مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 18/07/2008

صلاح الأمة وفسادها

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


إن من الحقائق التي لا تقبل الريب أن صلاح الأمة، أياً كانت، رهن برسوخ هويتها وأن فساد الأمة، أياً كانت، رهن بضياع هويتها ومن ثم فإن الاهتمام بالهوية والعمل على رعايتها من أهم المحاور الأساسية في حياة الإنسان ومن ثم فإن العمل على حماية هذه الهوية وتغذيتها هو السبيل إلى تحقيق الصلاح بكل ما تشمله هذه الكلمة من معنى، وإن عدم الاكتراث بالهوية وعدم الاهتمام بها هو السبب المباشِر للفساد بكل ما في هذه الكلمة من معنى وبكل ما تشمله كلمة الفساد من أنواع.


ولكن ما هي الهوية يا عباد الله؟ يقول العلماء أن هوية الشيء هي الذاتيات التي يتحقق ذلك الشيء بها، هوية الشيء هي الذاتيات التي تدخل في قِوام الشيء وتبقي ببقائه، أما ما وراء ذلك من الأعراض فقد يلتبس على كثير من الناس أنها من الهوية وهي ليست كذلك، إن الأثاث والفرش في الدار ليس شيء منهما من هوية الدار، وإن الطلاء الذي تزدهي به الدار ليس من هوية الدار في شيء لأن الطلاء يأتي ويذهب وإن الفرش والأثاث كل ذلك يأتي ويتطور ويتغير أما هوية الدار فهي الغرف التي تتألف منها وهي الجدران والسقوف تلك هي هوية الدار، إذا عرفنا هذا المثال يا عباد الله فلنعلم أن ما تتمتع به الأمة من القوميات والأعراق ليس داخلاً في معنى الهوية الإنسانية قط لأن الإنسان يرحل من هذه الحياة الدنيا وقد تركته أعراقه وقد تركته قوميته، يرحل عن هذه الدنيا وقد ودعته إلى غير رجعةٍ أو لقاء، إن ما قد نتمتع به من غنى أو ما نعانيه من فقر، إن ما نتمتع به من علم أن ما نعانيه من جهل، إن ما نمتع به من قوة أو ما نعانيه من ضعف ليس شيء من ذلك داخلاً في معنى هوية الإنسان أبداً، غداً سنرحل من هذه الحياة الدنيا وقد ودعتنا هذه الصفات والأعراض كلها، ننظر ونلتفت فلا نجد ظلاً للغنى الذي كنا نتمتع به أو حتى للفقر الذي كنا نعانيه، نلتفت ونبحث فلا نجد ظلاً للقوة أو الضعف الذي كان صفة من صفاتنا وإنما نرحل من هذه الحياة الدنيا إلى الله بهوياتنا، بذاتيتنا.


فما هي هوية الإنسان يا عباد الله إذا عرفنا الفرق بينها وبين الصفات والأعراض؟ هوية الإنسان مملوكيته لمن أبدعه وكونه، هوية الإنسان عبوديته لمن هو ملك له، لمن يأخذ بناصيته ويفعل به ما يشاء، تلك هي هوية الإنسان، وبهذه الهوية نرحل إلى الله سبحانه وتعالى، وصدق الله عز وجل القائل: )إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً[ [مريم: 93-95] عارياً عن الصفات التي كان يتباهى بها، عارياً عن الأعراق والقوميات التي كان ينتمي إليها، عارياً عن كل شيء إلا عن هوية مملوكيته لله، وصدق الله القائل: )أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً، كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً[ [مريم: 77-79]، هذه الحقيقة التي يضعنا بيان الله سبحانه وتعالى أمامها ينبغي أن نحتفي بها أيما احتفاء، ينبغي أن نفرق بين الهوية والذات التي لن تفارقنا إلا إلى يوم وقوفنا بين يدي الله عز وجل وبين الصفات والأعراض التي تأتي وتذهب وكثيراً ما يخدع الإنسان بها.


إذا عرفنا هذه الحقيقة يا عباد الله فما الذي يجب علينا فعله في حياتنا الدنيا هذه؟ يجب علينا أن نبذل كل ما نملك لحماية هذه الهوية ولتغذيتها بكل الوسائل التي تضمن حويتها وتضمن أن تكون لها القيادة في حياتنا وتضمن تغلبها على الأعراض والصفات الآتية والذاهبة في حياتنا هذه، ينبغي لنا على كل المستويات أن نبذل كل ما نملك لتغذية هذه الهوية على النحو الذي ذكرت وللغاية التي أوضحت.


