالأوزار والمعاصي حتى ولو أنه كان يؤدي الصلوات المكتوبة، ويؤدي الفرائض المكتوبة، هو يرى أنه لم يؤدَّها على النحو المطلوب، لم يرتقِ بها إلى مستوى أداء حقوق الله، ولاسيما وهو يقرأ كلام الله القائل: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: 60] 


أي يؤتون ما آتوا من العبادات، من الطاعات وقلوبهم وجلة، يقول الواحد منهم/ يا ربي هل قبلت صلاتي؟ هل قبلت صيامي؟ إنني لم أستطع أو أُأَدِّيَها كما ينبغي، إنني لم أستطع أن أرقى بها إلى مستوى حقوقك عليَّ وربوبيَّتِك لي، أجل إنه يخشى من أن يرحل إلى الله عز وجل وقد ردَّ طاعاته إليه في وجهه، هذا الإنسان يحتاط كذلك المريض، يحتاط، يتعلق بالأحاديث الضعيفة ما لم يكن فيها ما يخالف حكماً ثابتاً مقرراً في كتاب الله أو سنة رسول الله. أسأل الله عز وجل أن يوفقنا لأداء حقوق هذا الشهر المبارك، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل من الأوقات المباركة التي يتجلى فيها الله على عباده شفيعاً لنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي