مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 04/07/2008

الفتن والنجاة منها

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


ينبغي أن نعلم جميعاً أن سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الاستعاذة بالله من الفتن وكان يُحَذِّرُ منها في كل مناسبة وكان من دعائه في نهاية كل صلاة )اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال[، وقد روي عنه عن طريق أنس بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم قال: الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها، وها نحن نرى يا عباد الله كيف أن نيران الفتن تنقدح اليوم في جنبات الأرض، وها نحن نرى هذه الفتن كيف تطوف بنا من قريب أو بعيد، حتى إن هذه الفتن أصبحت الرصيد الأوحد للأخبار الإذاعية التي تتلقاها الآذان أو تتلقاها الأبصار، هو الرصيد الوحيد لهذه الأخبار التي ما تفتأ تتحدث عن الإنسانية المهيضة، عن الإنسانية المكلومة في جنبات الأرض، وهل تسمعون في ساعة من الساعات خبراً إلا من هذا النوع يا عباد الله؟!


هذه حقيقة ينبغي أولاً أن نتبينها ثم ينبغي أن نعلم أن هذه الفتن لا تأتي مصادفة ولا تسوقها رياح العشوائية وإنما هي نتيجة خطط يرسمها العدو المشترك بين يدي استلاب الحقوق والقضاء على الأوطان واستلاب الثروات المتنوعة على اختلافها والقضاء على بقايا الحضارة الإنسانية المثلى التي تتملكها أمتنا، فهي خطط مرسومة وليست مصادفة جاءت بها رياح العشوائية، ولأضرب لكم بعض الأمثلة، إن بغداد ما سقطت، إن جاز هذا التعبير، إلا بعد مقدمات من الفتن خُطِّطَ لها، أُلِّبَ فيها على الأصدقاء وعلى الإخوة، حُوِّلَتْ علاقة الود السارية فيما بينهم إلى عداوة وبغضاء، حُوِّلَتْ علاقة التعاون السارية بين الفئات والجماعات إلى تدابر وبغضاء وتحطيم حتى إذا استحرت هذه الفتن وأصيبت بغداد بالدوار وفقدت القدرة على التحكم انقض العدو المشترك ليجعل منها فريسة ينهشها وها هو إذا إلى اليوم يجتمعون فئات على نهشها بعد أن تم القضاء عليها.


فلسطين يا عباد الله ما اغتصبت وما أصبحت نهبة بين يدي رعاع الدنيا إلا بعد أن تمت إليها مقدمة من هذه الفتن التي تم النفخ المستمر المتواصل في أوارها حتى إذا تحققت الخطة وتحولت المودة السارية ما بين الأشقاء إلى وقيعة وتحول التعاون الذي كان سارياً ما بين الفئات إلى تدابر وبغضاء استطاع من ثَمَّ العدو المشترك أن ينتهبها وأن يجعلها فريسة وأن توزع فلسطين بين يدي رعاع الدنيا كما قلت لكم وهؤلاء الغاصبين.


وأنتم تعلمون يا عباد الله أن في الحيوانات المفترسة أنواعاً لا تستطيع أن تنقض على فريستها إلا بعد أن تزجها في دوار حتى إذا فقدت هذه الفريسة القدرة على التوازن ووقعت في الدوار انقضت عليها، واليوم هذه الخطة تتجه إلى لبناننا الشقيق أيضاً، فها هي ذي الوسائل ليل نهار تسعى لتنفيذ هذه الخطة، إثارة نيران الفتنة التي تمت في بغداد وفلسطين وأفغانستان وفي أماكن كثيرة أخرى، ها هي ذي المحاولة ذاتُها تستمر صباح مساء وها هو ذا الغراب الأسود يتردد ما بين لبنان وما وراء البحار مرة تلو المرة من أجل أن ينفخ في نيران البغضاء، من أجل أن يعمد إلى كل تعددية، تعددية متعاونة، تعددية بناءة، يسعى هذا الغرب سعيه ليحيلها إلى تعددية مخربة، إلى تعددية تتحول إلى بركان فتنة، يسعى هذا العدو المشترك إلى تحويل تعددية المذاهب، وهي حقيقة ما كانت في يوم من الأيام أداة تخريب بل كانت سُلَّمَاً إلى تعاون لكنه يحاول أن يجعل منها أداة فتنة وأداة تدمير، تعددية المذاهب، تعددية الفرق، تعددية الاتجاهات السياسية المختلفة كل ذلك ننظر فنتبين هذا المعنى الذي أقوله لكم والذي حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته منه، إن هذا العدو المشترك ينفخ في نيران هذه الفتنة بعد أن نفخ فيها طويلاً في بغداد وفي فلسطين وفي أماكن أخرى.


