مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 01/08/2008

الصراع بين الحق والباطل

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


قضى الله سبحانه وتعالى أن يكون هناك صراع دائب بين الحق والباطل، يبدأ مع بدء هذه الخليقة، ويستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هذا الصراع متفرع عن الصراع الذي شاءه الله عز وجل بين الخير والشر، وإن لذلك حكمةً باهرة يضيق هذا المقام عن ذكرها وبيانها. فلئن رأينا اليوم مظهر هذا الصراع مستشرياً بين الحق والباطل فلا يفاجَئَنَّ أحدٌ منا بذلك ولا يَرَيَنَّ في ذلك أمراً بدعاً من التاريخ، هي سلسلة مستمرة من سنة من سنن رب العالمين سبحانه وتعالى في عباده.


ولكننا عندما ننظر إلى الصراع الدائب الذي هو ثمرة هذه السنة الربانية في هذا العصر نكاد نرى أن الباطل محدق بالحق من سائر الجهات والأطراف، حتى لكأنه سيأخذ منه بالخناق، ولعل في الناس الذين يغارون على الحق ويؤمنون به من قد يخافون على الحق من الباطل، ولكن هذا الخوف ليس في محله أيها الإخوة، يردُّه قول الله سبحانه وتعالى )بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ[  [الأنبياء: 21/18]، وهذه أيضاً سنة من سنن رب العالمين ماضية في عباده، فالنصر دائماً للحق والذي يُزهق إنما هو الباطل.


وإذا كان لابد أن يساورنا الخوف في هذه الحالة فليساورنا الخوف على الحق من أنفسنا لا من الباطل الذي يحدق به، ينبغي أن يساورنا الخوف على الحق من معاصينا، من انحرافاتنا، من إعراضنا عن النهج الذي أمرنا به الله سبحانه وتعالى وأوصانا به. وانظروا يا عباد الله كم يتجلى هذا التنبيه الذي ألفت نظري وأنظاركم إليه في بيان الله سبحانه وتعالى القائل: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ[ [آل عمران: 3/100]، لم يقل الله سبحانه وتعالى يا أيها الذين آمنوا إن استشرى الباطل وهيمن على الحق فإن الباطل سيردكم إلى الكفر لكنه سبحانه وتعالى أناط الأمر بطاعة الكافري )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[ [آل عمران: 3/149]، فانظروا إلى أنفسكم وتبينوا سلوككم وموقفكم من وصايا الله وأوامره.


 والمراد بطاعة الذين كفروا ليس محصورة في مبايعة الكافرين جهراً، ولكن المراد بالطاعة اتباع سَنَنَهِم، السير على نهجهم، سيلان اللعاب على ما عندهم من الموبقات، هذا هو المراد بالطاعة، فلنتأمل كيف أن الله عز وجل يوصينا عندما نرى هذا الخطر أن نخاف على الحق من أنفسنا، نحن السبب، لا أن نخاف على الحق من الباطل، لن يستطيع الباطل هيمنة وتغلباً على الحق أبداً بشكل من الأشكال، ثم انظروا كيف يجلوا هذا المعنى في الآية التي تليها: )بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ[ [آل عمران: 3/150]، ليس بينكم وبين انتصار الحق سوى أن تتولوا الله سبحانه وتعالى، أن تعرضوا عن طاعة أعدائكم والسير وراءهم وأن تتولوا مولاكم الأوحد الذي خلقكم والذي منه البداءة وإليه الانتهاء والمصير )بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ[  [آل عمران: 3/150].


    عباد الله إننا ننظر اليوم فنجد كما قد قلت لكم أن الباطل يحدق بالحق من سائر الأطراف، وهذا الذي يبعث وسواساً في أذهان كثير من الناس، مؤداه أن الباطل قد انتصر أو كاد أن ينتصر على الحق. أعود فأقول لكم: إن كانت هنالك مخافة فلتكن مخافة على الحق من أنفسنا، هنالك سلسلة من الأخطاء تورطنا فيها هي السبب في هذا الذي حاق بنا، فلئن بقينا عاكفين على هذه الأخطاء فلسوف ينتصر الحق ولكن بأيدي أمة أخرى )وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[ [محمد: 47/38]، وإن عدنا إلى النهج الأمثل فلسوف تجدون أن الحق قد انتصر، وهو لابد أن ينتصر، ولسوف يكون ذلك بيد هذه الأمة، وما أشبه الليلة بالبارحة، أخطاؤنا كثيرة وينبغي أن نمر على نماذج منها، من هذه الأخطاء أن الله عز وجل نهانا عن التنازع والتفرق قال: )وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[ [لأنفال: 8/46]، أمرنا بالاعتصام بالمحور الأوحد وهو حبل الله عز وجل ولكنا أعرضنا عن الذي أمرنا به الله، آثرنا التنازع والشقاق على الاتفاق والوئام، ولعل هذا الخطاب يتجه أول ما يتجه إلى قادة الأمة، إلى قادة المسلمين، وننظر فنجد في قادة المسلمين من إذا تلاقوا تسابقوا بالمصافحة والعناق، فإذا تفرقوا عانق كل واحد منهم مصالحه ومتعه وأهواءه.