لكن ما هو الغذاء الأمثل بل ربما الأوحد لحماية هذه الهوية، هوية المملوكية لله، العبودية لله عز وجل؟ إن غذاء هذه الهوية يتمثل في التربية، التربية التي يتلقاها الإنسان منذ نعومة أظفاره، وإن المجتمع هو الذي يتقاسم عبء هذه التربية متمثلاً في المدارس ومتمثلاً في الإعلان ومتمثلاً في البيوتات ومتمثلاً في الثقافة، وأقول هنا إن علينا كلما تحدثنا عن الثقافة أن نعلم أن الثقافة لكي تكون ثقافة حقيقية منسجمة مع ذاتية الإنسان ينبغي أن تكون متناغمة مع هذه الهوية، ثقافتنا ينبغي أن تكون متناغمة مع هويتنا أننا مملوكون لله، أننا عبيدٌ لله وسنرحل إليه بهذه الهوية عارية عن كل الأعراض والصفات الأخرى، فإذا تلقى الأفراد هذه التربية على هذه المستويات فإن ثمرات جُلَّى ستتحقق في المجتمع من وراء ذلك، ستتحقق العدالة التي لا يمكن أن ترى نظيراً لها في أي بقعة من بقاع العالم خارج البقعة التي تتلقى هذه التربية تغذية للذاتية الإنسانية، من ثمرات هذه التربية المساواة الحقيقية لا الخادعة الكاذبة التي تسمعون عنها أسماء وعناوين وتفتقدونها مسميات وحقائق، من ثمرات هذه التربية للهوية الإنسانية تربية كينونة الإنسان عبداً مملوكاً لله عز وجل تحقُّقُ الأخلاق الإنسانية العظمى.


تأملوا يا عباد الله في مجتمع إنساني إسلامي تربى أفراده ونشئوا في ظلال هذه التربية، تلقت هوية كل منهم هذه التربية من نعومة الأظفار، انظروا تجدون أن هذا المجتمع يتميز بهذه الصفات الجُلَّى، وما تاريخنا القريب والبعيد إلا شاهداً يؤكد هذه الحقيقة التي أقولها لكم، أأضرب لكم أمثلة والوقت يضيق عن ذلك يا عباد الله؟ لكن تعالوا إلى هذا المشهد الذي هو ثمرة من ثمرات الهوية التي تلقت غذائها، عمرو ابن العاص كان والياً على مصر، قامت خصومة بين ابنه وبين أحد شباب الأقباط من أهل مصر في فرس كان لهذا الشاب القبطي فأوسع ابن عَمْرِ بن العاص الشاب القبطي ضرباً بسوط كان معه وقال له خذها وأنا ابن الأكرَمَيْن فما كان من هذا الشاب إلا أن اتجه إلى المدينة المنورة يشكو أمره إلى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب، استقدم عمر بن الخطاب عَمْرَ بن العاص وابنه وأحسن وفادة هذا الشاب واستبقاه عنده، يقول أنس بن مالك: فإني في ذات يوم من الأيام عند أميرِ المؤمنين عمر وإذا بِعَمْرِ بن العاص وابنه يدخلان عليه، قال عمر: عَلَيَّ بالشاب المصري فأقبل الشاب يقول هاأنذا، أعطاه عمر الدرة وقال له: اضرب بها ابن الأكْرَمَيْن ثم إنه قال للشاب وجُلْ بها على صلعة عَمْرِ بن العاص فإنه ما فعل ذلك به إلا لسلطان أبيه ثم التفت إلى عَمْرِ وقال له: أيا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، ربما قال قائل أيها الإخوة إنها مكرمة تميز بها عمر وإنها خصيصة ذكرها التاريخ لشخص عمر، لا أيها الإخوة، إنها مزية للإسلام، إنها مزية للهوية الإنسانية عندما تتلقى غذاءها من هذه التربية التي حدثتكم عنها، عندما يتلقى العبد الذي عرف نفسه مملوكاً لله سبحانه وتعالى ثم تلقى التربية التي تغذي هذه الحقيقة منذ نعومة أظفاره عن طريق المدرسة، عن طريق الإعلان، عن طريق البيوت، عن طريق الثقافة لابد أن يكون كل واحد، كل فرد فرد في أمره وسلوكه وتعامله مثلَ عمر، هذا هو ديننا، هذه هي حقيقة العدالة اسم ومُسَمَّى، هذه هي حقيقة المساواة إعلان وعنوان ومن تحت ذلك العنوان المصداق الدقيق لهذا الإعلان والعنوان.


أتريدون يا عباد الله أن نبرز هذه الحقيقة للعالم وأن نجعل من بروزها مع الصمت دعوة للناس جميعاً للدخول إلى رحاب هذه الهوية والتحقق بها؟ ليس بيننا وبين ذلك إلا أن نحقق مجتمعنا بهذه التربية إلا أن نعود إلى نَشْئِنِا فنغذيه بهذه التربية الحقيقية، ماذا أصنع بالمال الوفير إذا كنت سأرحل وقد ودعني؟ ماذا أصنع بالعلوم الجمة إذا كنت سأرحل عن هذه الدنيا وقد تخلت عني هذه العلوم كلها؟ ماذا أصنع بالقوة التي أسكر بها وأتباهى بها إذا كنت غداً سأرحل عن هذه الدنيا وكل كياني ضعف من الفرق إلى القدم؟ ماذا أصنع بذلك كله إذا كان عرضاً وظلاً زائلاً ولن أرحل إلى الله إلا بهويتي عبداً عبداً عبداً مملوكاً لله؟ وصدق الله القائل: )إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً[ [مريم: 93-95].


أقول قوله هذا وأستغفر الله.

تحميل



تشغيل

صوتي