الآن جاء دور لبنان من أجل أن يحول لبنان إلى بوابة كما قد قلت لكم بالأمس تنفذ منها الصهيونية العالمية بسلطانها الذي تحلم به إلى هذا العالم أجمع، هذه حقيقة ينبغي أن نتبينها يا عباد الله، وإذا تَبَيَّنَ لنا هذا المعنى فإن بوسعنا أن ندرك أن الأمة تملك السلاح تحصن به نفسها من كل مغبة من مغبات هذا العدوان الذي يتربص بنا الدوائر، أن نغلق باب الفتنة، أن نحيل بين هذا العدو المشترك والوصول إلى ما يبتغيه من تحويل علاقات الود بين الإخوة إلى بغضاء، من تحويل علاقات التعاون بين الفئات والجماعات إلى تدابر وشقاق، فإنا إن فعلنا ذلك، وسبيل ذلك ميسور كما سأقوله الآن فإن هذا العدو مهما حاول أن يطوف ثم يطوف لن يجد منفذاً يتسرب منه إلينا بأي وقيعة بل بأي اغتصاب.


ما الدواء يا عباد الله؟ هذا السؤال طُرِحَ على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكان جوابه هو هذا الذي قاله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه علي كرم الله وجهه، قال عليه الصلاة والسلام النجاة منها أي من الفتن كتاب الله فيه خبر من قبلكم ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم، من أعرض عنه من جبار قصمه الله ومن اهتدى به هداه الله سبحانه وتعالى، هذا هو العلاج، ولكن هذا العلاج الذي نبهنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كتاب الله لا تتمثل الاستجابة له في الإكثار من طبعاته ولا في الإكثار من الهدايا التي نتوجه بها إلى الناس إذ ندعوهم إلى العقود أو الأعراس، لا تتمثل الاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أن نصغي إليه وهو يُتلى في الإذاعات المرئية أو المسموعة أو أن نسمعه عرضاً في أمسية تعزية ونحو ذلك وإنما يقصد المصطفى صلى الله عليه وسلم أن نتلوه فنتدبره فننفذ وصاياه.


هذه الفتن ليست حديثة العهد بل هي موجودة منذ أن وجد العدوان فوق هذه الأرض، منذ أن وجدت قوى الشر، ولقد ألَّفَ الإسلام بين قبيلتين طالما كانتا متحاربتين هما الأوس والخزرج، تحولتا إلى مثال للود والتعاون والوحدة ولكن اليهود الذين كانوا يعيشون بين ظهراني المسلمين تجمعهم حياة مشتركة ويجمعهم السلم المشترك الذي كانت ترعاه عين الإسلام ضاقوا ذرعاً بهذا فأقبل رجل اسمه شاس بن قيس يحاول أن يؤلب الأوس على الخزرج والخزرج على الأوس في أمور وطريقة من الخبث كانت ولا تزال هي رأس مال هذه الفئة إلى أن تقوم الساعة، فنسي لدقائق هؤلاء الإخوة الذي وحدهم الله، وحدهم الإسلام، نسوا هذه النعمة واهتاجت لدقائق معدودة عوامل البغضاء فيما بينهم ولكن كتاب الله عز وجل سرعان ما صهر هذا الشعور فيهم، ما ذَوَّبَ هذا الشعور فيهم وأعادهم إلى هذه النعمة التي أغدقها الله عز وجل عليهم فأقبلوا يتعانقون وأقبل الواحد منهم يعتذر لأخيه ونزل قول الله عز وجل: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[ [آل عمران: 100-101]  إلى أن قال: )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا[ [آل عمران: 103].