 من الأخطاء التي وقعنا فيها أن الله سبحانه وتعالى حذرنا من أن نغتر بزهرة الحياة الدنيا متمثلة فيما نسيمه دائماً الحضارة الغربية، وحذرنا وكرر التحذير قال لنا: )قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً[ [النساء: 4/77]  )لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ[ [آل عمران: 3/196-197]، أعرضنا عن هذه الوصية الربانية، وسال لعابنا على ما عند العدو، وليت أن اللعاب سال على الحق الذي عندهم، على المجدي التي تقوم عليه الحضارة في حياتهم، ولكن لعابنا، أو لعاب الكثيرين منا، سال على التافه الذي عند الغربيين وهكذا أعرضنا عن بيان الله عز وجل، بل لم نكتف بذلك، رفعنا شعار الحداثة دعوة إلى نبذ الماضي وثوابته، ولحاقاً وراء الحداثة ونسيج كل جديد.


حذرنا الله سبحانه وتعالى من أن نخون أمانة الشريعة الإسلامية التي اتأمننا عليها أحكاماً ومبادئ وعظات، حذرنا من أن نستبدل بها، ولكننا أمعنا في التغيير والتبديل، كانت الفتوى -يا عباد الله- في صدر الإسلام من أشد ما يرهب علماء الشريعة الإسلامية وأئمة الإسلام، يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ وفد إلى إمام دار الهجرة الإمام مالك رجل من أقصى المغرب يحمل في جعبته أسئلة له، ولما بدأ يعرض أسئلته عليه أجاب عن ثلة يسيرة منها، وقال على الباقي: لا أعلم، قال له السائل: أأعود من حيث جئت؟ فماذا أقول لمن يسألونني ماذا قال لك الإمام مالك؟ قال: قل لهم: يقول لكم مالك: لا أعلم، أما اليوم فأحسب أننا لا نجد شيئاً أيسر على فم أي واحد منا أن يفتي، لقد غدت الفتوى التي تسوق حسب الطلب أيسر من شرب الماء البارد على الكبد الظمآن، وربنا عز وجل يقول: )وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً[ [الأحزاب: 32/23] عن ذلك الرعيل الأول ومفهوم المخالفة ينطبق علينا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في نهاية الحديث الذي يرويه مالك: )ألا ليزادن رجال عن حوضي كما يزاد البعير الضال، فأقول: ألا هلم ألا هلم، فيقال: إنك لا تدري كم بدلوا من بعدك، أقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً[.


أخطأنا في الشعائر التي أمرنا الله عز وجل بتعظيمها: )ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[ [الحج: 22/32] وشعائر الله التي استخففنا بها وأهملناها كثيرة، لكن من أبرزها كتاب الله سبحانه وتعالى، أما الرعيل الأول فلا أعلم أنهم أغرقوه في ألوان من البذخ في إخراجه وكتابته وتجليده وما إلى ذلك، ولكنه كان ملء قلوبهم تعظيماً وتبجيلاً وتنفيذاً لأوامره، أما نحن فإننا اليوم نتسابق إلى التفنن في بذخ هذا الكتاب الرباني، وإخراجه متفننين في ألوان الألق الظاهر في طباعته وتجليده ومظاهره، نجعل منه التعبير عن مناسباتنا كلما مرت، ونجعل منه التعبير عن أفراحنا كلما حلَّت في دورنا، فإذا عدنا إلى أفئدتنا ومركز هذا الكتاب الرباني منها نجد أن قيمة هذا الكتاب غائبة عن أفئدتنا إلا من رحم ربك، أين الذين ينفذون أوامره؟ أين الذين يطبقون أحكامه؟ أين الذين إذا رأوه هيمنت مخافة الله سبحانه وتعالى على قلوبهم.


هذه الأخطاء -أيها الإخوة- هي التي ينبغي أن نخاف منها عندما نريد أن نخاف على الحق ومصيره. الحق أبلج، ولا يمكن أن يغلب، لكن يمكن أن نُغْلَبَ نحن في سياق دفاعنا عن الحق     لعل فينا من يسأل إذاً، وبالإجابة عن ذلك أنهي كلمتي هذه لكم، كيف السبيل إلى أن نتوقى هذه الأخطاء؟ السبيل أيها الإخوة أن يكون إسلامنا تأسيساً في القلب، ثم عمارة على الظاهر والألسن، هذا هو باختصار. الإسلام الذي له معنى واحد يبرز في الكيان كلاماً وسلوكاً دون أن تكون له جذور مستقرة في القلب أشبه ببناء باسق ليس له أساس في باطن الأرض، هل تنتظر به إلا الدمار والزوال؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟ السبيل إلى ذلك أن تعمر محبة الله عز وجل قلوبنا. الإيمان العقلي واجب لكنه لا يكفي، هو مصباح للإنارة في طريقك، والمصباح لا يحركك، إنما الوقود هو الذي يحركك، والوقود هو الحب. املؤوا قلوبكم ولتملأ هذه الأمة قادة وشعوباً أفئدتها بمحبة الله عز وجل وبتعظيمه تذوب هذه الأخطاء كلها.


أسأل الله عز وجل أن يعمر قلوبنا بحبه، بتعظيمه، بمهابته، أقول قولي هذا وأستغفر الله.

تحميل



تشغيل

صوتي