ما أشبه الليلة بالبارحة يا عباد الله، ما الفرق بين ذلك الرعيل الأول وبيننا نحن؟ المسلمين في هذا العصر، الوسائل التي كانت تستعمل بالأمس للإيقاع ولإثارة براكين الفتنة هي ذاتها التي تستثار اليوم، فلماذا استطاع أولئك أن يتساموا فوقها ولماذا عجزنا نحن عن ذلك؟ سلوا أنفسكم هذا السؤال تعلمون الجواب.


يا عباد الله إن الذي ينجي هذه الأمة من الفتن ومن ثم ينجيها من الدمار والهلاك إنما هو الرجوع إلى وصايا كتاب الله عز وجل، يقول لنا كتاب الله عز وجل إن هنالك ثلاث دوائر كل دائرة تقي من فيها من الفتن أياً كانت، الدائرة الأولى دائرة الأمة الإسلامية، على المسلمين مهما اختلفت مذاهبهم، مهما تعددت فرقهم أن يجتمعوا تحت مظلة هذا الإسلام وأن يذيبوا فوارق ما بينهم وإذا بالفتنة ابتعدت عنهم، الدائرة التي تليها والتي هي أوسع منها هي دائرة الأديان المتعددة التي تلتقي وتنتهي عند جذع من الدين الواحد، في هذه الحالة على هؤلاء الذين فرقتهم الأديان السماوية المتعددة ولكنها تنتمي كما قلت لكم إلى جذع واحد عليهم أن يجعلوا من هذا الجذع الجامع وقاية لهم ضد كل فرقة، وقاية لهم ضد كل فتنة، لئن تعدد الدين في حياتهم وفي سلوكاتهم فليذكروا أن الجذع واحد، أن المصدر واحد، فهذه هي الدائرة الثانية، والدائرة الثالثة وقد نبه إليها بيان الله عز وجل هي الدائرة الإنسانية، فإن كان في الأمة من لا ينتمي إلى إسلام ولا إلى دين ولا شيءٍ آخر وهو يعيش بين ظهراني هذه الأمة فليعلم أنه ينتمي إلى دائرة واسعة جداً هي الإنسانية التي قدس الله سبحانه وتعالى حقوقها أيما تقديس ونبهنا بيان الله عز وجل إلى ضرورة رعايتها عندما عبَّر عنها بالأسرة الإنسانية: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً[ [النساء: 1]، الأرحام أي الرحم الإنساني، أرأيتم إلى كتاب الله عز وجل كيف يكون هو العاصم لنا من الفتن كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.


عباد الله من رأى العبرة في غيره فليعتبر، ها أنتم ترون كيف أن عدونا المشترك يسعى سعيه اللاهث إلى إيقاظ نيران الفتنة بل إلى تفجير براكين الفتنة على مقربة منا، بين من، بين الأشقاء، بين فئات اختلفت مذاهبهم، حسناً لكنهم ينتمون إلى جذعٍ واحدٍ من العبودية لله عز وجل ومن الالتفاف على دين الله سبحانه وتعالى، إن هذا العدو يسعى سعيه اللاهث من أجل القضاء على بقايا حضارتنا، من أجل القضاء على بقايا الثروات التي لم تطلها بعد يد هذا العدو المشترك فعودوا إلى كتاب الله، عوداً إلى كتاب الله أيها الأمة، أقولها لكل الفئات عوداً إلى كتاب الله تمسكوا به، عودوا إليه، تدبروه، نفذوا وصاياه.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. 

تحميل



تشغيل

صوتي